في ذكرى الهجرة .. رغم النزوح و الجروح والقروح ، فلسطين على طريق الــمُهاجِرِ المجاهد الحبيب «سائرون، ثابتون، صامدون، ثائرون..»!!
أ. محمد مصطفى حابس جنيف/سويسرا/
مع بداية العام الهجري الجديد 1446 هـ ومع مرور الأيام والأشهر والسنون والأجيال، حري بنا – كبشر وبني بشر، ينتسبون للرسالة الخاتمة – أن نذكر دائما وأبدا، أننا في حاجة ماسة إلى تجديد النظر وتعميقه في مجموعة من مفاهيم الهجرة، ومحاولة تفكيكها والبحث عن القيم المركزية الكبرى المكونة لجوهرها في عصرنا الحالي، ثم إعادة صياغتها معرفيا ومنهجيا ومقاصديا، واستعادة رسالتها وفاعليتها ودقتها وواقعيتها، لأن الجمود الفكري في القرون المنصرمة ساهم في قتل وتشويه حزمة من المفاهيم المركزية في الإسلام، وأفقدها جوهرها وحيويتها وأجهز على قوتها وإمكانيتها الحضارية..
إذا كان سيد الخلق وحبيب الحقّ وقُطب دائرة الأكوان – صلى الله عليه وسلم- يقول «لا تَكِلْني إلى نفسي طَرْفةَ عَين» أي: لا تَصرف عِنايتَك عني، ولا تمكُر بي، ولا تخذُلني، ولا تفجأني ولا تَفجعني، فما نقول نحنُ وكلنا عَورة وأخطاء وزَلل في عيشنا و تصرفاتنا وهجرتنا؛ يُعلّمنا صلى الله عليه وسلم أن الإنسان ضعيف لا يمكن أن يستغني عن خالقه مهما بلغ، ومهما توفر له من أسباب الحياة و العيش الكريم في هذه الدنيا الفانية، ومهما توفرت له أسباب السعي فيها؛ وأنَّ الله لو صرَف عنايتَه لحظةً واحدة عن هذا الكون لاختلّ نظامه وتهدّمت أركانه «إن الله يُمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إنْ أمسكهما من أحد من بعده».. وبالتالي صار المسلم مجبرا أن يشد روحه و بدنه بهذه العروة الوثقى، في حله وترحاله، وهذا الذي نعيشه ونلحظه اليوم في المشرق كما في المغرب، وما حال إخواننا في فلسطين السودان و الصومال .. عن المبصرين ببعيد.
عبقرية الصحابة في « تقديم الرسالة على الرسول وتقديم المنهج على الشخص»:
وقد أشار العلماء – بعد ذلك – في مقام آخر، إلى عبقرية الصحابة في اتخاذ تاريخ هجرة النبي، للتقويم الإسلامي، بدل تاريخ ميلاده أو موته أو غير ذلك، كما هو الشأن بالنسبة لمن سبقهم من الملل و النحل و الاقوام كاليهود والنصارى و ..!! .. بحيث يبهرنا العلامة غازي التوبة، حفظه الله، بهذه الحقيقة الناصعة، التي غفل عنها الكثير من العلماء المعاصرين و الأقدمين، أي تقديم الرسالة على الرسول إذ كتب يقول – حفظه الله-:
« إن تقديم الرسالة على الرسول وتقديم المنهج على الشخص – في اختيار الهجرة مبتدأ التاريخ- كانت نقلة نوعية في تاريخ البشرية لأن معظم الضلال الذي وقعت فيه الأمم السابقة على الإسلام كان من تعظيمهم الأشخاص وتقديمهم على المنهج والوقوع بالتالي في تأليههم وعبادتهم بعد ذلك» ، وهو تفسير غاية في الأهمية و غاية في المنطق، كما أشرنا لذلك في مقال الأسبوع الماضي !!
من معاني و دروس الهجرة …
ومفهوم “الهجرة” من بين المفاهيم التي ينبغي تجديدها وبناء الوعي الرسالي بمقاصدها والقيم البراقة والمعاني الرقراقة المستنبطة من هذا الحدث العظيم في تاريخ المسلمين، والذي يعد مبعثا ومنطلقا حضاريا لميلاد حقيقي للأمة الإسلامية.
