مقالات

السَّيْفُ أَصْدَقُ..

عبد العزيز بن سايب/

إنّها السنة الثانية ثانوي، للسنة الدراسية 1985-1986م..قسم الآداب.. في ثانوية طارق ابن زياد، بسطح المنصورة، بمدينتي الحبيبة قسنطينة.. وضمن المقرَّرِ علينا من المراحل الأدبية.. العصرُ العباسيُّ..
الدراسةُ عاديةٌ..ليس فيها شيءٌ مُمَيَّز.. لكن يَنشبُ أحيانا نقاشٌ يَسخنُ إلى درجة الجدال مع أستاذ مادة العربية وآدابها..
وهذا ما وقع في قلب حصة الأدب العربي والنُّصوص الأدبية..يومَ دراسة النص الشعري لفتح عَمُّورِيَّة، للشاعر الهمَام أبي تمام..
ومناسبةُ نظم أبي تمام لتلك القصيدة أن الروم في إحدى غاراتها على مدينة من مدن الخلافة عام 233هـ، 837 م..أسروا عددا من الرجال والنساء..فاستغاثتْ بالمعتصمِ ابنِ هارون الرشيد إحداهُنَّ مُناديةً «وامعتصماه»..فثارت سواكن المعتصم وبواعثه لما بلغه الشأنُ..وخرج في جيش عرمرم لـ»عَمُّورية» حصن من حصون الروم، وموضع ابن الأمبراطور الرومي..
حذَّر المنَجِّمُون المعتصمَ.. مُتَعَلِّلين بأن كتبَ النُّجومِ تُنبئ أن فتح العمورية لا يُمكن إلا وقتَ نُضْجِ العنبِ والتينِ، وأن الخروج الآن طالَع نَحْس، وأنّه يُكْسَر..!؟
لم يحفل المعتصمُ بهذا التحذير الأخرق، ومضى في سبيله..فسيطر في طريقه على «أنقرة» ثم سار إلى «عَمُّورية» ففتحها..فكانت فرحة عظيمة.. سجَّلها أبو تمام في بائيته..وهو الذي كان مرافقا للمعتصم في هذه المسيرة.. فقال في صدر القصيدة مُعْرِضًا عن التصدير الغَزَلِيِّ المعتاد:
السَّيفُ أَصْدَقُ انْبَاءً من الكُتُبِ   في حَدِّهِ الحَدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ
بيضُ الصَّفَائِحِ لا سُودُ الصحائفِ في   مُتُونهنَّ جلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ
والعلمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لامعةً   بين الخميسين لا في السَّبْعَةِ الشُّهبِ
وقع جِدَالٌ بين أستاذنا ورفاقي الطلاب حول همزة «انباء» هل هي بالكسر أم بالفتح، والأستاذُ يُدافع على الفتح مع طائفة من الطلاب، خلافا لما في المقرر المطبوع، وبعضُ الطلاب مع الكسر..
سألني الأستاذُ عن رأي قائلا: واش آسي بن سايب..واش رَايَك..علاه راك ساكت.. على خلاف العادة..قول وما تخَافَشْ..
والحقيقة أن سكوتي سببه أني أخالف ما انتصر له الأستاذ..فأمِيلُ مع عصابة الطلاب المنافحين عن الكسر. .وهو ضبط الكتاب..
فجاهرتُ الأستاذَ برأييِّ..مبتسما..
فسألني الأستاذ:..عَلاه ..يا بن سايب..كنتُ أظنك ستخالف نص الكتاب، وتقول بالفتح؟!
فأجبتُه..بأنَّ مَيْلِي شُعوريٌّ ذَوقيٌّ فقط، وليس لأمر علمي..فإني أشعر أن عبارة «إِنْبَاءً» بالكسر..فيها معنى الحركة والتنقل والحياة والإيصال والمشاركة..بينما لفظة «أَنباء» بالفتح.. أجدها جامدة على القرار والإخبار المسطر..
لم يُحسم الخلاف في الحصة..وافترقنا على قول الأستاذ (لكم دينكم ولي ديني)..وهو إقرار منه للخلاف وعدم إرغام الطلاب على اختياره..وعدم خضوعه لرأيهم أيضا..
في الحقيقة كلا الضبطين سائغٌ صحيحٌ مبنى ومعنى..لكن من الناحية اللغوية والفنية فكلمة «إِنباء» مصدرٌ، والمصدر يدل على الحَدَث، بينما «أَنْبَاء» جمع تكسير مفرد «نَبَأٌ»..
المهمُ والثمرةُ من قول أبي تمام ـ على الضبطين ـ أن القوةَ هي التي تَستيعدُ الحقوقَ، وتُلجمُ الأعداءَ، وتَكسرُ شوكةَ المغتصبين..
وأن الحسابات الوهمية والخرافية مرضٌ عظيم وداءٌ عضال..يتسبب في ضياعِ الأوطان، واستعبادِ العباد، والخنوعِ للأعداء، والتنازلاتِ غير المتناهية، والهزائمِ المتسلسلة..السياسية منها والنفسية..
وهذا ما صَرَّحَ به أبو تمام أيضا عن طريقة إجابة المعتصم لصوت من استغاثت:
أَجبْتَهُ مُعْلِنًا بالسَّيْفَ مُنْصَلِتًا   وَلَوْ أَجَبْتَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لم تُجبِ
نعم فما أخذ بالقوة لا يستردُّ إلا بالقوة.. وإنَّ الحديدَ بالحديد يُفْلِحُ.. وما أجمل أبيات مُفدي زكريا، وهي كلمات النشيد الوطني الجزائري:
لم يكن يُصْغَى لنا لَمَّا نَطقنا
فاتخذنا رَنَّةَ البارود وَزْنًا
وعَزَفْنَا نَغمةَ الرَّشاش لَحنا
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا… فاشهدوا… فاشهدوا…
إن تائية أبي تمام ريانة بالمعاني الكبيرة التي ينبغي لساستنا وحكامنا أن يغرسوها عميقا في عقولهم وقلوبهم.. ويجسدوها في قراراتهم وسلوكهم..
وما أبلغ وأبرع وأصدق قول أبي تمام:
رَمى بِكَ اللَّهُ بُرْجَيْهَا فهَدَّمَهَا   وَلو رَمَى بِكَ غيْرُ اللَّهِ لمْ يُصِبِ
مِنْ بَعْدِ مَا أَشبوهَا واثقِينَ بِها   واللَّهُ مِفْتَاحُ بَاب الْمَعْقِلِ الأَشِبِ
نعم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)..(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)..
فهذا تذكيرٌ سَلِسٌ من أبي تمام لحقيقة كونية وعقائدية..حتى لا يَسْكَرَ المنتصرُ بالنصر، فيظنه من عنده..
بل يزيد أبو تمام في روائع هذه القصيدة وهو يشير إلى مهام رؤساء المسلمين وقادتهم بطريقة فنية فيختمها بواجب الحكام وتضحياتهم في سبيل خدمة الدين والوطن..فقيمتُهم عُلوا أو ضُمورا..عند الله وعند عباد الله..بل حتى عند الأعداء منهم..ناظرةٌ لذلك، قال رحمه الله تعالى:
خليفة اللَّهُ جَازَى اللَّهُ سَعْيَكَ عَنْ   جُرْثُومَةِ الدِّينِ وَالْإِسْلاَمِ والحَسَبِ
بَصُرْتَ بِالرَّاحَةِ الكُبْرَى فَلمْ تَرَهَا   تُنَالُ إِلاَّ عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ

راجعتُ حين كتابة هذه المقالة ضبط كلمة «انباء» في ديوان أبي تمام المطبوع..فوجدتُها بالكسر..
ولما أردتُ مطالعةَ هذا النص في مقررات أبنائنا اليوم..تَفَاجَأْتُ وتَوَجَّعْتُ لما وجدتُ هذا النص محذوفا..رغم أنه من روائع الشعر في الحماسة وإذكاء روح جهاد الاستدمار ومقاومة الأعداء وتحرير الأوطان..
فما الداعي لإطاحة مثل هذا النص الرائع!؟..علما أن تلك المقررات ـ التي كانت زمان دراستنا ـ هي من أنفع المقررات..فقد قام عليها ثُلَّةٌ من خِيرة أبناء البلاد علما وغَيرة..وتحت إشراف الشيخ الفاضل عبد الرحمن شيبان رحمه الله تعالى الذي كان وقتها المفتش العام في وزارة التربية والتعليم..
تنبيه: الجُرْثُومَةُ في اللغة: الأصلُ، فجُرثومة الشيء: أصله .

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com