وَمَضَاتٌ بَارِقةٌ من حياةِ الإمام المُجَاهِد الحاج “محمد بوده” رحمه الله

بقلم حفيده : الدكتور العيد بوده/عضو المجلس الأعلى للغة العربية/
سأحاول في هذه السطور أن أُعَرِّفَ بإمام فاضل، وشيخ مجاهد، أكرمه الله بحفظ وتعليم القرآن وأمور الدين. لمدة تناهز أربعين عاما بدءاً بسنة 1930م، وانتهاءً بعام 1967م. هو رجل مِفضال؛ سَلِيْلُ سالكي سُبُل العلم الديني، والتعليم القرآني، فآباؤه شيوخ أفاضل، وبهم يتَّصل نَسَبُ جَدِّي المعروف قيد حياته بالطالب بوده محمد بن الشيخ عبد القادر، بن الشيخ أحمد، بن الشيخ عبد الله، بن الشيخ عبد الرحمان، بن الشيخ مصطفى، بن الشيخ مختار، بن الشيخ بوبكر بوده صاحب حينون، نِسْبَةً لمنطقة تسمى “زاوية حينون” بدائرة أولف بإقليم التيديكلت، حيث ولد رحمه الله خلال عام 1903م، وبها تلقَّى تعليمه الأول على يد والده لفترة قصيرة، قبل أن يتوفاه الله، ثم واصل تعليمه الديني على يد شيخه “سيد أحمد العالم أبختي”(1860م- 1942م) رحمهم الله أجمعين.
أولا: مسيرته القرآنية، وتواصله مع علماء وشيوخ عصره:
بدأ الشيخ بوده مسيرته القرآنية سنة 1930م، بمدينة تمنراست حيث مَكَثَ ثلاثة أعوام. انتقل على إثرها إلى برج عمر إدريس(إليزي) التي لم يكن بها معلم قرآن في تلك الفترة، ليستأنف نشاطه التعليمي، سنة 1936م، حيث اجتمع عنده لفيف من ناشئة القرية وكبارها، يُعَلِّمُهُم أصول اللغة العربية، والقرآن الكريم، وأمور الدين القويم وأحكامه، ويُدَرِّسُهُم المتون الدينية على غرار متن ابن عاشر، والعبقري، ومتن أسهل المسالك … إلخ
وقمين بالذكر حِرْصُ شيخنا رحمه الله على الاستزادة من علوم الدين، مما ساهم في رفع أفقه العلمي، فأشرقت مسيرته بحصيلة وازنة؛ قوامها عشرات المراسلات الفقهية مع أرمادة من شيوخ وعلماء المشرق العربي، كمصر، وسوريا، والعراق، وليبيا، والمملكة العربية السعودية، ناهيك عن تواصله العلمي والإنساني مع كوكبة من علمائنا الأجلاء في الجزائر؛ ونذكر منهم الشيخ مولاي أحمد الطاهري( 1907م- 1979م) نزيل سالي بآدرار، و دفين مراكش بالمغرب الأقصى، والشيخ سيدي محمد بلكبير (1911م- 2000م) سليل ودفين أدرار، والشيخ باي بلعالم( 1930م – 2009م) سليل ودفين أولف، والشيخ الطاهر بلعبيدي (1887م – 1968م) بإقليم وادي ريغ (تقرت)، والشيخ السي محمد بلحاج عيسى مسروق ( 1889م- 1976م ) بمدينة الشط بولاية ورقلة، والشيخ عطية بن مصطفى مسعودي (1900م – 1989م) من ولاية الجلفة، والشيخ محمد بن مالك (1921م – 2018م) بعين صالح. والشيخ حمزة مخطار بوسعيد من سالي بأدرار، “والشيخ حمزة خدران بمنطقة عجاجة في ورقلة.” وغيرهم ممن لم أُحِطْ بهم خُبْرَا.
ثانيا: مسيرته الجهادية ضد المحتل الفرنسي:
لقد استجاب جدنا الراحل كغيره من أفذاذ الوطن الأشاوس، لواجب الجهاد، عشية اندلاع الكفاح المسلح؛ منذ أواخر سنة 1955م، حيث ساهم في العمل الجهادي إلى جانب إخوانه من مجاهدي المنطقة، وأَخُصُّ بالذكر الحاج أحمد كادي المدعو التيلامو(1917م-1969م)، والحاج أمبيريك دحماني(1916م-1981م) رحمهم الله جميعا، وقد تكفَّل حينها بإيصال رسائل الثورة إلى مجاهدي المنطقة، كما اضطلع بمهمة جمع التبرعات المالية الموجهة لدعم العمل الثوري المسلح.
