البروفيسور “العربي فرحاتي” في حوار صريح مع جريدة”البصائر”: جامعاتنا مستعارة في نظامها المعرفي…وفي منظومتها الإدارية..!/حاوره/ حسن خليفة
حتى أكون صريحا أن أقول: إن هذا الحوار من أجرأ الحوارات وأكثرها صراحة، يأخذنا فيه الأستاذ الدكتور العربي فرحاتي في رحلة علمية تحليلية عميقة وقاسية أيضا، عن نظامنا الجامعي خاصة، باعتبار الاختصاص، يضع فيه الأصبع على الجراح الكثيرة المفتوحة في نظامنا العلمي والتعليمي، ولا يكتفي بذلك بل يصف لنا الطريق التي تخرجنا مما نحن فيه من ارتكاس وانتكاس أكاديمي في تدريسنا وجامعاتنا وأبحاثنا وقلة إنتاجنا العلمي وغلبة الديماغوجية والبيروقراطية والإيديولوجية على أكثر أعمالنا، وافتقادنا إلى “نخبة” و”صفوة”جامعية حقيقية في إمكانها أن تقود وترشد وتؤسس لمجال حيوي يعطي بلادنا ما تستحقه من قيمة وقامة ونفوذ وقوة.
كثير من الأمور لا يمكن فهمها إلا بقراءة رصينة لأفكار البروفيسور العربي فرحاتي لنكتشف…أين نحن؟ ولماذا؟ وكيف نخرج من النفق؟
الحــوار:
- هل يمكن أن يتعرف قراؤنا على الأستاذ الدكتورالعربي فرحاتي؟
– الأستاذ الدكتور العربي فرحاتي بن بلقاسم ولد (1956م) في قرية جلال (عرش بني عمران) التابعة إداريا لولاية خنشلة، ونشأ وترعرع فيها، وتعلم في مسجدها ومدرسته القرآنية، القراءة والكتابة وشعيرة الصلاة، على يد المعلمين (سي موحند بلهوشات، وزايدي حميدة رحمة الله عليهما) وتعلم القراءة ورسم القرآن من مصحف من تخطيط جده سي عمر رحمة الله عليه، وختم نصف القرآن وحفظه قبل سن السادسة، والتحق بالمدرسة الابتدائية فيض لبيض، ودرس السنة السادسة ابتدائي في مدرسة بابار، ومنها انتقل إلى بسكرة لاجتياز امتحان الدخول للتعليم الإسلامي الأصلي، ونجح في امتحان حفظ أجزاء من القرآن الكريم، وتم تسجيله وتابع الدراسة في معهد التعليم الأصلي على يد أزهريين ونال به شهادة الأهلية بعد التدرج أربع سنوات، ثم الباكالوريا آداب وعلوم شرعية بعد التدرج والنجاح في ثلاث سنوات من الدراسة، ثم انتقل إلى جامعة وهران ودرس فيها مرحلة الليسانس (أربع سنوات) في علم النفس التوجيه المدرسي والمهني ونال بها شهادة الليسانس. ثم انتقل إلى جامعة الجزائر وسجل فيها الدراسات العليا ونال بها دبلوم الدراسات المعمقة في علوم التربية، كما نال بها بعد ذلك شهادة الماجستير ودكتوراه الدولة في علوم التربية (2000) بإشراف الدكتور عباسي مدني. وعمل مدرسا في المعهد التكنولوجي للتربية بتبسة ثم أستاذا جامعيا بجامعة باتنة من سنة 1982م في معهد الآداب، وشغل فيه منصب الأمين العام لتسع سنوات، ودرس في قسم الآداب عدة مقاييس كعلم النفس التربوي، وانتدب لفتح وإدارة دائرة العلوم الإسلامية، وشارك في الندوة الوطنية للتعليم العالي، وساهم في اللجنة الوطنية البيداغوجية، ثم شارك في تأسيس دائرة علم الاجتماع التابعة لكلية الآداب ثم تأسيس قسم علم النفس منفصلا عن علم الاجتماع، ودرس في قسم علم النفس وعلوم التربية عدة مقاييس (كالتربية المقارنة، وطرق التدريس، وعلم النفس التربوي، وتخطيط المناهج والتقويم…الخ وفتح وأشرف على عدة تخصصات (ماجستير ) منها مناهج وتقويم، والإدارة المدرسية، وتكنولوجيا التربية، وأسس مخبر تطوير نظم الجودة في مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، وترقى في سلك التدريس الجامعي من أستاذ مساعد إلى أستاذ محاضر إلى أستاذ التعليم العالي، وفي إطار المخبر فتح وأشرف على ماجستير ودكتوراه علوم جودة التربية والتكوين، ثم دكتوراه جودة التوجيه والإرشاد المدرسي نظام (ل.