الدخول الجامعي لجاليتنا في أوروبا و المساجد الطلابية: معلومات للتاريخ نسمعها لأول مرة عن أول مسجد طلبة وصاحب فكرته

محمد مصطفى حابس: جنيف/سويسرا/
إن الاهتمام بالمبادئ والشخصيات والمحطات التاريخية التي اسست نظما و دولا، بل و أمما، له من المعاني والدلالات الشيء الكثير في استنهاض الهمم وإحياء مناقب الأسلاف وما أنجزوه، بل فيه بعث وتتويج لماضي الأجداد الحافل بالخبرات والعبر التي بصمت التاريخ عند الشعوب المتحضرة، عبر حلقات متراصة الفصول يشد بعضها البعض الآخر، ويحمي حاضرها ماضيها ويستشرف مستقبلها بثقة وأمل كبيرين، ومن باب الاعتراف التاريخي وجب التنويه بإنجازات الأقوام الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل تأسيس دولهم وفق دساتير و نظم و مشاريع تخدم البلاد والعباد.
من هذه المشاريع ونحن مقبلون على الدخول الاجتماعي والجامعي الجديد، مسجد الإقامة الجامعية أومسجد الطلبة كما يعرف منذ عقود، الذي لازال لحد الآن في الغرب محل صراع وجود بالنسبة لطلبتنا في بعض الجامعات الغربية، ذلك ما استوقفنا هذه الأيام ونحن نزورجاليتنا المسلمة في بعض العواصم الأوروبية، مرورا بمساجدها الطلابية اوقاعات الصلاة كما تسمى أحيانا، وبعضها يسمى قاعات متعددة الصلاحيات، وسميت بهذا الاسم لأنها مخصصة للعبادات بمواقيت مبرمجة وفق ديانات الطلبة كالبوذية والمسيحية بشقيها والإسلام ورغم ان جل طلبة الأديان أخرى نادرا ما يستعملون قاعة الصلاة، إلا أن الجالية المسلمة تستطيع بأريحية أداء جل صلواتها، بما فيه الجمعة، وهذا مكسب عظيم يحسدون عليه في فرنسا وبعض الدول التي لا توفر للطلبة مثل هذه القاعات!!
أول مسجد طلابي «أسس على التقوى من اول يوم»
ونحن نزور هذه المساجد الطلابية مذكرين طلبتنا الجدد بسرد تاريخي ملهم ومهم، من سيرة الرسول ورسالته الخاتمة، في قول الله تعالى في سورة التوبة : «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108، ولما، سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا المسجد، قال مسجد (قباء) قد «أُسِّسَ على التقوى من أول يوم»، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسس هوأيضًا على التقوى من أول يوم، فكلا المسجدين أسس على التقوى من أول يوم ، كما جاء في الحديث.
وعن جيل الصحوة الأولى في جزائر ما بعد الاستقلال، ذكرناهم أيضا بالسنة الحميدة في فتح المساجد الطلابية داخل الجامعات في العالم العربي والغربي، هذا الأخير الذي لا تزال بعض جامعاته كفرنسا، تعارض على استحياء السماح للطلبة المسلمين أن تكون لهم معابدهم الخاصة، مثل أقرانهم المسيحيين حتى في بلد يزعم أنه « لائكي / علماني»، علما أن كل الجامعات الغربية فيها أوبجوارها «كنائس» تخص المسيحيين لا غير، وفيهم من خصص أماكن للعبادة لكل الديانات لكن وفق مواقيت محددة وغير مناسبة في عمومها للمسلمين الذين يصلون خمسة صلوات في اليوم!!
