حذار فالأيام تنقلب…بقلم كمال أبوسنة
كان يقول لي عن رجل نعرفه معا حقَّ المعرفة: إنه شخص بسيط لا يستطيع أن ينفع نفسه فضلا من أن ينفع غيره.
وكان يسرف في تمجيد شخص آخر نعرفه أيضا، وكان له إذ ذاك وزنه المرموق، وكلمته المسموعة، ومنصبه الرفيع.
وأذكر أنني قلت له يوما وهو يبالغ في التنويه بهذا والحط من ذاك والتهوين من شأنه:
لا ينبغي للعاقل البصير أن يصرف كل عنايته واهتمامه إلى من يخشى بأسه، ويرجو رغده، فيبالغ في الإشادة به، والتنويه بمآثره ومناقبه، ويهزأ بالمغمور ويسخر منه، أو يضن عليه بكلمة يصفه بها، فقد تنقلب الأيام فيرتقي السافل، ويتسفل العالي، فالأيام كعوامل الإعراب شأنها رفع هذا أو خفض ذاك، فلا المرفوع يبقى مرفوعا ولا المخفوض يظل مخفوضا.
وكان الرجل إذا سمع مني هذا، ابتسم وهز رأسه قائلا: اطمئن يا أستاذ، إن صاحبنا لن يرتفع ما دامت الأرض والسماء.
وشاء القدر أن يتحقق ما كنت أقوله للرجل قبل عشرة أعوام، فتخلى المنصب الخطير فجأة عن رجل أنجاه والمنصب والسلطان، وما هي إلا أيام حتى اختفى اسمه فلم يعد يذكر بين أسماء الأحياء لموته، ولا بين أسماء الأموات لحياته، ودفعت الظروف بالرجل المغمور إلى الأمام فتقدم وترك وراءه رجالا كانوا في اليقظة بمثل هذا المنصب، فاحتاجه صاحبنا في مشكلة لا حل لها إلا على يده، فاضطر أن يتصل به، واحتار في الأمر، وجاءني مستشيرا في هذا الصباح، وقد غاب عن ذاكرتي أمر الرجلين معا، حتى أنني لم أتذكرهما حينما ارتقى أحدهما وانحط الآخر.
فقلت للرجل: إن السلوك الحضاري الأمثل أن لا تغتر بالحال وما يكتنفه من ظروف وأوضاع وتبالغ في الإشادة به أو التهوين من شأنه، فالأيام قلَّب قد تتغير الظروف في لحظة فيصبح السيئ حسنا، والحسن سيئا، فلا ينبغي الإفراط في المدح أو الذم، فكل شيء خاضع للتغيير والتبديل، فالذي تذمه اليوم قد تمدحه غدا، والخامل اليوم قد ينبه غدا، والضعيف الآن قد يقوى بعد حين.
ومن هنا فالعاقل البصير لا يفرط في الصداقة إذا صادق، ولا العداوة إذا عادى، فقد ينقلب الصديق عدوا أو العدو صديقا، فيندم على أشياء لم يكن يقرأ لها أي حساب في جانب صديقه أو عدوه.
ومما يفيد في هذا السياق قول أبي الأسود الدؤلي:
وكن معدنا للخير واصفَحْ عن الأذى
فإنك راءٍ ما عملتَ وسامع
وأحببْ إذا أحببتَ حبا مُقاربا
فإنك لا تدري متى أنت نازع
وأبغضْ إذا أبغضت غيرَ مباين
فإنك لا تدري متى أنت راجع