م.د). وبعد إعادة هيكلة كلية الآداب وإلحاق قسمي علم النفس وعلم الاجتماع بكلية العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية والاجتماعية ترأس مجلسها العلمي الأول لمدة ثلاث سنوات، وتابع خلالها التدريس والإشراف على إدارة المشاريع البحثية في الماجستير والدكتوراه في الكلية ومخبر تطوير نظم الجودة، حيث درس في قسم الليسانس علم النفس الاجتماعي المدرسي ودرس في الماجستير في عدة تخصصات الفلسفة التربية وبناء البرامج ونظرية المعرفة وعلم النفس التربية وتكنولوجيا التربية، وبعد إنشاء كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية أتيحت له الفرصة لاقتراح مشروع تخصص التوجيه والإرشاد في الليسانس والماستر، في إطار فرق التكوين المستحدثة في إطار نظام ( ل.م.د) وهو المعمول به في كثير من الجامعات الوطنية، كما أتيحت له فرصة تقديم مشروع فتح دكتوراه (ل.م.د) تخصص جودة التوجيه والإرشاد في إطار مخبر الجودة، وترأس فريق التكوين ودرس لطلبة الدفعة وحدة “فلسفة ومفاهيم جودة التربية”، و”أنظمة الجودة” وأشرف على تنظيم ورشات وبحوث مصغرة للطلبة، كما أشرف على أزيد من أربعين ما بين أطروحة دكتوراه ورسائل ماجستير في التربية وعلم النفس، وشارك في عشرات الملتقيات الوطنية والدولية في السعودية والمغرب وقطر والشارقة ..
ـ نشر له أزيد من ثلاثين بحث ومقالات علمية في التربية وعلم النفس والفكر الإسلامي.
ـ صدرت له عدة مؤلفات منها:. تطور الفكر التربوي لمجتمعات ما قبل الميلاد، دراسة أنثروبولوجية.
– البحث الجامعي، التفاعل الصفي وعلاقات التواصل في القسم الدراسي .
ـ تأهيل الموارد البشرية.
– الأخلاق وعلم النفس والتشريع الإسلامي.
ـ بنو عمران التاريخ والثقافة والجغرافيا.
ـ تجربة علوم الإنسان في فهم الإنسان (ثلاثة أجزاء).
ـ اضطراب مفهوم الدين في علوم الحداثة. كما شارك في التأليف الجماعي لمنشورات مخبر تطوير نظم الجودة، وكتاب التواصل والتثاقف، وكتاب الكفايات.
- بوصفك أكاديميا وباحثا خبيرا في مجال جودة التعليم، كيف تقيم وتقوّم أوضاعنا الجامعية في الوطن، من منظور البحث العلمي ـ التحصيل العلمي ـ..الخ؟
– بداية أشكر جريدة البصائر على إتاحة هذه الفرصة الثمينة وأحيي طاقمها وأتمنى لها كل التوفيق. أما عن سؤالكم فأود أن أضعه بداية في سياق الاستعارة الثقافية، فجامعاتنا مستعارة في نظامها البيروقراطي ونظامها المعرفي ونظامها التدريسي، إذا جاز لنا الحديث عن وجود هذه الأنظمة والإجابة عن سؤالكم المركب في شقين:
أ ـ فمن حيث منظور البحث العلمي، بغض النظر عن معايير التقويم الدولي وترتيب جامعاتنا في ذيل القائمة، لا أعتقد أن الباحثين الجزائريين المشتغلين بالبحث الجامعي والمنشغلين بالوضع الجامعي بصفة عامة، يختلفون في تقييم الوضع الجامعي بصفة عامة من حيث هو “دون المتوسط ” حتى لا أقول “رديء” إن على مستوى البحث العلمي، وإن على مستوى التحصيل العلمي، فبناء على تجربتنا ومعايشتنا للبحوث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية بصفة عامة، وعلوم النفس والتربية بصفة خاصة، في المستويين، الماجستير والدكتوراه، في النظامين (التقليدي،” ل.