بينَّا لطلبتنا الجدد انه، تاريخيا في عصرنا الحالي وفي جزائر الاستقلال، أول المساجد الطلابية، في الإقامة الجامعية أوالحي الجامعي، الذي يعود فضله إلى الجزائر، هو«مسجد طلبة جامعة الجزائر المركزية» الذي أسس على تقوى من الله، عام 1968 بإيعاز من المفكر الإسلامي مالك بن نبي رحمه الله، كما هومعروف، ويعد من أوائل المساجد الطلابية في العالم قاطبة، إن لم يكن الأول في عالمنا العربي والإسلامي عموما، والذي كان له الأثر البليغ في استعادة الطالب الجزائري دينه ولغته ووطنيته، بعد أن طمستها فرنسا بداية وأجهزت عليها المنظمات الشيوعية والفرنكوفونية في عهد الاستقلال الأول للجزائر، مستهدفة بذلك ما بقي من هويته، لذلك كان لحضور المسجد في الجامعة أثره الفكري في تصحيح المسار الأكاديمي والعلمي الذي قام على أسس العلمانية والإلحاد. وقد أصبح بفضل الله وبفضل تلك المساجد، المتخرجون من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين يقومون بواجباتهم الدينية من صلاة وصيام وامتناع عن الخمور والرقص والمجون.. فقد أخذوا قسطا من معارف دينهم دون أن يثنيهم ذلك عن أن يتميزوا في دراستهم ومهنهم. وأن يرتبطوا بمجتمعهم دون أن يستعلوا بشهاداتهم الجامعية. فقد كان الزمن الأول من الجامعة المستقلة يخرج نماذج أخرى كثيرا ما تنقاد وراء مظاهر العصرنة وتنسلخ من هويتها وثقافة أوطانها..
ونحن نستذكر فضل هذا المسجد الطلابي على الأجيال وعلينا ، في كل دخول جامعي أومدرسي، أي مسجد الطلبة بجامعة الجزائر المركزية، وكاتب هذه السطور من رواده الملتزمين في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، بل ومن المداومين في أنشطته مع كوكبة من الطلبة والأساتذة الخلص ومن المشرفين على بعض أنشطته، بل ولنا فيه ذكريات وذكريات مع الأحباب وألاصحاب، رحم الله من مات منهم، وبارك في عمر من تبقى !!
بذات المناسبة، استوقفتني هذا الأسبوع تدوينة أستاذنا الدكتور محمد عوالمية من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، عن أحد رواد هذا المسجد، وهورجل كفيف كنت أراه في بعض الجمع، لكني ما كنت أعلم أنه من طلبة مالك بن نبي، علما أني أزعم حتى ولولم أتعرف على طلبة مالك بن نبي جميعا فردا فردا، إلا أني أحفظ قائمة طويلة من أسماء أول طلبة مالك بن نبي ورواد مسجد الطلبة في فترة الثمانينات، إلا هذا الشخص خاصة وهوكفيف، ولم أسمع أن هناك طالبا كفيفا كان يحضر معنا ندوات مالك!! كما أزعم أني أعرف أيضا جل أسماء كتاب مجلتهم الأولى «ماذا أعرف عن الإسلام»، التي عرفنا بها القارئ الكريم منذ أشهر خلت تحت عنوان :«يوم العلم ورسالة الإسلام في الغرب، ندوة بمدرج الجامعة، «ماذا أعرف عن الإسلام؟
« Que sais-je de l’Islam.. ? »
الكفيف الذي واظب على ندوات مالك بن نبي ومسجد الطلبة !!
عن هذا الأستاذ الكفيف من طلبة بن نبي، من راود مسجد الطلبة ومن الذين حضروا كل ملتقيات الفكر الاسلامي، كتب أستاذنا، الدكتور محمد عوالمية، ما يلي، تحت عنوان:
« الكفيف الذي واظب على ندوات مالك بن نبي طيلة 5 سنوات»، حول جلسته مع الأستاذ أحمد قتال، مبينا أن : الأستاذ أحمد قتال رجل متواضع يعظك بفعله قبل قوله، قليل الكلام، صارم في المواعيد، حريص على كل ما له صلة بالله عز وجل، تخشع إن صليت خلفه، وتستفيد إذا حادثته.» .. « ولد الأستاذ أحمد قتال في بلدية الأربعاء بالبليدة سنة 1943. « وفي سن الرابعة بدأ الأستاذ أحمد قتال قصته مع فقد البصر بسبب مرض الرمد الحُبيبي (التراخوما)، تلك القصة الأليمة التي حرمته من التمدرس في السن الطبيعي وأفقرت أسرته بفعل التكاليف الباهظة للعلاج.»
