صوم رمضان..الدلالات والمعاني والمقاصد/ د. إبراهيم نويري
في دنيا الناس اليوم وبين جنبات صخب وضجيج الـمعركة التي تنتظم الحياة البشرية حول بؤرة مطالب الجسد، لا نكاد نسمع عاليا سوى الصياح المتواصل وراء وقود الشهوات والرغائب الجسدية والمادية، وممّا زاد في قتامة هذه الصورة أن هذا الصياح المهتاج اختلط فيه – بكيفية تراجيدية بائسة – أنين الحرمان ووطأة الإملاق، بسعار الجشع ولهفة الشراهة المتقدة في دماء الإنسان.
إن نبرات هذا الصياح تغلّبت على “سيمفونية ” الواقع الذي نحياه حتى لتكاد أقطار المعمورة لا تعرف أو تسمع غيرها، ففي كل قارات وجهات الدنيا لا حديث هناك إلا عن ضرورة رفع المستوى الاقتصادي وتحسين نسب الدّخل الفردي والجماعي، وضمان مقادير موفورة من الرغبات والشهوات للكبار والصغار..للقادرين والعاجزين على السواء.
ولا يصح بحال أن يفهم من هذا التوصيف لواقع الناس المعيشي، أن الإسلام لا يشجع على رفع المستوى المعيشي والاقتصادي والمادي للإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي، فلا أعتقد أن شيئا من الاضطراب في الفهم قد يجد موقعه في خلد وإدراك القارئ اللبيب والمفكر المستنير، فإن هذا الدين – بتعاليمه الواقعية الفذة – يدرك أن المال منذ أخذ الناس يتداولونه وهو آخذ بنواصي حياتهم يكاد يصرفها كيف يشاء، كما يدرك أيضا أن العناية بالجانب المادي والاقتصادي لدى كل فرد أمر مطلوب لا مندوحة لنكرانه أو التجهم له مطلقا، طلبا لحفظ كرامة الإنسان وصون إنسانيته من مخاطر ومساوئ الاحتياج والحرمان.
التوازن منهج صحيح
إذن ينبغي أن ندرك جميعا أن الإسلام يقيم الحياة كلها – بما في ذلك العبادات وشتى التكاليف الدينية والاجتماعية – على مبدأ الوسطية والتوازن وهو مبدأ مبسوط منساب في تعاليم الإسلام وإرشاداته وتصوراته الكلية دون استثناء.. ولعل فريضة صوم شهر رمضان، تجيء كل عام لتثبت وتؤكد معالم هذه السمة البارزة في تشريعات الإسلام وتعاليمه، لأن للنفس سطوة على روح الإنسان من خلال ثقل الغرائز الدنيا وتداعياتها البيولوجية التي لا يكاد ينضب لها معين في إهاب هذا الإنسان.
إن الخالق الحكيم- صاحب هذه الصنعة البديعة- يعلم وعلمه كامل مطلق- بأن ثقل هذه الغرائز التي أودعها فطرة وكينونة هذا المخلوق العجيب، تهبط الروح وتهوي بها في أوحال الطين وهي بحكم عنصرها السماوي تهفو للانطلاق والانفلات من إسار مطالب الطين وغرائز الجسد المختلفة وفي ضوء إقرار هذه الحقيقة القرآنية – العلمية، يمكن لكل متأمل أن يفهم جوانب كثيرة من أسرار وخفايا فريضة الصيام في الإسلام.
ومن الأخطاء البالغة السوء في أذهان وتصورات الكثير من الناس، اعتقادهم بأن تحقيق وتلبية مطالب الجسد وأشواق الروح في كيان الإنسان بصورة متكافئة أمر ميسور – لما له من دعامات فطرية- دون حاجة لبذل الضريبة المقدرة من جهاد النفس؟ وهذا الاعتقاد بلا ريب جهل مركب بحقيقة وطبيعة هذه النفس.