م .د “) إشرافا ومناقشة وتوجيها، لا نكون مبالغين إذا ما قلنا أن الحديث عن البحث في الجامعة الجزائرية سابق لأوانه بالمعايير الأكاديمية العلمية. إن تلك المعايير المتعلقة بالذات الباحثة كالفهم التفسير والتأويل والتطبيق والموضوعية والعقلنة …الخ، وإن تلك المعايير المتعلقة بالمواضيع المطروحة للبحث، كجديتها وأهميتها الأكاديمية وأولويتها ومدى تعقدها كمشكلة وتحديد مجالها، وإن تلك المعايير البرجماتية المتعلقة بنفعها وصلاحيتها للذات الباحثة والمحيط، وإن تلك المعايير المتعلقة بكيفية المقاربات المنهجية للمواضيع المطروحة للبحث كصياغتها في إشكال واضح يعكس تناقضا جوهريا، وتحديد المفاهيم المفتاحية النظرية المفسرة ووضعها في نسق نظري يمكن من الفهم والتأويل والتفسير للنتائج، فما يجري في جامعاتنا ويسمى بالبحث العلمي، هو في حقيقته تعاطي مع الظواهر كما لو أنها مواضيع تختار بطرق الاستنساخ والتكرار والعشوائية، وليست إشكالات بالمفهوم العلمي الأكاديمي تؤرق الباحث، وبالتالي يصبح ما يعتبر بحثا مجرد تدريب للطالب على أدنى الشروط المنهجية الفنية، في مجال تحرير البحوث وتقنيات هيكلة المعارف العلمية السابقة بصنمية شديدة، وخطة متماثلة، بل وموحدة تقليدية مقلدة في كل الجامعات والتخصصات، حتى لا نكاد نلمس أي خصوصية متميزة، لأي بحث في مجال هيكلة المعارف والمعلومات وكأنها استنساخ للطريقة الواحدة باسم التقاليد البحثية وهو ما يتنافى مع منطق العلم ذاته، من حيث هو منطق الإبداع والتجديد والتنوع.
ونتيجة ذلك بدت الرسائل والأطروحات العلمية كما لو أنها عناوين للكتب وجمع للمعلومات النظرية والامبيريقية، وكأنها تأليف لكتب مدرسية، فلا نجد في البحوث استقراء واضحا، ولا تحليلا استدلاليا بارزا ومميزا، ولا استنباطا للنتائج محددا ودقيقا…ولا تفسيرا وتأويلا مبررين نظريا، ولا تنبؤا بمستقبل الظاهرة.
- عفوا، ولكن إن ما تقوله كبير وخطير …؟
– نعم إنه كذلك ..وينبغي الاعتراف بذلك كمقدمة للعمل على إصلاح حقيقي وإعادة نظر شاملة ومنهجية في نظامنا الجامعي برمته ..إننا ما نزال بعيدين..بتعبير آخر: البحث العلمي ما زال بعيد المنال في جامعاتنا ولم يخرج بعد من دائرة ثقافة التصنيع الشكلي وبعض أبجديات التايلورية. والعلم اليوم يتأسس بـ “براديغمات” ما بعد الحداثة فائقة الجودة. للأسف لم ننتبه إلى ما ستكون عليه الفجوة بيننا وبين العلم المابعد حداثي؛ خاصة في هذا الشأن العلمي الذي يصنع الفارق بين المجتمعات والأمم والدول.
ب ـ أما من حيث تقييمي لأوضاع الجامعة من حيث التحصيل العلمي فلا أعتقد أنه أحسن حالا من البحث العلمي، فتجربتي في التدريس في العلوم الإنسانية التي تزيد عن خمسة وثلاثين عاما كاملة، أستطيع أن اعتبرها تجربة ساعة وتتكرر، وتجربة أسبوع وتتكرر، وتجربة شهر وتتكرر، وتجربة سداسي تتكرر، وتجربة عام وتتكرر. هي تجربة الجامعة تتكرر كل سنة دون أي تجديد أو ابتكار ما عدا تلك الجهود الفردية لهذا الأستاذ أو ذاك، هي تجربة في عرف البيداغوجيين قابعة في مستوى “تبليغ المعرفة” العالمة بحيث يتم نقلها من الكتب والمجلات الجامعية إلى الطالب في شكل محاضرات وتطبيقات أغلبها تكرار للمحاضرات.
