رمضان…والإيحاء بروح التضامن الاجتماعي/ د. إبراهيم نويري
الحياة التي نحياها مُترعة بالابتلاءات والنقائص والهِنات، فهي لا تخلو من تقصير في حق إخوة الدين والعقيدة، ومن تربطنا بهم صيرورة الحياة ووشائج القربى والمواطنة، كما أنها لا تخلو أيضا من اختلافات قد يكون لها أثرٌ عميق في الروابط والأواصر التي تجمع بين أبناء الأمة الواحدة والمجتمع المفرد.
وهذا يقع على الدوام في واقع البشر، بل هو من صميم تركيبة الناس التي فَطرَهم الله عليها؛ بيد أنّ لله نفحاتٍ ومواسمَ مباركة منيرة ما أن تهلّ على دنيا المسلمين حتى تنشرح الأرواحُ وترقّ النفوسُ، وفي طليعة تلك المواسم المباركة شهر رمضان. لذلك نشهد سعي الناس – في هذا الموسم- إلى استدراك ما ارتكبوه من هِنات ونقائص وتقصير، وذلك بأعمال خيّرة نافعة تُدخل المسرّة على الأرواح والنفوس والأفئدة.
وفي هذا الشهر المبارك، شهر القرآن والمسارعة إلى فعل الخيرات، والإقبال على القربات والأعمال الصالحة، لا بدّ للإنسان المسلم أن يتذكّر إخوة الدين والعقيدة والمصير، وأن يسعى بما آتاه الله تعالى من قدرات وما زوّده من مواهب، من أجل نفعهم وتقريب ثمرات العون إليهم؛ لأن الوقوف بالصوم عند حدود المعاني البسيطة التي يعرفها الدهماء والرعاع من عوام الناس، مثل الامتناع عن الأكل والشرب وغيرهما من ضروب الشهوات والضرورات، ليس فقهاً صحيحاً ولا تبجيلاً يليق بمقام ومنزلة هذا الشهر المبارك.
شهر له إيحاء و تميّز
يُجمع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على جملة الخِلال والشمائل اللطيفة التي لا يمكن الشعور بألقها وأريجها سوى في شهر رمضان، فهو موسم أودع الله فيه القِدْحَ المُعلّى من الأسرار والضوامر واللطائف المُبهِجة.
يقول فضيلة الشيخ الإمام محمود شلتوت رحمه الله تعالى: “لكلّ شيء في هذه الحياة إيحاءٌ، فلِأسماء الأشخاص إيحاءٌ، ولِأسماء الأمكنة إيحاءٌ، ولِأسماء الأزمنة إيحاءٌ، وما من مرئي يقع عليه البصر أو مسموع يتصل بالسمع إلاّ و له إيحاءٌ. ولعلّ أقوى ما يربط الإنسان بماضيه وينير له طريق مستقبله ويركّزه في حاضره على أسس قوية وسبل بيّنة تكشف له سنن الخير، وتُبعده عن سنن الشر، هو ما يتلقاه من هذه الإيحاءات.. ورمضان لم يكن إلاّ اسما زمنياً لشهر معروف في السَّنة القمرية، يقع بين شعبان وشوال، ولكن له عند المسلمين إيحاءٌ تهتزّ له قلوبهم وتنشرح به صدورهم وتسمو به أرواحهم..” (1).
بيد أنّ علاقة المسلم بهذا الشهر الكريم، لا ينبغي أن تتوقف عند هذه التخوم، بل لا بدّ من رسم برنامج عمل متوازن دقيق يعمّق الفهم، ويستثمر المناسبة الزمنية بأفضل جهد يمكن أن تفرزه الإرادة الإنسانية الكامنة في إهاب روح الإنسان المسلم، ومن ثمّة فإن مَنْ يفقهون رمضان ويُدركون خواصه التي تنطوي عليها أيامُه وساعاتُه ولحظاتُه الزمنية فإنّ كلمة رمضان “توحي إليهم برحلة إلهية ميقاتها الشهر كله، يخلع فيها المؤمن نفسه من حياة مادية مظلمة إلى حياة روحية مضيئة، يخلع فيها نفسه من هموم الدنيا وأكدارها إلى لذّة لا يعرفها ألم، وسعادة لا يعرفها شقاء، فيبدأ يومه: باسمك اللهم صمتُ، ويختم نهاره: باسمك اللهم أفطرتُ، وفيما بين الوقتين يقوم لله قانتاً، يركع مسبّحاً ويسجد داعياً، مرتلاً وحيه وقرآنه حتى مطلع الفجر، وهكذا دواليك حتى يبلغ الغاية ويصل إلى النهاية” (2).
إن المسلم خلال شهر رمضان بمكابدته لوطأة الجوع ولَأْواءِ الحَرّ، يستشعر نداوة الإيمان الحق؛ مما يدفعه إلى تعميق شعوره وإحساسه بالآخرين ممن يعانون معظم أيام السنة من المسغبة والعوز ومصاعب الحياة ومتطلباتها ومشاقها في واقع يتميّز بالقسوة وضعف منزع التضامن والتعاون.
لأنّ الإيمان في قلب المؤمن قوة فاعلة مؤثرة دافعة إلى المنجز الإيجابي، بها يطابق بين مختلف جزئيات مناشطه اليومية، وبين كلّ حركة من حركاته، وكل تصرّف من تصرفاته، وهذا الإيمان لا يتحقق ولا يتجسّد بمجرد التعلّق بالأماني والمشاعر الطيبة، بل بواسطة العمل الحي ومكابدة الحياة بكل لأوائها ومشاقها؛ أجل إن العمل الصالح في السر والعلن هو الوسيلة الفذّة التي تُخرج ألق الإيمان إلى الواقع الحي المتحرّك السيّال (3).
ضرورة الائتساء بصاحب الرسالة العظمى
ولا شكّ أنّ أي مسلم يتطلع في حياته، ويحرص في سلوكه على الائتساء برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، والائتساء هو الاقتداء والأسوة والاتباع؛ وقد ثبت في الصحاح أنّ صاحب الرسالة العظمى محمد صلى الله عليه وسلم، كان كثير الصدقة والجود والعطاء في شهر رمضان.
فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة” (4).
فإذا علم المسلم أنّ من أولويات مقاصد الصوم بعد التقوى، تفعيل الشعور بآلام وحاجيات ذوي المسغبة والفاقة؛ فإنه سوف يمد يده لكل ذي حاجة يستطيع الوصول إليه، وسوف يعمل من أجل تخفيف معاناة مَنْ يعانون في معيشتهم أو مَن يصارعون الأمراض والجهل والكوارث الطبيعية والنوازل بكل أصنافها وألوانها؛ فالبُعد الاجتماعي مقصد مهم جدا في فريضة صوم رمضان.
يقول الأديب الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله تعالى مبرزاً هذا البُعد أو المقصد: “و الصيام في مظهره الاجتماعي يُعطينا مظهر أسرة عظيمة تنتشر في جوانب الأرض، وتقترن شعائرها الدينية كلّ يوم بأمسّ ما يحسه الإنسان في معيشته اليومية، وهو أمر الطعام والشراب ومتع الأجساد: ملايين من الناس في جوانب الأرض يطعمون على نظام واحد ويمسكون عن الطعام على نظام واحد، ويستقبلون ربهم على نظام واحد، وقلما انتظمت أسرة بين جدران بيت على مثل هذا النظام” (5).
ولا يتوقف نفع الصيام على شبكة العلاقات الاجتماعية، بل إن نصيب الفرد من النفع والخير مقرّر أيضا ومشهود؛ وهو أمر يستشعره ويلمسه كلُّ مسلم يتأمل في عبادته بطريقة صحيحة: “أما الفرد فيستفيد منه خير ما يستفيده الإنسان في حياته الروحية أو حياته الخلقية، وهو ضبط النفس وشحذ عزيمتها وقدرتها على الفكاك من أسر العادات وتطويع الجسد لدواعي العقل والروح” (6).
ومن خلال ما تمّ بسطه يمكن لنا أن نستخلص الفوائد التالية:
1- الصوم عبادة وفريضة تقوي الإرادة وتشحذ النفس، وترتقي بالهِمم والمطامح والآمال، وتجعل المسلم يتجاوز ذاته وأنانيته.
2- شهر رمضان مناسبة جليلة، يراجع فيها المسلم نفسه ومساره، كي يعرف بدقة ما ينبغي فعله فيما بقي له من وقت، لأن الحياة بمقياس الإيمان هي استثمار في تزكية الروح والتخلّص من أكدار النفس.
3- صوم رمضان محطة سنوية إيمانية بديعة، عظيمة النفع على المستويين الفردي والجماعي.
4- البُعد الاجتماعي والتفكير في الآخرين والسعي الجاد لإعانتهم، والتضامن معهم، من أهمّ مقاصد صوم رمضان.
هوامش المقال:
- محمود شاتوت، من توجيهات الإسلام، دار الشروق، القاهرة، ط: 7، 1980م، ص 351/ 352.
- المرجع نفسه، ص 352.
- صبحي الصالح، الإسلام ومستقبل الحضارة، دار الشورى، بيروت، ط: 1، 1982م، ص 269.
- رواه البخاري برقم (6)، ومسلم برقم (2308).
- عباس محمود العقاد، الفلسفة القرآنية، مطبوعات لجنة البيان العربي، القاهرة، 1947م، ص 163.
- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.