إننا مثلا في مجال التعليم نجعل للتلقي عدة مراحل موصولة، ونزود كل مرحلة ببرامج ومفردات مناسبة يراعى فيها القدرة الاستيعابية لتحقيق التفاعل المطلوب، وقد تفوق هذه المراحل مجتمعة عشرين عاما أو ربع قرن، وذلك كي نحصل على عقل مستنير ينطوي على قدر محترم من العلوم والمعارف، تمكنه من الحكم على الأشياء وإدراكها بكيفية سليمة؟ فهل يصح أن نعتقد بعد ذلك بأن النفس – وهي أعقد وأغمض من فهم العقل – تحتاج إلى آماد أقل وإلى جهاد أضعف، كي تستقيم طباعها وتعتدل شهواتها وتتكون لديها حصيلة كافية من القدرات على التسامي وإدراك مراتب الكمال؟
فلا شك إذن أن حاجة النفس البشرية إلى التزكية والتهذيب والمراقبة مثل حاجة العقل للتثقيف والصقل وتنمية المعارف والمدارك… بيد أن هذا التوازن وهذه الوسطية تحتاج إلى جهاد موصول المراحل والحلقات، فإذا حدث أن غفل الإنسان عن العمل بمقتضيات هذه الحقيقة المقررة في ثنايا الوحي الكريم والتعاليم الراشدة تغلب حتما جانب الغرائز الدنيا لثقل عنصر الطين ولشدة وطأة مطالبه في كيان البشر.
إن التوازن في تحقيق أشواق الروح ورغبات الجسد منهج صحيح، وفكر سليم له ثمرات يانعة سواء على مستوى الحالات الخاصة لدى آحاد الناس أو على مستوى واقع الحياة بصفة عامة..ومن ثمة فإننا نعزو جزءا كبيرا من المآسي الإنسانية لعدم إحلال عنصر التوازن المكانة اللائقة به في النفوس البشرية.
وكذلك إلى التسليم بجدواه على مستوى نظري فحسب، ذلك أن معظم الناس لا يمارون بهذه الحقيقة في مستواها المجرد، بل نراهم يعتبرونها من المسلمات القطعية، لكنهم- مع كل ذلك – لا يفسحون لها المجال – عمليا – لتنتقل من محيط ألبابهم إلى شغاف قلوبهم، حتى تتحول من فكرة ذهنية إلى سلوك ماثل حي.
هذا هو الفارق الجوهري الذي يتميز به الإسلام عن بقية المذاهب الوضعيّة الأرضية التي جعلت كيان الإنسان حقلا فسيح الأرجاء لصراعات موصولة، لا تسفر في الغالب الأعم إلاّ عن تمرد ظاهر على الأساس الإلهي في الحياة الإنسانية بسبب تغليب الشراهة المادية وسطوة عبادة الجسد؟ أما الإسلام – كما يقول بحق الشيخ الغزالي (رحمه الله) – فلا يوجد في تعاليمه”تغليب للجسد على الروح، ولا للروح على الجسد، إنما فيه تنظيم دقيق يجعل معنويات الإنسان هي التي تتولى قياده وتمسك بزمامه، فلا هو براهب يقتل نداء الطبيعة ويميت هواتف الفطرة، ولا هو مادي يتجاهل سناء الروح وأشواقها إلى الرفعة والخلود”.
ولعل هذا الأمر يمثل أحد أسرار إقبال الناس على الإسلام في هذا العصر خاصة بين أبناء البيئات التي سخرت العقول وكشوفات العلم للشهوات، وأخرست نداء الروح وأطلقت العنان لنداء الطين، دون أدنى التفات لطبيعة وحقيقة الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
الصوم أداة توازن فذة
على هذا المستوى تحديدا يمثل صوم شهر رمضان كل سنة قمرية لدى الإنسان المسلم – إضافة لأيام التطوع والثواب – أداة توازن فذّة مشحونة بطاقة عظيمة من الحيوية والفاعلية، إذ يوفر صوم هذا الشهر محطة مشتركة بين أبناء الأمة الإسلامية، لشحذ القوى الروحية وتنمية مختلف جوانبها ومتطلباتها وأشواقها، فتتمخض هذه المكابدة عن إضعاف أو كسر العادات الروتينية لمطالب الجسد التي لا تقبل – بطبيعتها – حرمانها أو عدم إسعافها ومدها بوقود إكسير منهوماتها من الرغائب والمشتهيات المختلفة.