وأرى أن هذه الصورة هي صورة طبيعية لجامعة لا تعير أي اهتمام لتكوين الأساتذة بيداغوجيا، فالمدرسون غير المدريين على البيداغوجيات الحديثة المناسبة لما يسمى الاندراغوجيا (تعليم الراشدين البالغين) هو ناقلون لتاريخ المعرفة، كما هي مدونة في الكتب، فالانتقال من نظام سمي بـ “الكلاسيكي”- قائم على تبليغ تاريخ العلم الغربي في عمومه من نظريات وسرديات، أنتجها عقل لأوضاع مشروطة ثقافيا، لا يمكن لها أن تثمر في بيئة غير بيئتها، إلا جزئيا- إلى نظام (ل.م .د) منبثق عن برنامج “إراسموسماندوس” الحواري بين الثقافات، قيل عنه أنه من صيغ مبتكرات الجودة التعليمية العالية كما يسوق، أفرزته التطورات المجتمعية اللبرالية للاستجابة لتحدياتها الاقتصادية المعولمة، هو الآخر لا يمكن له أن ينتج في بيئة غير بيئته، من حيث هي رحمه الحامل له، فنحن كمجتمعات ثالثية لسنا مجتمعات ليبرالية. وحتى عمليات التكييف للنموذج تتعثر بشكل يكاد أن يوسم بالفوضى العارمة وحالة ما نسميها باللامعيارية والباثولوجيات الجامعية.
- هل يمكن أن تشرح لنا وللقراء ذلك…؟
– على كل حال ـ بالنسبة لموضوعنا(الا ا مدي) ـ قد مر على تعميم الانتقال، أزيد من ست عشر سنة وما زال يترنح ويتراوح في المكان، ذلك أن حشد كل إمكاناته لاستنبات نظام جامعي من أصل ليبرالي في قيمه، ومقاولاتي مفتوح في محيطه، وقائم في توجيهه البيداغوجي على تربية الاختيار ودينامي في سوسيولوجته ومفتوح غير يقيني في علومه،.واستنباته عنوة في مجتمع مركب فاقد لمشروع مجتمعي، مغلق في مؤسساته، قائم في نظامه التوجيهي على توزيع المناصب، يقيني دوغمائي في علومه المستعارة. فمن الطبيعي أن يواجه جملة من المقاومات على مستوى البنيات الداخلية، وعلى مستوى محيط الدمج، وعلى المستوى الثقافي العام، والنتيجة هو ما نراه جميعا.
وعلى الرغم من تسجيل بعض الإيجابيات، كإنهاء عهد الوصاية الفوقية في تقرير المعرفة العالمية والمعرفة الجامعية التدريسية، لصالح اللامركزية، وتحرير البرامج الجامعية (المناهج) من الهيمنة المركزية، وبروز بعض مؤشرات التنوع المعرفي في المبادرات المحلية باستعادة الثقة في الأستاذ المكون، إلا أن الضعف الشديد للأستاذ في كفاءة النقل الديداكتيكي/ الجامعي وانعدام خبرة تكوين البرامج، وغياب ملمح الخرّيج، وجهل كلي بالمحيط وحاجاته، وحاجات الطلبة، لم يسمح بأي تطور نوعي، بل زج بالإصلاح في أتون فوضى تدريس المواد، في ظاهره تنوع وفي باطنه جملة من المتناقضات، مع بقاء طرق التدريس كما هي، فغياب شرط الأستاذ المكون في نطاق معايير الجودة العالمية كشرط المعرفة باللايقين العلمي والنسبية والكوكبية وتجسير المعارف وتحرير العلم من الأيديولوجية، والتنظير الأكاديمي وتحيين المفاهيم والمعارف وتوطين العلم…الخ بقي الإصلاح بدون معنى، بل ربما أنتج عكس ما كان منتظرا. وهذه مئات من الآلاف من الخرّيجين لا تجد مكانا لها في محيطها الحيوي..وهذا بالطبع غير طبيعي ولا يمكن أن يُفهم إلا في أطار التطبيق الأعمى لأنظمة ليست بأنظمتنا، ومناهج ليست مناهجنا.
