رؤية مستقبلية في استشراف وأمل بالإعداد والعمل/ محمد مكركب
هذه رؤية مستقبلية استشرافية لبعث الأمل، ولتنطلق الأمة بعلمائها وأمرائها، من أجل تحقيق التمكين الشامل، والإعداد الكامل للنهضة المتكاملة، بسلطان العلم والتربية والتخطيط عملا بمنهج منطق العلم الحضاري، والفكر الاجتماعي السياسي. إنها رؤية مستقبلية من على منبر الجمعية العلمائية البانية للنهضة العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية، دعوة علمية، عبر خطوات الإصلاح والبناء، لبناء المستقبل المنشود.
عندما ينظر المتدبر نحو الأفق المقصود، يريد بلوغه، يرى أشياء تعترض طريقه وتعوقه عن السير قدما، فأول ما يحاول فعله العقلاء اجتناب تلك العوائق، ثم إعداد وجمع وسائل الوصول، إلى المقبول من المأمول، ثم البحث عن الآليات المساعدة. لكن قبل كل هذا وذاك لابد من دراسة المآلات والنتائج المتوقعة ليتم التحضير وحسن الاستعداد بالاستدلال، لكل نتيجة مهما كان المآل؛ وبهذا يضمن المستشرف في رؤيته المستقبلية النجاح لمشروعه.
ومنه فهل الأوضاع التي عليها الشعوب العربية الآن أوضاع سليمة؟ يعني هل طريق الأفق المستقبلي خال من المعيقات والعقبات؟ ألا يوجد إلى جانب المثبطين والزمني بالعقد النفسية، ألا يوجد معهم المكرسين للقابلية للتخلف، وبقاء المستهلكين المهلوكين تابعين للمنتجين المستعبدين من أعداء الشعوب، والواقفين في طريق المطلوب؟ في عالم “طاق على من طاق”؟!
سأل محاوري كعادته، وعلى براءته وحسن نيته: وهل طريقنا نحو المستقبل فيه شيء من تلك المثبطات، أو المعيقات، أظن أننا نستطيع السير في تضامن وتكامل آمنين نحو مستقبلنا؟ غير أني ما زلت أتسائل، (قال محاوري): بعد أن امتص رشفة من الأسف على تاريخنا وتخلفنا: لماذا مازلنا نراوح مكاننا ولم ننطلق بعد نحو المستقبل؟ مادمنا نملك الإمكانات والأسباب؟ ولنا العلماء والشباب؟ بعد نصف قرن مضى من مرحلة الاستقلال، في جزائرنا خاصة؟
ذلك زمن مضى بكل أعمارنا، وشيء من آمالنا، وكثير من النقاط المسجلة علينا، وأبينا أن نقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام الذي أخرج بالقرآن الكريم، العرب من حمية الجاهلية والهوان، إلى عالم العِزِّ والسلطان، إلى قيادة العالم عن جدارة واستحقاق، في ظرف ثلاث وعشرين سنة؟ ومنهاج القرآن صالح لكل زمان ومكان.
حاولت إخراج محاوري من ضيق الحزن إلى فضاء التفاؤل، كما هي القيم والآداب الإيمانية، التي تعلمناها في المدرسة العلمائية، عبر مسيرة الدعوة والإصلاح. فقلت: أبشر رغم ما قلتَ وذكرتَ، فقد نقرتَ القلوبَ والأكباد وجرحت الضمير في الفؤاد، أبشر وتفاءل بالخير رغم وجود ما عليه تساءلت وتأسفت، وتعال مع كل فرد من أبناء وطننا الحبيب، نضع أيدينا في أيدي بعضنا ونتوكل على الحي القيوم، واعلم أن نصر الله للأمة قريب، نصر بتحرير القدس والأقصى، وربك الرحمن أعَدَّ وأحصى، أبشر بتحرير الشرف والسيادة العربية من الضعف والتبعية.
انطلاقا من قيم ديننا الإسلامي وتقديم ولائنا وحبنا وخضوعنا لخالقنا عز وجل، عملا بشُعَب الإيمان وأركان الإسلام، ومنطق سنن الله في الكون والشرع والعمران، ننظر إلى المستقبل المأمول، مستقبل الحضارة الإنسانية التي يحيا فيها الإنسانُ عابدا مخلصا لله تبارك وتعالى، متعاونا متضامنا مع إخوانه من بني آدم، يعمرون الأرض بالخيرات، ويهجرون الصراع والحروب والموبقات.