وأما الهجرة في اللغة فقال الجوهري: الهجر ضد الوصل، والمهاجر من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية، والتّهاجر هو التقاطع قال تعالى: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) [النساء:34] وأما الهجرة في المدلول الإسلامي فهي الحدث الكبير الذي شكل منعطفا فارقا في تاريخ الدعوة الإسلامية، وهي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة، بعد الاضطهاد و الجور والتعذيب الذي تعرضوا له على أيدي صناديد قريش وجباريها.
خير أرضِ وأحبُّها إلى الله، ولولا أني أُخرِجتُ منكِ ما خرجت..!!
أهم درس نتعلمه من هذا الحدث الكبير، لأنهفعل الهجرة ليس بالأمر السهل والبسيط، بل فيه الاكراه على المغادرة، مع ترك للأموال والدّور والأبناء والأحبة وللغالي والنفيس من أجل رسالة الإسلام أي من أجل الله ومن أجل رسوله صلى الله عليه وسلم، وهنا وقف الرسول الكريم لكي يؤكد على مضمون الهجرة ومقاصدها العالية بقوله في الحديث الصحيح “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”
إن يوم الهجرة، هو اليوم الذي استدار فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب على راحلته.. استدار إلى وطنه مكة المكرّمة قبيل هجرته إلى المدينة المنوّرة.. ناظراً إلى أُفقِها البعيد، مُوَدِّعاً أغلى وطنٍ وأحبَّه إلى نفسه، قائلاً بمرارة المهاجر المتألم المقهور: [والله إنكِ لخير أرضِ الله، وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجتُ منكِ ما خرجت.].. (رواه أحمد والترمذي والنَّسائي).
حين تكون الهجرة لله فرارا بالدين، تتصاغر أمامها كل الشهوات
وهذه هي حقيقة الهجرة التي لا زيف فيها، الهجرة التي يفر بها المسلم بدينه خوفا عليه، والتي من أجلها يترك ماله ووطنه وتجارته، وهو معنى ثابت متجدد على مر العصور والدهور، ويمكن الاستئناس في ذلك بقوله عز وجل: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ
فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}.
ولعل هذا المعنى هو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، ولو في ذلك هجرة المكان. وحين تكون الهجرة لله فرارا بالدين، تتصاغر أمامها شهوات النفس كلها، من المال والجاه والأرض وغير ذلك، وهذا ما حدث مع صهيب الرومي – رضي الله عنه -، فقد أراد الهجرة للنبي – ص- فاعترضه أهل مكة، وقد كان صهيب عبدا، فكاتب سيده، وأصبح حرًّا، ثم أصبح تاجرا، فساومه أهل مكة على غناه وتجارته، فترك لهم دنياه، لينال رضا الله تعالى، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فرح به قائلا: «ربح البيع أبا يحيى».
فعندما ضاقت السُّبُلُ بالمجاهد العظيم صلّى الله عليه وسلّم، خرج مُهاجراً من دياره إلى أرض الغربة، ليعثر في ذلك على بركةٍ وقوةٍ ومَنَعة.. خرج بدينه، وخرج أصحابه القادرون على الهجرة، إلى أرضٍ يستطيعون فيها أن يعبدوا الله عزّ وجلّ. ولا يُعدم الرسول العظيم وسيلةً للتهيئة لهذا الأمر، لأنّ المجاهد الحق واعٍ حصيف حكيم، يُخِّطط لخطواته كلها التخطيط المحكم، حتى يبلغَ النجاحَ والانتصارَ، بعونٍ من الله عزّ وجلّ وفَتح..
يخرج العزيز الكريم من أرضه ووطنه، يأبى أن يـَمَسَّه الضعف أو الهوان، ويهيِّئ الله له أنصاراً آمنوا به حَقَّ الإيمان، لا يفكّرون بتحقيق أي مصلحةٍ تعلو على مصلحته ومصالح دينه وأصحابه، ولا يَسْعَوْن إلى استغلال ظروف أولئك الأطهار وضَعفهم وهَوانهم، لإدراك أي فائدةٍ خاصةٍ بهم، فاستحقّوا لقب الأنصار، أنصار الله والرسول والإسلام والمسلمين الأحرار الأعزّة الكرام.. بلا مزاوداتٍ ولا مِنّةٍ ولا أذى.. فاستحقوا وَصْفَ العزبز الكريم عزّ وجلّ:
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر9).