أضيف إلى ذلك…إذا كانت التغييرات المتعلقة بالانتقال من نظام إلى نظام، قد انتهت على مستوى الهيكلة البيداغوجية، فإن النوعية التربوية الجامعية لم يطرأ عليها أي تحسن، بل نراها في تدهور مستمر، فإن الأستاذ وطريقة التدريس والمعرفة لم تتغير وبقيت على عهدها، فلا أعتقد أن الأستاذ الفاقد للتكوين والفاقد للبحث العلمي، سيتطور في تدريسه ومعارفه، فالجامعة كما توصف هي ثانوية كبيرة، كالمدينة القرية التي كبرت مساحتها وعماراتها وبقيت سلوكات ساكنيها قبلية ريفية، ومن الطبيعي أن ينتهي الإصلاح ـ في نظرنا ـ بعد أزيد من ست عشر سنة إلى أشبه ما يكون بالمغامرة ـ إن لم نقل مقامرة ـ تهدد التجربة ذاتها..فنحن أمام سؤال الجودة من جديد، بل نحن أمام سؤال المحافظة على المكتسبات السابقة، بل نحن أمام سؤال ما أعتبرها من قاتلات أو مهلكات العلم والمنطق العلمي والتفكير العلمي وجودة التعليم التي أخذت تنتشر كفيروسات قاتلة (الغش، الصراع اللغوي، الهدر الجامعي، البيروقراطية، الإكراه، اليأس، التصلب المعرفي، الاستهتار، اللامعيارية طلابية، هدر الإمكانات ..الخ ).
ولا أعتقد أن يكون للترميم أية فائدة، ما لم نطرح الإصلاح كما لو أنه يواجهنا على مستوى الانتقال، من التأسيس البيروقراطي للجامعات الذي طال أمده أكثر من خمسة عقود، إلى تأسيس المشروع المعرفي للجامعة، ومن الطبيعي أن ذلك دونه خرط القتاد كما يقال يتعلق بمواجهة العقبة من حيث هي بمفهومها القرآني ليست إلا الحرية من البيروقراطيات والهيمنات والدوغمائيات ولذلك أطرح السؤال من جديد، مفاده ماذا نحتاج؟ هل نحتاج إلى الخوض مع الخائضين؟ أم إلى إصلاح الإصلاح؟ أم ثورة على الإصلاح؟ هذا ما نهدف إلى معرفته ونطلب فتح حوار جدي حول المنظومة الجامعية.
- اشتغلت وتشتغل في مجال الجودة..والجودة في التعليم تحديدا؛ هل يمكن أن تعطي القارئ فكرة عن الموضوع، أين هو موقع الجودة في نظامنا التعليمي العالي؟
– الحديث عن الجودة التعليمية في نظامنا التعليمي بالمفهوم الحديث للجودة باعتبارها صيغا ونماذج، هو حديث في المأمول والمرتجى، فجامعاتنا بمعايير الجودة العالمية من حيث هي تأليف وإنتاج معرفي وتسيير ديمقراطي ومرونة بيداغوجية، ومركزية الطالب في التدريس، والشراكة وما أسميه بالمواطنة الجامعية، والانفتاح على المحيط، والتكفل بالمشكلات المحلية، وإنتاج المجلات واللامركزية، ونشر البحوث والحضور في العالم الرقمي، والدخول في المنافسة العالية…الخ كلها هذا لا وجود لها في فضائنا الجامعي وربما ما قبل الجامعي، ولذلك يتمّ ترتيبنا عادة في ذيل القوائم، وهي لم تفكر إلى حد الآن للدخول في المنافسة الأكاديمية والتسجيل في مؤسسات الاعتماد الأكاديمي العالمية، ذلك إذا استثنيا ما تشكل منذ مدة من خلايا ضمان الجودة في الجامعة، وهي أدنى صيغ الجودة، تهتم بتوفير الشروط الموضوعية الفيزيائية للجودة دون أن تهتم بالجودة ذاتها، أو بالمنتوج كمحصلة نهائية وتقويمه، ويعتقد أنها صيغة بإمكانها أن تجيب عن أسئلة شروط جودة المنهج، وأسئلة شروط البحث العلمي، وأسئلة شروط جودة التدريس، وأسئلة شروط جودة المحيط…الخ، ولذلك نجدها تجربة أكثر تركيزا على تهيئة الشروط الفيزيائية للجودة، وتكييف النظام وإعادة الهيكلة.