ففي دعوتنا إلى يقظة الضمير العربي والإسلامي والإنساني عامة، لنجدد على مسامع العالم وعلى أمواج أثير الدنيا، صادعين بما أمر رب العالمين: ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]. نقول في الرؤية المستقبلية:
أولا: التلازم بين التربية الإيمانية وعلم العلم لا علم المعلومات:
إن النظرة الاستشرافية في رسم الرؤية المستقبلية الإصلاحية تقتضي التصحيح الشامل لمناهج التعليم، التعليم الجامعي بالخصوص، ليقوم على استراتيجية تأهيلية مباشرة، (وفق الفراسة السياسية) وإفساح المجال للمبادرات الخاصة الراشدة، في إطار البحث العلمي، والتجارب الكونية، والتنمية العمرانية. ومعنى التأهيل المباشر، هو إعداد الطالب منذ دخوله الجامعة للمهنة والحرفة والعمل الذي سيمارسه بعد التخرج، وتكون مسيرته الدراسية مركزة على تلك الوظيفة المستقبلية ليبدع فيها ويطور، أو على الأقل يكون قادرا على الإتقان والقصد، ومع تخصصه العلمي الدقيق في أي علم من العلوم الكونية، التقنية الدقيقة، قلت ومع تخصص كل طالب في العلم الذي يتخصص فيه، أن يتلقى الفقه الضروري للعبادة الصحيحة، والقيم الإيمانية. وهكذا يتم إعداد إطار المستقبل الملتزم بالوطنية الصادقة، وبهذا نعد بإذن الله رجالا متكاملين متطاوعين.
ثانيا: الرعاية التربوية والتعليمية للمراحل ما قبل الجامعي:
إذ يجب تضمين المنهاج التعليمي في كل المرحل )القيم الدينية( التي هي قوام الرجولة والمروءة والنجاح. قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: 282]، وقال جل جلاله: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً﴾ [الأنفال: 29]. وأن تكون بداية التخصص في العلوم الطبيعية والهندسية والإنسانية، ابتداء من السنة الأولى ثانوي. وتطوير طرائق التقويم والامتحانات من الطريقة التقليدية السلبية إلى أسلوب التقويم الفعلي عن طريق البحوث، والأسئلة الإنتاجية، التي قوامها التفكير والتخطيط، وليس الحفظ والمعلومات الجاهزة؛ وحينها لا يكون غش، ولا نحتاج لحراسة، ويكون المتفوق متفوقا حقا بالفكر والعقل، لا بالواسطة ولا بالنقل.
ثالثا: التخطيط العلمي الاستشرافي الشامل:
أن تقوم وزارة التخطيط العمراني والتسيير الاقتصادي بمخططات اقتصادية إنتاجية (أقول إنتاجية) وفق مجالات متكاملة عمرانيا، ضمن المخطط العام للوطن، وتوظيف المتخصصين من الشباب حسب إمكاناتهم وقدراتهم العلمية، بدلا من منحهم القروض، وتركهم يتخبطون أو يستهلكون المال في المحال، بالتبذير وسوء التسيير. إن منح المال العام للأفراد بأية طريقة، لإدارة مشاريع خاصة مهما كانت، هي طريقة غير مجدية اقتصاديا وليست مفيدة لبناء مستقبل متجانس ومنسجم اجتماعيا واقتصاديا، بل ولا سياسيا، نعم يمكن للفرد المواطن أن يجتهد بماله الخاص ليقيم مشروعا في الحلال المفيد، ولكن ليس بالمال العام. ومسؤولية السلطة العامة في العمل على تزكية وتنمية المدخرات الوطنية وحفظها من الضياع. إن ما يعرف في الجزائر بالصندوق الوطني لتشغيل الشباب، ليس وسيلة اقتصادية فاعلة للتنمية، والنقص في تقنيات الترشيد والتوظيف المالي مخل بالاقتصاد والاجتماع.
رابعا: العناية بالزكاة إحصاء وجمعا وصرفا:
الزكاة بالطرق الشرعية كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل قاعدة اقتصادية كبيرة، وأساسا عظيما في التنمية عموما؛ وهي تُغْني عن الضريبة والمكوس. لهذا تنص نظريات الاستشراف في الرؤية المستقبلية في المنهاج القرآني على أن القيام بالزكاة بإحصاء شامل لكل الموارد الاقتصادية من معادن، ومناجم، ومصانع، ومزارع، وكل المداخيل المالية التجارية وغيرها. وفق الإحصاء الفعلي الواقعي لكل ملكية على مستوى الوطن، وبصرف أموال الزكاة في الأبواب المشروعة. فإن مدخولها يغطي كل حاجات المجتمع، ولا يحتاج إلى خراج آخر، بالإضافة إلى إقامة عبادة من العبادات وهو الأمر الأول المقصود. قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41].
وتنص نظرية رؤيتنا المستقبلية على أربعة أسس:
1ـ توظيف الطاقات الشبابية، وعدم إهمال أي قدرة عمل وطنية.
2ـ وضع الخطة العمرانية المستقبلية الدائمة، بكل منظوماتها القانونية، أي التخطيط المستقبلي البعيد الذي يحقق الاطمئنان للمواطنين والمستثمرين بالخصوص، والضمانات الرسمية للمعاملات البنكية.
3ـ الإقلاع عن تبذير وإفساد الأراضي الفلاحية، وإنشاء الأحياء السكنية والمدن في الهضاب العليا والجنوب.
4ـ الاعتماد الذاتي الوطني في التنمية العمرانية.