قايين…الموت البطيء !

يكتبه : د. محمــد قماري/
ما كنت أحسب أن أعود للكتابة في (البصائر)، وربما خالط نفسي عزوف تام عن الكتابة أو الإبانة عما في نفسي بالمطلق، فهو الطلاق البائن إذن، ومع إدراكي أنَّ الانسان هو البيان، يرتقي في معرج الإنسانيّة أو يهوي في دركات العجموات، حسب قدرته عن البيان، فكلما كان مبينا سما وكلما كان عييا حسيرا (لا يكاد يبين) هان وسقط، ولقد ربط القرآن الكريم ترابطا طرديا بين القدرة على البيان وجوهر إنسانيّة الإنسان: «خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» (الرحمن/4)…
أنا مرك لكل هذه المعاني، لكن ما حيلتي إن جلست استحلب تلافيف دماغي، لأكتب بعض الأسطر، فأشعر بما يجده من لم يحمل القلم من قبل، فيرتج عليَّ فأقوم من مقامي خائبًا، معزيا نفسي بأن ما أصابني ربما كان حالة طارئة، ومضت الأيام والأسابيع، فما زادني مرورها إلا نفورا من الكتابة، وحتى القراءة التي كان لي وردٌ منها يوميا قل أو كثر، اكتفيت منها بما نزر أو ما مر بناظري سريعا…
وعندي بعض التفسير لما أصابني، إنه وقع الحوادث من حولنا، فمن علم الوظائف في البيولوجيا، تعلمنا أن العضلة تتقلص بتمرير تيار كهرباء فيها، وقد يزيد تقلص أليافها بزيادة شدة التيار، لكنها بعد حد معين يسمى عتبة (التكزيز) تتوقف الاستجابة، وربما حال النفس البشرية في بعض أوجهه يشبه العضلة، فالبشر يتحملون إلى حين بلوغ التقلص التام، أو حالة الكزاز، فلا يبالون، وقد اقتنص المتنبي بعضا من هذا المعنى:
رَماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتى فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبالِ
فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ
وهان فما ابالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي
تمر السنوات على سمائنا حزينة كئيبة، فما يكاد جرح يندمل حتى ينغر من جديد بجرح أشد وأنكى، وهذه غزة ترسل صورها عبر منصات الأخبار، فهذه جثث تلف في أكفانها، ودور تسوى بالأرض، وطفل تائه يبحث عن ذويه، وامرأة ثكلى تخبط على صدر مكلوم، وشيخ غار ضوء النور من عينيه…جوعى وعراة والخوف يترصدهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وعالم يتفرج أحيانا ويعد حينا بمواعيد عرقوب…
لم تكن غزة هي أول الأحزان، والمؤكد أنها ليست آخرها…فمن لي بقلب جديد يتحمل ثقل ما مضى، ويصرّف حمل ما هو آت؟
وإن الذي جعلني أخط هذه الكلمات وربما أعود إلى الكلمة، أبث عبر الكتابة ألمني وحزني، وربما أملي ورجائي، ضحى ذلك الخميس الذي مضى، إذ وقع على بصري غلاف كتاب صديقي الأستاذ أحمد دلباني (خطيئة الدفاع عن قايين)، فما تبينت مغزى هذا العنوان، فكلمة (قايين) أشكلت عليَّ، واتصلت بالأستاذ استوضحه، وظنني مازح معه، ولما استوثق من (جهلي)، جعل يشرح لي قصة (قابيل وهابيل)، ظنًا منه أنني لا أعرفها ربما، والإشكال عندي في (قايين) وهي الكتابة اللاتينية لاسم (قابيل)…
لم انتبه لهذا التعريب من اللاتينية لاسم (Caïn)، وهو اسم (قابيل)، وعهدي بالأستاذ أنه رجل يتذوق الأدب العربي، وقد حدثني أنه في حداثة سنه قد قرأ حظا وافرا من مكتبة أبيه، وكانت تضم كتبا من عيون الأدب، فلمَ انصرف عن قابيل إلى قايين…
وأيًا كان الاسم، والقرآن الكريم كما هو في سائر القصص، لا يحفل كثيرا بذكر الأسماء وتفاصيل الوقائع، فلم يذكر القصة قصة (ابني آدم) إلا مجملة، ونفذ إلى العبرة من أول جرائم القتل بدوافع الغيرة والحسد، وأن قتل نفس كقتل الناس جميعا، لأن الروح هبة الخالق…
لقد أحسن الأستاذ في ربطه ما يحدث في غزة، بتلك الرمزية المعبرة، وربط كل ذلك بما وقع فيه الغرب من (خطيئة) الانحياز السافر إلى قابيل الظالم القاتل، وترك هابيل الشهيد المظلوم يسفح دمه ظلما وعدوانا، ويا له من عار على أمم تدعي التحضر والمدنية، فإذا بها أو بساستها ينحدرون إلى وهاد من التحجر والبلادة والصلف واغلاق نوافذ العقل.
إنه سقوط مدوي لمنظومة الأخلاق في العالم، بعد مشاهد ما يحدث في غزة، والانحياز التام وغير المشروط للكيان الصهيوني، وتصوير المشهد على أن في العالم (دم مقدس) و(دم مدنس)، دم مصان ولا يجب أن يصاب أصحابه بأذى، ودم مستباح مهراق، لا قيمة له ولا اعتبار…
إن المشهد سيسدل يوما، والتاريخ يسجل مواقف هؤلاء وهؤلاء، والشهيد (هابيل) يبقى على امتداد التاريخ صرخة تدوي، فلا يمكن لصاحب الحق أ ن يخسر وسوف ينتصر لو بعد حين.