ذكرى

مشاركة المرأة في الثورة: العبرة والقدوة إطلالة من خلال ذكرى استشهاد فضيلة سعدان 17 جوان 1960

د. مراد قمومية/

تمر علينا في هذه الأيام ذكرى استشهاد البطلة الجزائرية (فضيلة سعدان)، والتي استشهدت وعمرها 22 سنة فقط، وقد كان عُمرا كافيا لتعيشه بُطُوليا يخلدها مع قدوات هذا الوطن. عندما أنظر إلى أعمارنا وأعمار ذلك الجيل، خاصة أولئك الذي استشهدوا في سن العشرينات من أعمارهم، يذهلني الوعي والنضج اللَّذيْنِ كانا يملكانهما، والمواقف والأعمال العظيمة التي ثبتوا عليها.

المولد والنشأة
ولدت فضيلة سعدان في 10 أفريل 1938 بقصر البخاري (المدية)، كان والدها يعمل في مدرسة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبعد وفاته عام 1940، رحلت أمها بها وبأختها مريم إلى الجد من الأم بعين مليلة لعامين، ثم إلى منزل الخال علي شطاب بالحروش (سكيكدة) في 1942 حيث أدخلتهما إلى المدرسة الابتدائية، وحصلت على القبول في السنة السادسة خلال العام الدراسي 1948/1949، وتدرجت في تعلمها حتى التحقت بالتعليم الثانوي بثانوية الحرية حاليا بقسنطينة.

من مواقفها البطولية في مرحلة مبكرة
قامت بتجنيد زميلاتها إلى اضراب عن الطعام، وذلك رفضا لأكل لحم الخنزير الذي فرضته إدارة الفرنسية للثانوية، وبعد ثلاثة أيام من الجوع والتحدي تمكنَّ من الحصول على لحم حلال، لقد كانت قضية عقيدة فرضت عليهم وزميلاتها احترامها.

شهادة المجاهد حشاش العيد المدعو (بابانا)
في 1956 حوصر جماعة من المجاهدين بجبل الوحش في نواحي قسنطينة فأراد المجاهد (بابانا) أن يخرج أولا ليخاطر بنفسه حتى يفك الحصار ويوفر الحماية للآخرين عند خروجهم من بعده، فعارضته وجادلته فضيلة وسبقته مفضِّلة التضحية بنفسها لأجل أن يسلم الآخرون، وفعلا خرجت تطلق النار وكانت تحسنه، وساهمت مساهمة كبرى في فك الحصار وخروج المجاهدين سالمين. (روى الشهادة المجاهد رابح مشحود لوثائقي قناة الذاكرة «8» التلفزيون الرسمي الجزائري، إنتاج مارس2022).

المشاركة في إضراب الطلبة ودخول السجن
عندما قرر الطلبة الجزائريون إضرابهم الشهير يوم 19 ماي 1956 شاركت فضيلة سعدان مشاركة فعالة مضحية بالسداسي الثاني من البكالوريا، حيث قامت بالإعداد لهذا الإضراب بالثانوية التي كانت تدرس بها (ثانوية الحرية حاليا بمدينة قسنطينة)، وقد اتهمت على إثر ذلك بأنها المفكر والمحرض على الإضراب بثانويتها، فاعتقلت وأودعت (سجن الكدية) في شهر نوفمبر 1956 الذي قضت فيه 8 أشهر.

السفر إلى فرنسا
بعدما نجحت جبهة التحرير الوطني في إخلاء سبيلها من خلال المحامي الذي كلفته بمتابعة قضيتها، سافرت بأمر من أمها إلى فرنسا عام 1957، لتتابع دراستها لدى أقرباء لها هناك بعيدا عن أعين الشرطة، وأثناءها شاركت في توعية العمال من أجل القضية الجزائرية. وتحصلت على شهادة البكالوريا (السداسي الأول) بجدارة إذ كانت الأولى على مستوى دائرتها، الأمر الذي دفع الصحافة الفرنسية للحديث عنها.

منعطف حياتها وقرار العودة
بعدما ألقت السلطات الاستعمارية القبض على أختها مريم، وعذبتها حتى استشهدت (22 ماي 1958) قررت فضيلة العودة بسرعة إلى الجزائر العاصمة شهر جوان، والتحقت بصفوف جيش التحرير في مدينة قسنطينة، وتكفلت بعدة عمليات فدائية أي بوضع القنابل ضد الأهداف الاستعمارية داخل مدينة قسنطينة، طوال أعامي 1958-1959 وأوائل عام 1960.
وفي الأسبوع الأول من شهر جوان 1960 وُشِيَ بها فحاصرتها الشرطة مع عدد من رفاقها الفدائيين، فوج منهم في باب القنطرة وفوجها في الرصيف داخل المنزل، وقامت بنسفه بمن فيه ومنهم فضيلة سعدان، وذلك بتاريخ 17 جوان 1960 عن عمر 22 سنة فقط.

