معــالجــات إسلاميـــة منح الرحمن في شهر رمضان/ يوسف جمعة سلامة
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (1).
استقبل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها شهر الصيام المبارك، شهر القرآن الكريم، شهر رمضان الفضيل بأيامه ولياليه المفعمة بالروحانية، بأجلّ معانيها وأسمى مقاصدها، من صيام بالنهار، وقيام بالليل، وتلاوة للقرآن الكريم في تَبَتُّلٍ وخشوع، يُعظم الله فيه الأجر، ويُجزل الثواب، ويفتح أبواب الخير فيه لكل راغب. شهر الخيرات والبركات، شهر المنح والهبات، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين يُحيون أيامه ولياليه بالصيام والقيام وتلاوة القرآن وفعل الخيرات.
فما أحوج المسلمين في هذا الشهر الفضيل إلى اغتنام هذه الأيام المباركة، وشحذِ الهِمَم والعزائم، وإخلاص النيات، والندم على ما فات، وعقد العزم على فتح صفحة جديدة شعارها العمل الخالص من الرياء، حتى يتداركهم الله بفضله وينزل عليهم نصره، ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى يضاعف الأجر والثواب في هذا الشهر المبارك، حيث أكرم الله سبحانه وتعالى المسلمين في هذا الشهر الفضيل بمنح كثيرة لا حصرَ لها.
بركات رمضانية
من المعلوم أن شهر رمضان المبارك تُفتح فيه أبواب الجنة، وَتُغلق فيه أبواب النار، وَتُصَفَّدُ الشياطين كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ) (2).
ومن الجدير بالذكر أن للصائمين باباً من أبواب الجنة كما جاء في الحديث الشريف، عَنْ سَهْلٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ) (3).
إن الله وملائكته يُصلون على المتسحرين
عند دراستنا لسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، نجد أنّ من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان أنه كان يتسحر ويحثّ على السحور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:)تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً( (4).
وسبب البركة أنه يُقوي الصائم وَيُنشطه وَيُهوّن عليه الصيام، ويتحقق بكثير الطعام وقليله ولو بجرعة ماء؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: )السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ( (5)، وبركة السحور المراد بها البركة الشرعية والبركة البدنية، أما البركة الشرعية: فمنها امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله كما ورد في الحديث السابق. وأما البركة البدنية: فمنها تغذية البدن وتقويته على الصوم، كما يستحب تأخير السحور لما روي عن زيد بن ثابت قال: “تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلاةِ، قَالَ: قُلْتُ: كَمْ كَانَ قَدْرُ ذَلِكَ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً” (6).
العمرة في رمضان تعدل حجة
لقد رغَّب رسولنا صلى الله عليه وسلم المسلمين بالاعتمار في شهر رمضان حيث بَيَّن عليه الصلاة والسلام بأن عمرة في رمضان تعدل حجة معه، كما جاء في الحديث الشريف أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (…فَعُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِى حَجَّةً، أَوْ حَجَّةً مَعِي) (7)؛ وكما جاء في حديث آخر عن عطاء قال: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُنَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لامْرَأَةٍ مِنْ الأَنْصَارِ سَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَسِيتُ اسْمَهَا، مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلا نَاضِحَانِ فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابْنُهَا عَلَى نَاضِحٍ، وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضِحُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً. (8)
أُعطيت أمتي خمس خصال في رمضان
شهر رمضان خيرٌ كله، نهاره وليله، أوله وأوسطه وآخره، كما جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ، لَمْ تُعْطَهَا أُمَّةٌ قَبْلَهُمْ، خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمْ الْمَلائِكَةُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِّنُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ الْمَئُونَةَ وَالأَذَى وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ، وَيُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فَلا يَخْلُصُوا [فيه] إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، وَيُغْفَرُ لَهُمْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ) (9).
أهداف الصيام وفوائده
شهر رمضان هو شهر الصيام لقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، ولشهر الصيام أهداف وثمرات طيبة منها: أنه مكفرٌ للذنوب، لما رُوِي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا) (10).
ومن أهدافه أيضاً أنه شهر التجارة مع الله تبارك وتعالى، فإذا كان تُجَّار الدنيا ينتظرون المواسم لرواج تجارتهم وبضاعتهم وزيادة أموالهم، ويتحملون في سبيل ذلك الآلام والأهوال في السفر، وقد يتعرّضون لكثيرٍ من الأخطار والمخاوف، فإذا حققوا أمنيتهم وربحوا في تجارتهم، ذهبت عنهم تلك الآلام، فما بالكم بالتجارة مع الله تعالى في هذا الشهر المبارك؟!
وللصيام فوائد عديدة أبرزهــا
- الصيام سببٌ في غفران الذنوب، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ(، و)مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (11).
- شهر رمضان موسم من مواسم الخير، حيث يستفيد منه الفرد في زيادة إيمانه، وتقوية عزيمته كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} (12)، كما يستفيد منه المجتمع في تراحمه وتعاونه وتكافله، حيث يعمّ التكافل أفراد المجتمع الإيماني، فيتصدق الغني على الفقير، ويساعد المسلم أهله وجيرانه وأصدقاءه.
- الصيام يُعَوِّدنا على الصبر والنظام، فرمضان شهر الصبر، لذلك من أهمّ حِكَمِ الصيام تربية ملكة الصبر عند الصائم، إذ إنَّ مَنْ صَبَرَ طوال أيام شهر رمضان على احتمال مشقة الجوع والعطش، فإن يرجى أن تتربى عنده ملكة الصبر، كما تأخذ فيه المعدة راحتها الضرورية ورخصتها السنوية مِنْ مشقّة وعناء هضم الطعام طيلة شهور العام، وتتمكن من تصفية السموم التي تبقى وتترسب في جسم الإنسان، وجهازه الهضمي والدموي مع مرور الأيام، إذ إنَّ المعدة بيت الداء، والحمية (أي الوقاية من الأضرار) رأس الدواء.
– الصيام وقاية من الآثام، لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَا مَعْشَر الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) (13)، وفي حديث آخر (وَالصِّـيَامُ جُنَّة) (14)، أي سِتْر ووقاية من الآثام في الدنيا ونجاة من النار يوم القيامة.
– الصيام يحفظ المسلم من الكذب والغيبة والسّباب وطرق الغواية والضلال، لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) (15).
فهنيئاً لمن أدرك شهر رمضان، وشمّر عن ساعد الجدّ، واغتنم حلول هذا الشهر المبارك في طاعة الله ورضوانه، وعمل الصالحات واجتناب المنهيات.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الهوامش:
- [البقرة: 183/ 184]
- أخرجه مسلم
- أخرجه البخاري
- أخرجه ابن ماجه
- أخرجه أحمد
- أخرجه الترمذي
- أخرجه مسلم
- أخرجه مسلم
- أخرجه أحمد
10-أخرجه البخاري
11-أخرجه البخاري
12- [الفتح: 4]
13- أخرجه البخاري
14- أخرجه البخاري
15- أخرجه البخاري.