ولذلك نجد ضمان الجودة في تطبيقات (ل.م.د) من حيث هو نموذج يعتقد أنه من نماذج الجودة في التعليم في حد ذاته، قد اهتمت في مجال الزمن البيداغوجي بالمراحل، فقلصته عبر تقنية التكثيف، وفي مجال هيكلة المعارف، استحدث الميادين والشعب وفرق التكوين منتجة للعروض التكوينية، وهو تطبيق لللامركزية، وقد بدا عليها ارتباك وتعثّر ومراجعات واهتمت بالبحث العلمي، فأسست المخابر العلمية ومشاريع البحث متعددة الصيغ.
- على ذكر المخابر نرجو كلمة هنا وسيأتي سؤال آخر عن الموضوع لاحقا؟
– الحديث عن المخابر العلمية وبحسب تجربتي في تأسيس مخبر تطوير نظم الجودة في مؤسسات العليم العالي والثانوي، هو حديث ذو شجون كما يقال، فعلى الرغم من ترسانة التعليمات والقوانين في تأسيس المخابر لمدة تزيد عن عشرين سنة، إلا أنها لا تزال غير مستقرة، ولم تستطع أن تنشئ تقاليد البحث العلمي، بل أنني أستطيع القول: إنها لم تنطلق بعد في البحث، ذلك أن التسيير بما يعرف بـ “الكانفات” والتقييم بالكانفات، وتحويل الباحث إلى بيروقراطي لاهث وراء الشراء وتسديد الفواتير، في غياب الخبرة بإدارة الميزانية، وبخل المخابر حتى بتزويدهم بعون إداري ينظم شؤون المخبر، وغياب التحفيزات وانعدام تثمين جهود الأساتذة كل ذلك جعل المخابر كما لو أنها مكاتب للاجتماعات وتنظيم ملتقيات وتسجيل مشاريع الدكتوراه، وغاب عنها صفة البحث من حيث هو روحها، ومن ثمة فالحديث عن جودة البحث العلمي بعد هذه التجربة، هو حديث للترفيه والطرافة الفكرية، وحديث للتسجيل الوهمي، في ظل غياب كلي لفلسفة البحث، وضبابية قاتمة في أهداف المخابر العلمية، وإسقاط كلي لتحفيز الباحث، فالتجربة تعاني من قصور في مواجهة سؤال المحيط، حيث قزم في شحّ المناصب، وقزم الطلب الاجتماعي في ما هو راهن وامتصاص البطالة وافتكاك الرضا، وإجراء فتح شكلي للحاضنات المهنية وغياب كلي للشريك الاقتصادي والاجتماعي، أما المحيط الثقافي وعلاقته بالجامعة فهو في أسوأ حال، إذ أن السياسة اللغوية والثقافية ما زالت تعاني من صراع، قد يعود إلى أزمة الهوية وعدم الفصل في مشروع المجتمع.
- أصارحك أن ما قدمته هو صورة حالكة السّواد حتى الآن..ولكن مع ذلك أسألك: أين يكمنُ الإشكال في تقديرك، بالنسبة للتعليم العالي في بلادنا..هل هو في المناهج..أم في المدرسين..أم في الوسط الجامعي ككل أم في المحيط العام؟
– أعتقد أن المشكلة في التعليم العالي، هي تراكمات لتداعيات الاستعارة الثقافية والتركيز على البناء البيروقرطي والأيديولوجي، دون الالتفات إلى بلورة المشروع المعرفي للجامعة من حيث هو مشروع ابستمولوجي في طبيعته، وبالتالي فلا أراها مشكلة، بقدر ما أراها أزمة حادة، لا تحتاج إلى حلول جزئية ترقيعية، بقدر ما تحتاج إلى حلول كلية تستوعب المشكلة، كما لو أنها مشكلة حضارية عميقة، لا تتعلق بمشكلة المواكبة، بقدر ما تتعلق بالحضور في دوائر البحث العلمي والمساهمة في بنائه إذ أنّ المنافسة اليوم هي داروينية، قد تحيلنا إلى جامعات غير قابلة للتكيّف، كما أنها ليست مجرد مشكلة مجزأة في متطلبات التنمية وتوزيع المخرجات الجامعية على دواليب الاقتصاد الوطني والمؤسسات، بقدر ما هي مشكلة إشباع حاجة الأمة من النوعية التربوية الجامعية وتكوين النخب العلمية المفكرة وهذا ما نفتده بشدة .ملايين من الطلاب والطالبات ..ولكن ماذا يوجد في واقع الحال؟ أي وزن علمي؟ أي حضور نوعي؟ أي نخبة مؤثرة عالمة قائدة راشدة؟ هل تجد ذلك؟ أنا لا أجده، وقد قلت لك لدي أكثر من خمس وثلاثين سنة عمل في الجامعة.