وهناك ملاحظة يستحب تسجيلها في هذا السياق، هي أن عملية التوازن بين أشواق الروح ومطالب الطين عند الإنسان المسلم التي يحصلها بالأدوات والأساليب التي بينها الشرع الحنيف من صلوات وأذكار وصوم وتأمل.. هي يقينا غير عملية التوازن – أو بالأصح التعذيب – التي يمارسها بعض الرهبان النصارى أو فريق من فقراء الهنود -ممن يسمون بأصحاب الخوارق- فهؤلاء يقومون بجهاد نفسي يستهدف حرمان الجسد من منازعه ورغائبه المألوفة، وهو جهاد مسنود بعزيمة قوية لا شك في ذلك، لكنه مع ذلك يفتقر إلى البصيرة والحكمة الراشدة، فهو مجرد تعذيب للجسد بواسطة شحذ واستعراض”العضلات” الروحية، يشبه ما يقوم به بعض الرياضيين والبهلوانيّين من ألعاب وعروض ومغامرات غير عادية برأي جمهور الناس.
أما الجهاد النفسي الذي يؤديه الإنسان المسلم خاصة من خلال فريضة الصوم فهو استجابة كريمة لنداء الروح كجوهر أساس وفاعل في كينونة الإنسان، أي إنّه وفاء بحقوق الصلة العليا واحتفاء بنسبنا السماوي الكريم. فينبغي أن نستنبط من هذه الحقيقة: أن الإسلام منهج لا يكترث لكل عناء أو حرمان يتجشمه الناس في حياتهم الخاصة، بل لابد – كي يكون مقبولا – أن يكون محكوم البداية والنهاية بهدي السماء وصحة الأداء وسلامة القلب والقصد.
إنّ الفرد المسلم اليوم في هذا العصر الذي يطفح بالآثام المادية، والذي يتّسم بميزة المسارعة في إشباع الغرائز واسترضاء الأهواء الدنيا والاستسلام الكلي أو الجزئي، لنوازع الشره والأثرة والشهوات الفائرة المحمومة..يجد حقا في صوم رمضان دوحة ظليلة لتسنم الكمال ومعايشة الفضائل ومحاسن الخلال، ومن ثمة فإن الصوم – وفق هذا التوصيف الصحيح – وإن صاحبته مشقة محدودة فهو لا يسمى تعذيبا للجسد إلا إذا اعتبرت الرياضة البدنية أساليب وطرائق لهدم الجسم الإنساني وتعويقه عن أداء الواجبات والأعمال المنوطة به.
فلا غرو مطلقا بعد ذلك أن يكون الصوم في شريعة الإسلام وسيلة توازن فذة بيد المسلم يحقق من خلالها أسمى نتائج الكمال النفسي، ويجني أجمل الثمرات بوسطية فريدة لا تحرم الجسم من شهواته ورغباته إلا لماما، ولا تجعل الروح تعيش – داخل إسار أثقال الطين – في غربة كئيبة لحرمانها من الاتصال بعالمها العلوي ونسبها السماوي.
الصوم مقاصد وأسرار:
ممّا تقدم يتضح جليا أن الله تبارك وتعالى عندما شرع فريضة صوم شهر رمضان وجعلها الركن الرابع من أركان الإسلام، دل ذلك يقينا على وجود أهداف ومقاصد وأسرار تنطوي عليها هذه الفريضة العظيمة، وأنه من الخير للعقل أن يشحذ قواه ومداركه للوقوف على بعض جوانب طبيعة ودلالات هذه المقاصد والأسرار.
ربما يدور كلام كثير على الألسنة حول هذا المحور تحديدا كلما أقبل شهر رمضان لكننا لا نرى أي غضاضة في ذلك، وقديما قال الحكماء: لولا أن الكلام يكرر ويعاد لنفد..ثم إذا كان مثل هذا الكلام مرتكزا على فضائل التذكير الديني، والتأمل الذي جعله الإسلام فريضة إسلامية – كما يقول العقاد – كان بلا ريب أدعى إلى ضرورة استدعائه في الفكر والروح والوجدان من أي كلام آخر، بل إنه لا يسمى بهذه الصفة الحميدة تكرارا وإعادة إلا تجوزا.