فيُستقبَلُ المهاجر العظيم أرقى استقبال، ويُعزَّز ويُكرَّم، وذلك بعد ثلاث عشرة سنة من الجهاد والعمل الدؤوب الهادف، فيُقيم مع مهاجريه وأنصارهم دولةَ الإسلام العظيمة، على الرغم من أنوف الطغاة عبيد الأصنام والأهواء والعصبيّات الجاهليّة المنحطّة.. ويَسقيها بالإيمان، فتترعرع خيرُ دولةٍ على وجه الأرض، وينمو المجتمع الذي لا مثيل له.
التهجير القسري من أرض المعراج محاولة فاشلة كسابقاتها عبر الأجيال ..
في غزة أهلها يعيشون رحلة الهجرة بين الموت والحياة، يمضون، بعيونٍ مُكحَّلةٍ بدم شهدائها الأبرار، تُرَفرف حولهم أرواحُ أطفال أزهقها الهمجُ الصهيوني، والصامتون العرب، والمتواطئون، والخاذلون، وأوباشُ الشرق والغرب.. ودَجّالو البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي!!
وكما كتب أحد اساتذتنا، من المشردين قسرا، منذ عقود، تاركا بلاده و أرض أجداده، و مسقط رأسه، قوله : «مَن ذا الذي هجر الوطن الحبيب.. لا يتحرّق شوقاً إليه، ولا يتلوّى ألماً عليه، ولا يسكن إلى عبرات الحنين لكل نسمةٍ عليلةٍ كانت تلامس – في رحاب الوطن- وَجْنتيه؟!..
مَن ذا الذي لا تَحْمَرّ مُقلتاهُ عذاباً لفراق وطنه الغالي العزيز، ولا يذوب قلبُهُ كَمداً عليه، ولا يَتوقُ إلى رَيْحانِ ترابه العذب الـمُعَفَّر بلظى ذكراه؟!..
حين نفقد الوطن، ويتعذّر علينا أن نُقيمَ داخله، فَسَنَبْنِيهِ في نفوسنا، ونُسكِنه في أعماقنا، ليصيرَ جَناحَيْنِ لروحنا، نُحِسّ به، ونستشعر عُلُوَّه ومكانَتَهُ، ونندفع لتحريره من طُغاته وجلاّديه ومُحتلّيه.. فمَن تعذّر عليه أن يسكنَ في وطنه، عليه أن يُسكِنَه بين ضلوعه، ليتذكّر في كل وقتٍ وحين، أنّ الإنسان لا قيمة له من غير وطن، فمَن يستردّه في أعماقه، لا بد أن يستردّه من مُـحتَلِّيه وخَوَنَتِهِ الذين باعوه لأوباش الأرض وسَفَلَتِها!.»
و اليوم في ذكرى هجرة الرسول
في يوم الهجرة النبوية، تنفجر الأشجان، لِتُذكِّرَنا، أن أهل فلسطين يتوقون إلى وطنٍ آمنٍ عزيزٍ كريمٍ حُرٍّ مَنيع، تبنيه سواعد و عقول من بقي على العهد من رجالهم ونسائهم الأبطال.
نعم أهل فلسطين، يتوقون إلى وطنٍ حُرٍّ كريم ولسانُ حالهم، يردّد بين جنبات النفس العليلة بِفَقْدِ الوطن، ماردّده قبلهم سيّد خَلْقِ الله، الـمُهاجِرُ المجاهدُ محمّدٌ صلى الله عليه وسلم: [اللهم إليك أشكو ضَعفَ قوّتي، وقلّةَ حيلتي، وهَوَاني على الناس.. يا أرحم الراحمين، أنتَ ربُّ المستضعَفين وأنتَ ربي.. لكَ العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلا بك]!..
و اليوم في ذكرى هجرة الرسول (ص) لا يسع أهلنا في فلسطين في هذه المناسبة السعيدة والصعبة، إلا أن يجَدِّدواَ عهدهم مع الله عزّ وجلّ، إنهم على طريق الــمُهاجِرِ المجاهد الكريم الحبيب العزيز (صلى الله عليه وسلّم).. سائرون، ثابتون، صامدون، ثائرون، ولسان حالهم يردد – نشوانا – دون كلل ولا ملل: «نصر قريب، في سبيل الله لن نحيد ولن نخيب» !!