الرحلة القالمية الخنشلية/ أ، د. عمار طالبي
إنها رحلة في أرض الجهاد والاستشهاد، موطن 08 ماي 1945م، وخروج الشعب متظاهرا ضد العدو الاستعماري الغشوم، متحديا مستشرفا للحرية، ورفض للعبودية والطغيان، فهب العدو بطائراته وأسلحته ومعمريه الظالمين، فأحرقوا القرى والمزارع والحيوانات؛ فكيف بالبشر؟ سفك دماءهم، وأتوا على سبل معاشهم، وظنوا أنهم باقون مخلدون في هذا الوطن، فكان ذلك الظلم والعدوان منذرا بنهايتهم، وأفول وجودهم الأرض الطيبة.
فاختار شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقالمة أن تحيي هذه الذكرى، وذكرى علمائها الذين جاهدوا في سبيل ترسيخ هذا الدين، وهذا اللسان القرآني بتعليم سوره وآياته وحب الوطن، والذود عن حياضهم. وعرينه أسودا هصورين، فكانوا جبالا كجباله، وأوتادا راسخين في الأرض رسوخ جبالها وشعابها، كالشيخ القطب العالم عبد المجيد بديار، والشيخ إبراهيم روايسية، وغيرهم مِن مَن تصدوا للبغاة الاستعماريين، والطغاة المفسدين في الأرض.
فكان هؤلاء وأمثالهم من المجاهدين الوطنيين إرهاصا للثورة النوفمبرية التي اقتلعت جذور هؤلاء الطغاة من أرضنــا، وبشرى للحريــة، لعهد الحرية والاستقلال؛ الذي نتمتع به اليوم، فكانت هذه الندوة لإحياء ذكرى هؤلاء المجاهدين من علماء المنطقة في سبيل الإسلام والعربية والوطن. ندوة ناجحة وزينها ابن رقطان بقصيدة رائعة، معنى ووزنا، وشعورا بالجلال والعظمة، من قلب شاعر، مناضل ومجاهد، قادر على أن يبث مشاعره العميقة ولبه وحبه وإكباره لهذه الذكرى، وذلك العهد الذي تحدى الاستكبار، ووقف في وجه الاستدمار. فله الشكر الجزيل، والإكبار الجليل، مادام عزه وشعره متألقا، نجما ساطعا، ثاقبا، لامعا في سماء الشعر كما كان محمد العيد آل خليفة شاعر الجمعية والأمة.
فشكرا لرئيس شعبة جمعية العلماء بقالمة وإخوانه، ولوالية الولاية على رعايتها.
ومن قالمة، مرورا بوادي زناتي – موطن الشيخ المولود مهري وأخيه المجاهد عبد الحميد مهري الذي قضى حياته كلها في حب الوطن والنضال من أجله منذ أن كان طالبا في الزيتونة – إلى آخر نفس من أنفاسه العطرة رحمهما الله تعالى جميعا.
وانتهت بنا الرحلة إلى مدينة خنشلة – مدينة الجهاد والشهادة، ورمز الثورة الأوراسية – العظمى في إيقاد نيرانها، وتوجيه ضرباتها لعتاة الاستدمار وطغاته، فكانت نارا محرقة للظالمين، فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب أليم، أتى على سلطانهم الغشوم من أركانه، وعلى فسادهم الحرث والنسل من أساسه، فكانت شهابا واريا، وسلاحا ماضيا، وكانت ثورة لا كالثورات التي سجلت في تاريخ الجزائر، ولا نظير لها بين الثورات العالمية في أبطالها الشباب، وفي ثباتها وتحديها لجيوش فرنسا، والحلف الأطلسي سنين عددا، وأتت عليهم بددا؛ فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، واستنزف اقتصادهم، بما حوى في خزائنه من ثروة سرقوها من الأوطان، واغتصبوها من أرض الجزائر.
كانت خنشلة بداية للضرب بنيران السلاح على حاكمها وعسكره في عقر مقر داره، فزلزلت به الأرض، وخرَّ عليه سقفها، وهلعت قلوب أعوانه وجنده فكانت شرارة أولى لهذه الثورة العارمة؛ من جبال أوراس الشامخة،وأبطالها الذين هبوا هبة الأسد الهصور، والفارس المغوار، يثب ولا يتردد، يهاجم ولا يتخلف، إلا كرًّا وفرًّا، وغلبة وقسرا.
فئة مؤمنة بربها، فزادهم هدى، ورمت العدو بالردى، فئة عباس لغرور، وما هو في ثورته بمغرور. إنها ندوة الشباب ومشاكله، عقدت بمدينة خنشلة، ونظمتها شعبة جمعية العلماء بخنشلة، برعاية السيد الفاضل والي ولاية خنشلة – حفظه الله تعالى، حضر افتتاحها، وأشاد بها صدقا وعدلا، وألقى الباحثون بحوثهم العلمية عن قضايا الشباب، تشجيعا وعلاجا؛ ليكون الشباب على وعي بأنفسهم ومآلاتهم، وليرشدوا رشدا يقيهم من المهالك، ويسهل بهم أفضل المسالك في عصر العلم والتقنية، فكانت ندوة ناجحة، وكانت بحوثها علمية، ألقاها شباب أيضا من الجامعات ذووا خبرة وعلم وصدق.
فشكر الله لهذه الشعبة رئيسها وأعضائها الذين بذلوا جهدا يذكر ويشكر، وشكر لوالي الولاية على كرمه ومساعدته وضيافته، إن هذا وصال للثورة التي قادها الشباب فصدقوا ما عاهدوا الله عليه فنصرهم.
وعلى شبابنا اليوم المواصلة بثورة أساسها البحث العلمي، والاختراع لإيجاد مجتمع المعرفة للتخلص من التخلف والضَّعف، والولوج إلى الحضارات؛ فهي أم المشكلات ومفتاح التاريخ للأمم إذا صحت عزائــم الشبــاب، وهمة الباحثين من الطلاب في جامعاتنا ومراكز البحث في بلادنا.