مبينا أن « الأستاذ أحمد قتال لم يبدأ دراسته الابتدائية إلا في سن الحادية عشر من عمره، بمدرسة المكفوفين الوحيدة آنذاك على المستوى الوطني بالجزائر العاصمة». واصفا الأستاذ أحمد بأنه « نابغة بحق خاصة في الحساب مما جعله محط عناية الأساتذة. وهوالأمر الذي سيكون له الأثر البارز فيما بعد حيث أوصت المديرة الفرنسية للمدرسة حين غادرت الجزائر بضرورة منحه منصب معلم في تلك المدرسة بعد إنهائه لمرحلة التعليم المتوسط سنة 1962. كان الأستاذ أحمد قتال أحد الثلاثة الأوائل من المكفوفين الجزائريين الذين حصلوا على شهادة التعليم المتوسط، بالفرنسية وإتماما لسيرته الذاتية،كتب عنه الدكتور عوالمية : «بالموازاة مع ممارسة مهنة التعليم درس الأستاذ أحمد المرحلة الثانوية آنذاك بشكل مستقل حينا أومن خلال الدروس المسائية أحيانا حيث حصل على الباكالوريا العربية والفرنسية. وذلك في الفترة من 1965 إلى 1971. سجل في الجامعة ليسانس ألمانية ثم ليسانس فرنسية ثم انصرف عنهما إلى ليسانس في علم النفس التربوي في الموسم 1971 1972. أتيحت له فرصة الذهاب إلى فرنسا للدراسات العليا سنة 1976 ولكنه رفض – وهوإلى اليوم يحمد الله على ذلك.
تقاعد سنة 1998 آسفا أشد الأسف على بداية تراجع مستوى التعليم.»
من الأمور التاريخية عن مسجد الطلبة ومالك بن نبي والتي نسمعها لأول مرة
ومن الأمور التاريخية التي ذكرها، الأستاذ أحمد قتال لمحاوره، عن مالك بن نبي والتي نسمعها لأول مرة :
وردا عن سؤال «بعض ما يميز بن نبي من وجهة نظره»، فقال له :
– البساطة والتواضع في معاملة تلاميذه حيث كان يحضر إلى منازلهم ويشاركهم مناسباتهم فقد حضر عقد زواج الأستاذ أحمد قتال في منزله سنة 1969
– الحرص على إقامة الصلاة في وقتها أثناء الندوات وقد كان في أحيان قليلة يصلي بتلاميذه إماما.
– الحرقة على أحوال الإسلام والمسلمين: لما كان مريضا في شهر أكتوبر 1973 كان كلما أفاق من إغماءة سأل من حوله: ماذا حدث في سيناء؟
– الإهمال وعدم التقدير اللذان تعرض لهما مالك بن نبي حيا وميتا. وفي هذا السياق ذكر بمرارة شديدة أن السفارة الليبية هي التي تكفلت بتكاليف علاج مالك بن نبي في باريس، وليس الجزائر!!
أما عن وفاة مالك بن نبي، فقال: «لقد تركنا بلا موجه. لقد أحسسنا باليتم الحقيقي حين توفي».
هذه قطوف من حوار حول حياة الأستاذ أحمد قتال، وهي ثرية جدا فقد ارتبط بمسجد الطلبة ولقي شخصيات كثيرة مثل الوزير مولود قاسم والمؤرخ أبوالقاسم سعد الله. ودرس عند الشيخ عباسي مدني في الجامعة.
وقد اختتم محاوره – وهوكفيف أيضا على فكرة – بالتركيز على أن» الأستاذ أحمد قتال شخص لا يحب الحديث عن نفسه ولا يعتبر ما عاشه من أحداث أمرا غير عادي.. ولولا إلحاحي الشديد على تقديمه كرمز للمكفوفين لما تحدث فالشكر الجزيل له على كل ما فعل وعلى كل ما قال.» .. شكر الله لأستاذي هذه الشهادات التاريخية عن مسجد الطلبة التي تكتب بماء الذهب، داعين الله لهم بالتوفيق والدعوة للكتاب والمثقفين ومن طلبة مالك عموما وقدماء مسجد الطلبة خصوصا، إلى توثيق كل ما أمكن عن مسجد الطلبة وتراث مالك بن نبي وأمثاله من العظماء قبل أن يرحل الشهود إلى بارئهم فيدعي الأدعياء ما شاءوا !!