العبرة والقدوة
1- التميز الدراسي: التفوق في الدراسة وضرب المثل في طلب العلم والنبوغ فيه، وهي رسالة واضحة ومباشرة لجميع الطلبة، أن يكونوا جادين في دراستهم حد التفوق الذي يستطيعونه، فاللحظات الفارقة في حياة كل أمة يصنعها المتفوقون والاستثنائيون في العلم والعطاء والنضال.
2- التضحية والوطنية المبكرة: الاهتمام بقضايا الوطن منذ سن مبكرة، والتفكير في تقديم مواقف وأعمال تحفظ انتماءه ووحدته واستقلاله، فقد انخرطت في صفوف جبهة التحرير منذ 16 من عمرها، وشاركت المجاهدين كواحدة منهم، وضحت بأن تكون لها حياة خاصة من أجل الأجيال القادمة إلى الحياة.
3- مشاركة الرجل في القضايا الكبرى: ضمت جهودها إلى جهود الرجل من أجل غايات كبرى للمجتمع والوطن، لو فكر أولئك النسوة الثوريات بعقلية الحقوق وحدها بعيدا عن الواجبات وعن احتياجات المجتمع أو بعقلية النسوية المتطرفة التي تجعلهن مقابل الرجل كالضد لا كالشريك – لما استطعن تقديم ما قدمن من أعمال نضالية وبطولية خلدت أسماءهن في تاريخ وضمير الأمة، ولَكُنَّ مجرد نسوة عاشوا وماتوا على هامش التاريخ لا يذكرهن أحد.
4- النأي عن مأزق النسوية المتطرفة: من أعظم ما يدفع المرأة المسلمة اليوم ليعزلها عن الانخراط باعتبارها شريكة للرجل في مشروع بناء الوطن انكفاؤها على ذاتها بسبب ما راج من بدعة «النسوية»، وباسم الدفاع عن حقوق المرأة وردِّ الظلم عنها تُمَرَّر أجندات تمسخ المرأة وتعزلها عن المطالبة باحتياجاتها في إطار احتياجات المجتمع، بل تجعلها تواجه الظلم إن كان موجودا بظلم آخر متطرف، يكاد يفقدها أهم خصوصياتها التي لا يمكن أن يعوضها فيها الرجل؛ كونها شق الرجل، كونها أمًّا وزوجة وأختا وبنتا. أحيانا تجرفها الرغبة في إثبات ذاتها إلى ميادين غصت بالرجال لا باعتبارها شقيقة للرجل تتضافر جهودها مع جهوده لأجل غايات كبرى، ولكن باعتبارها ندا مكافئا ومنافسا له حد الضد.
لو فكرت نساء الثورة التحريرية بهذه العقلية، عقلية النسوية المتطرفة، لما استطعن الانسجام مع أهداف الثورة التي وضعها الرجال أصالة، وإذا كان قد سبقها الرجال إلى تفجير الثورة فهي تعلم أنها من أرضعت مع لبنها القيم والاستعدادات في أولئك الرجال.
وحتى عندما استطاعت بعض النساء القيام بأعمال برع فيها الرجال كالقتال بالسلاح ووضع القنابل ونقل الرسائل والأسرار… لم تكن تفعلها لتثبت جدارتها كند للرجال، وإنما هو عطاء طبيعي فطري شاركت به مع الرجل من أجل تحقيق الغايات التي رسموها للمجتمع يومها.
لا بد أن تكون مشاركة المرأة في المجتمع ذات مغزى، وليست مجرد مشاركة ندية أو أحادية، ولا على حساب وضع اللمسات الضرورية التي لا يملك الرجل مؤهلات وضعها في الأجيال أزواجا وأبناءً، لأن المرأة في الحقيقة هي التي توجه الاستعدادات الخفية في الرجل، وهو يخضع للمساتها وسلطانها من حيث لا يشعر، والمرأة إذا تركت دورها الخصوصي الذي لا يمكن أن يسده الرجل، فإننا لا نخسر المرأة فقط بل نخسر المرأة والرجل معا، ونخسر معهما البذل الثنائي المنسجم لغايات المجتمع وإلحاحات مراحل تطوراته.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com