وقد قام جيش التحرير الوطني. بتكليف الشيخ بوده رسميا بترأس قريته في النشاط الجهادي من خلال مراسلة مُوَقَّعة من طرف الملازم الثاني “رشيد الصائم” مسؤول الناحية الثالثة الصحراء، يطلب فيها من الشيخ أن يكون على رأس قريته في تنفيذ أوامر الثورة المجيدة. كما تجدر الإشارة إلى تعرض شيخنا المجاهد محمد بوده إلى مضايقات السلطة الفرنسية آنذاك؛ بعدما اِشْتُبِهَ في دعمه للثُّوَّار، فتم سَجْنُهُ في معتقل فلاتيرز خلال سنة 1960م، ودخل معه السجن مجموعة من رجال البلدة، على غرار: والحاج أحمد كادي المدعو التيلامو(1917م-1969م) والحاج عبد القادر بن إبراهيم بن سالم المدعو كاقل (1937م- 1985م)، والحاج أمبارك بن أحمد دحماني(1916م-1981م)، والحاج بوجمعة بن محمد حمادي (1930م- 2012م)، والحاج سالم بيلو بن محمد بن سالم (المدعو بيلو) (1939م- 2002م)، والحاج أحمد بن إبراهيم بن سالم المدعو حميد (1935م- 2019م) والحاج أحمد بن النوي (المدعو الغول)، والطالب حمية من ورقلة. ومن هؤلاء من جمعه السجن بالمجاهد الراحل مشري بن بلقاسم بلعيد (1932م-2017م) الذي كان عميدا للشرطة العلمية بعد الاستقلال، وهو الذي قام بتلحيد شاعرنا السامق مفدي زكريا بعد استقبال جثمانه العائد من تونس الشقيقة. كما قام المجاهد مشري بلعيد. بتحرير شهادته التوثيقية حول الدور النضالي لسيدي الشيخ محمد بوده رحمهما الله. حيث تم توقيع الشهادة بتاريخ 09 جوان 2009م. بإمضاء المجاهد مشري ، وتأشيرة بلدية تبسبست بدائرة تقرت.
ثالثا: رحلته إلى الحج، ثم وفاته:
حجَّ الشيخ المجاهد محمد بوده بيت الله الحرام، غداة الاستقلال المظفر، وكان ذلك سنة 1965م، ورافقه في رحلته تلك الحاج أحمد كادي المعروف بـ: التيلامو(1917م-1969م)، والحاج أمبيريك دحماني(1916م-1981م)، والحاج وانتيني أخو(1929م-2005م)، رحمهم الله جميعا. حيث سافروا حينها برا من الجزائر إلى ليبيا، ثم بحرا على متن باخرة، أقلَّتْهُم من ليبيا نحو المملكة العربية السعودية، مرورا بمياه الجمهورية المصرية. ليفارق الشيخ بوده الحياة بعد عامين من حجه بيت الله الحرام، وكان ذلك يوم الخميس 16 جوان 1967م. الموافق للسابع ربيع الأول 1387ه، في حدود الواحدة ونصف زوالا. بحي العين العتيق، ببرج عمر إدريس. بعد أن بلغ من العمر 64 عاما، تاركا بعده سيدي الشيخ الإمام عمي الحاج الطالب محمد البركة بوده خليفة له في التعليم القرآني والنشاط الديني. وتجدر الإشارة إلى تتلمذ شيخنا محمد البركة على يد والده رحمه الله (1903م-1967م)، ثم على يد أستاذنا الرمز وعميد الأساتذة التربويين في برج عمر إدريس سيدي الشيخ أحميدة غرمة رحمه الله (1916م-2016م). ثم سافر إلى مدينة عين صالح سنة1963م، حيث تتلمذ على يد شيخه الطالب أحمد طاليبو رحمه الله(1939م-2003م)، والشيخ الطالب أحمد الزاوي رحمه الله (1940م-2008م)
إي نعم لقد رحل سيدي الشيخ الطالب بوده، الذي عُرِف عنه تواضعه الجم، وكرمه المشهود، حيث كان يأوي إلى منزله القريب والغريب، ويُكْرِمُ فيه الناس بما أوتي من علم، ورزق حسن. رحمه الله، وأكرمه بشآبيب المغفرة، وأَنْعَم عليه بما وعد به عباده الصالحين، ورحم الموتى جميعا … آمين.