إن الهدف الأسنى للصوم في الإسلام واضح لا يحتاج إلى كثير جهد أو كثير تأمل – خلافا لبقية المقاصد والأسرار – لأن النص القرآني بدلالته الظاهرة قد بينه بجلاء ولم يشأ إخفاءه، وهو يتمثّل يقينا في تقوى الله تباركت أسماؤه وحسن رعاية حقوقه. جاء ذلك النص في قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة183)، فهذا الهدف الجليل – كما يبدو- يمثل الحكمة المركزية لفضيلة وفريضة الصوم في شريعتنا السمحة.
أما المقاصد والأسرار المنبثقة والمتفرعة عن هذا الهدف فهي متروكة لنظرات العقول واستقراءات تجارب البشر، ويمكن التذكير بأهم ما يتجه له الفكر أثناء التدبّر والتأمّل:
1 – تحرير إرادة وعزيمة الإنسان المسلم:
إذا يشعر الواحد منا بأنه عبد خاضع لشهواته ومطالب جسده، فإذا أقبل شهر الصوم انتفضت في أعماقنا إرادة قوية تستهدف تحقيق الاستعلاء والتحرر المؤقت من بوتقة تلك المطالب، وبهذه العزيمة تتاح فرصة لروح المسلم كي تنتعش أكثر وترفرف بأشواقها العلوية إلى أسمى المنازل.. إنّ هذه المجاهدة العظيمة التي يؤديها المسلم – بتوفيق الله – لها آثار جليلة وثمرات يانعة في طريق المؤمن إلى خالقه العظيم، إذ تصفو نفسه بهذا المحك الحقيقي لامتحان إرادته؛ هذه النفس التي يقول عنها صاحب الإحياء الإمام الغزالي أنها “قادرة على اجتياز السماوات بالرياضة الروحية حتى تمثل بين يدي الله تعالى”… ثم إن هذه المجاهدة النفسية العسيرة تحقق التوازن المطلوب بين حقوق الروح وحقوق الجسم، وهو ما ألح في طلبه من قديم الشاعر المسلم أبو الفتح البستي حين قال في بعض أبياته:
يا خـادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران؟
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
2 – تدريب النفـس على تحمل المشقات المحتملة في حياة كل إنسان وأمة:
من المعروف أن كل إنسان قد يتعرض لشدائد وأزمات عسيرة في حياته، وكذلك الأمر بالنسبة للشعوب والأمم كما تثبت ذلك حركة التاريخ البشـري، وهنا تتجلى إحدى أهم أسـرار فريضة صوم شـهر رمضان، فهذه الفريضة الجليلة تمنح النفس المؤمنة طاقة معنوية فاعلة تساعدها في مواجهة تحديات الحياة ونوازل الأحـداث والوقائع والظروف التي لا تخلو من واقع أي فرد أو جماعة من الناس.
فالمسلم عندما يسـتجيب لأمر الله تعالى فيصوم رمضان ويزيد عليه أياما أخرى خلال كل سنة هجرية اقتداء بسنة رســول الله – صلى الله عليه وسلم – تتقوى في أعماقه ذخيرة الصبر وهذه الذخيرة النفسية تشكل لديه رصيدا مهما يسـتمد منه الثبات والشموخ أمام شتى الصعاب ومختلف الأزمات التي تكتنف حياته وتعترض سبيله، فلا غرو بعد ذلك أن يكون النجاح في كل شـيء انعكاسا للصبر وتحميل النفس الشدائد وفطامها عن رغائبها وميولاتها التي لا تنتهي، وقد ذكر فضيلة الدكتور الشرباصي في موسوعته الجليلة النفيسة “أخلاق القرآن” أن الصبر اسم من أسماء الصوم، وأن رمضان نفسه يسمى شهر الصبر.
3 – ترسيخ قيم الواجبات الاجتماعية:
إذ لا يصح بحال عدُّ الصوم عبادة فردية محضة – كالذكر والتفكّر – إنما هو عبادة يقوم بها الفرد المسلم ليزداد شعوره بالجماعة، فلا شك أن من يظمأ ويجوع ويرهق في صومه يقوى إحساسه بمكابدات الآخرين ممن يعيشون حالات العوز وأوضاع الحرمان والحاجة، فيحركه ضميره حينئذ فيسعى بذلك الدافع الإيماني لرفع الغبن عنهم ومساعدتهم بما يستطيع.