- يفترض في مجموع الأساتذة وطلبة الدكتوراه ثم باقي الطلاب الجامعيين أن يكونوا الصفوة والنخبة..فهل هم كذلك بالفعل.. وعيا ومعرفة ..واستجابة للتحديات؟
– ذلك هو المفترض في جامعة تتحرك في ظل مشروع معرفي أكاديمي مهني مستقل ناتج عن الخبرة، ولأن جامعاتنا تفتقر إلى هذا المشروع، فنحن بالضرورة ـ بصفتنا كمجتمع جامعي أساتذة وطلبةـ كائنات مغلقة مفردنة، أو مجتمع الأفراد فاقدة للمشروع الجامع وما يسمى بـ ” الكلية ” التي تكسبنا صفة الأستاذ الجامعي والطالب الجامعي، فلم نتأسس بعد كجماعات علمية في جامعاتنا الجزائرية إلا من حيث تكوين مخابر عرجاء بدون مشروع كما سبق وأن أشرنا، وبالتالي فلا نكون إلا مدرسين مستهلكين من غير وعي لما ينتجه الآخرون، ونحن في ظل هذه الوضعية بعيدون عن مفهوم النخبة أو الصفوة، وأن الكلام عن النخبة، لا يرد أصلا في قاموس جامعات “مساواتية” لا تقدر قيمة التنوع العلمي وإطلاق المبادرات وتمايز الطلبة والأساتذة، فالبيداغوجيا ريع يقسم بين الطلاب في مجال الاستهلاك بالتساوي ويقسم في مجال التبليغ بالتساوي بين الأساتذة.
- دعنا ننتقل ـ من فضلك ـ إلى جوانب أخرى، سأسألك عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. لقد شاركت في بعض فعاليات وأنشطة الجمعية، كيف ترى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فكريا وعلميا؟ وما أدوارها في الإصلاح والتغيير من وجهة نظرك؟
– مشاركتي الجمعية نشاطاتها تعد على أصابع اليد الواحدة، وبالتالي لا أستطيع الخوض في تقييمها، ومعلوماتي حول نشاطاتها لا تسمح لي بإصدار حكم عنها أو وصف لها.
أتمنى لها التوفيق في إعادة صياغة مشروع الإصلاح الباديسي في ضوء التجربة التاريخية للشعب الجزائري؛ من حيث هي تجربة مستمرة في إثراء مشروع الهوية بما يكفي من مفردات الحرية.
- كلمة أخيرة…
– كلمتي الأخيرة هي الكلمة التي أرددها في كل حواراتي، ما دامت المشكلة واحدة، وهي قد تكون قراءتي متشائمة للوضع التربوي والجامعي، إلا أنني أريدها أن تكون محفزة، تؤسس فينا لدهشة معرفية إيجابية، نتجاوز بها الدهشة السلبية الانفعالية مع الإصلاحات، وتكون قراءتي بمنزلة الحافز الأكبر لفكر الصحوة في أن نأخذ الكتاب بقوة، ونواجه الصعوبة، وأعتقد أن الرؤية الإسلامية للمعرفة يمكن أن تهدينا إلى إعادة صياغة المعرفة وإنتاج المفاهيم المؤطرة لتعدد المرجعيات في الجامعات، في ضوء التجربة التاريخية وما تقتضيها من تحمل مسؤولية اقتحام العقبة، وما أدراك ما العقبة، إنها فك رقبة.الحرية. والحرية بمفهومها العلمي تقتضي:
إعادة النظر في الإصلاح الجامعي في نطاق التجربة التاريخية، وتحديد وظائف للتعليم العالي والبحث العلمي في نطاق المشروع المجتمعي المعرفي الذي يتطلب صياغته في ضوء ما يجري من تأسيس لعلوم تستجيب لما بعد الحداثة، ويقتضي ذلك وضع العلم الجامعي موضع المهام التالية (الأصالة، الجدة، التنوع، الفعالية الوظيفية الحضارية)، وبهذا يتسنى لنا إمكانية نقل الجامعة من البناء البيروقراطي المؤسسي، وإنتاج كم هائل من القوانين، إلى بناء جامعة الفكرة، وإنتاج كم هائل من المعارف لتصبح الجامعة قوة للمجتمع، لا قوة للدولة الانتفاعية الريعية الموركانتليزمية.