فالبعد الاجتماعي إذن بهذه الصفة الواقعية المعيشة لا ينفك أبدا عن فريضة الصوم، بل هو مقصد من مقاصدها وسر من أسرارها، ولعل من يراقب مجتمعات المسلمين خلال شهر رمضان يتأكد يقينا من هذه الحقيقة، إذ يكثر الخير عن طريق المواساة والتضامن والتكافل الاجتماعي، وهذا المبدأ الجليل كان راسخا في خلال النبيين والصديقين والسلف الصالح لهذه الأمة المسلمة. فقد كان يوسف عليه السلام لا يشبع من طعام رغم أن خزائن مصر كلها تحت تصرفه، فلما سئل في ذلك قال ” أخشى إذا شبعت أن أنسى ما يفعله الجوع بالفقراء والمساكين”، كما ورد في الآثار، كذلك أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان في رمضان أجود ما يكون فهو أجرى بالخير من الريح المرسلة. وهو تعبير جميل ينم عن شدة مواساته وتضامنه مع ذوي الحاجات والإملاق والمسغبة.
الصوم..العبادة المعجزة:
إن الصوم بالإضافة إلى كونه ركنا من أركان الإسلام – إذا تعلق الأمر برمضان – وعبادة يتقرب بها المسلم لربه ويستقيم بها على نهجه، يعد إلى جانب ذلك وسيلة ناجعة للشفاء من أمراض وعلل كثيرة، خاصة تلك المتعلقة بسوء إطراح بعض الفضلات والسموم الناتجة عن مواد غذائية معينة، إلى درجة أننا نجد أطباء كثيرين ينتسبون إلى مدارس علمية شتى، وأديان مختلفة في العالم، يجمعون على عظيم الفائدة التي يجنيها المرء بالصوم، ففي بعض كتب تاريخ العلم نجد أن الأطباء القدامى – قبل الميلاد – استخدموا الصوم كوسيلة لعلاج حالات اليرقان وداء الصرع، مثل الطبيب “اسكالبيا” والطبيب “تيسالوس”، والحكيم الشهير “هيبوقراط” الذي يسمى أبا الطب اليوناني.
وفي العصر الحديث كتب الدكتور”وولف باير” وهو طبيب ألماني مشهور كتابا أسماه “العلاج بالصوم علاج المعجزات” أكد في بعض فصوله على أن الصوم هو الواسطة الأكثر فعالية من أجل القضاء على أي مرض من الأمراض، ثم أضاف قائلا: إنّ الصوم والجراحة هما الأمران الكبيران الهامان اللذان نملكهما في عتادنا الطبي، ويقول الدكتور “أوزبك” أستاذ الجراحة في أوبسالا: ” لقد حصلت على نتائج باهرة في أغلب الحالات المرضية التي عالجتها بالصوم”.
الأمر الذي جعل الإدارة المسؤولة في تلك الجامعة تخصص جائزة مقدارها خمسة آلاف دولار، إلى جانب خمسمائة دولار تقدم كل شهر لهذا العالم تشجيعا له على نجاحه في أبحاثه وتجاربه العلمية. أما الدكتور “ثون سيلاند” من الأطباء الروس، فقد كتب يقول بعد سنوات من الممارسة الطبية والتجربة العلمية: عقب جميع التجارب التي أجريتها، توصلت إلى أن الصوم ليس فقط واسطة علاجية من نوعية جيدة جدا، بل إنه يستحق الاحترام من وجهة النظر الثقافية أيضا.
فما أحوج المسلمين إلى أن يستفيدوا من هذه الفريضة الجليلة، وإلى إعمال النظر والفكر بشكل دائب دائم لاستيعاب مقاصدها وأسرارها وأبعادها المختلفة، وتفعيل ذلك عمليا وسلوكيا في واقع حياتهم وضمن نطاق شبكة علاقاتهم الاجتماعية والإنسانية؛ كي ينتفعوا فعلا بهذه العبادة الجليلة، ويَنفعوا – من ثمّة – غيرهم من الخلق.
نسأل الله الكريم أن نكون في مستوى هذه العبادة الجليلة التي يتجلى فيها الإخلاص والإيمان والصبر في أبهى صورة وأنقى مثال. والله وليّ التوفيق.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين.