الاستعمار أولاً وأخيرًا -2-/ محمد الحسن أكيلال
التشدد سيد الموقف
ثلاثة أيام كانت مدة الزيارة التي قام بها “إمانويل ماكرون” إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهي زيارة دولة بالغت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال إدارتها بالبيت الأبيض في إحاطتها بكل الحفاوة اللائقة بمكانة الدولة الفرنسية كدولة عظمى، عضو في مجلس الأمن الدولي، لقد عومل السيد ماكرون من طرف نظيره “ترامب” معاملة الصديق الحميم من خلال العلامات والإشارات الدالة على تلك الحميمية كالاحتضان والربت على الكتف وتكرار المصافحة أمام عدسات الكاميرات.
كل تلك الحفاوة لم تكن سوى نوع من الاستلطاف لقبول الأعذار والمبررات على رفض كل ما يطلبه منه “ماكرون” ليعود إلى بلاده مفعما بنشوة النصر على نظيره الأمريكي الذي يعرف كل العالم قسوته وشدته وصرامته في التعامل مع كل القضايا التي تؤرق العالم وأهمها وأخطرها القضية الفلسطينية وما يحيط بها من أسباب رفع حدة الأخطار على السلم والأمن في العالم كقضايا الاتفاق النووي مع إيران التي أصبح وجودها في سوريا يمثل تهديدًا على أمن إسرائيل ودول الخليج العربي التي تدفع الإتاوات تلو الأخرى مقابل الحماية الأمريكية لعروشها وأبراجها ونفطها.
كان على”ماكرون” أن يتذكر موقف سلفه العظيم “شارل ديغول” حين وقف في وجه أمريكا ذات يوم وقرر الانسحاب من حلف شمال الأطلسي غيره على بلاده التي كانت تنعت حينها بالدولة المنهزمة، لكنه يبدو ككل انتهازيي أوروبا في العصر الحديث وخاصة الفرنسيين منهم لن يجد غضاضة في ابتلاع غصته وامتصاص ريقه جراء الإهانات المتكررة ويعود إلى بلاده بخفي حنين خالي الوفاض إلاّ من وعد بقبول اقتراحه المتمثل في ترك الملف النووي كما كان وصياغة ملحق له يتضمن التزام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بإيقاف انتاج وتطوير الصواريخ الباليستية.
السيد “ماكرون” الذي يبدو أنه حين انسحب من الحزب الاشتراكي ليشكل قوته السياسية بمناضلين من اليمين والوسط كان يعي تماما ما يفعل، فهو يرى يوميا التطورات التي يحققها أقصى اليمين في بلاده وقوى النازية الجديدة في كل أوروبا وأمريكا التي أوصلت “ترامب” رغم أنف الأغلبية الأمريكية ؛ فهو يعرف أن انعكاسات الأزمة الهيكلية للنظام الرأسمالي العالمي وتناقص المواد الأولية والثروات الطبيعية وحدة التنافس على السيطرة على المجالات الحيوية بين الغرب ككل والصين وروسيا الاتحادية وقوى جديدة بدأت تظهر في الأفق تحاول أن تفتك حصصها من هذا العالم.
كل هذا يجعل منه يتقمص دور المفاوض البراغماتي الذكي الحريص على إبقاء كل الأبواب موازية مع كل القوى والدول التي تحتاج فرنسا إلى الإبقاء على علاقات جيدة معها، إنها المرحلة الجديدة في عمر الاستعمار الغربي لكثير من الدول النامية التي تكتنز أراضيها ثروات طبيعية ومواد أولية وتتوفر على أسواق ما تنفك تزداد احتياجاتها للبضائع والسلع التي تنتج وتصنع لديها.
إن “ماكرون” لم ولن ينسى أن بلاده وأسلافه من المساهمين والمشاركين في وضع اتفاقية “سايكس بيكو” التي بموجبها تم تقسيم جغرافيا الوطن العربي والعالم الإسلامي وحددت خارطة خاصة في فلسطين لتكون دولة ليهود العالم، دولة هي بمثابة قاعدة خلفية للدول الاستعمارية الرأسمالية الكبرى للوقوف في وجه الاتحاد السوفييتي في تلك المرحلة من تاريخ العالم وبقيت ما بقيت العلاقات الدولية والنظام الدولي الذي أسس حينها لحماية نفس المصالح والمجالات الحيوية ومناطق النفوذ، وتطور الأحداث في روسيا الاتحادية بعد وصول الرئيس “بوتين” إلى الحكم وكشف أوراقه أمام الجميع ورفضه لقبول إعادة بلاده إلى صف الدول الخاضعة والمذعنة لجبروت الإمبريالية الرأسمالية، لذلك لا يرى السيد “ماكرون” بدًّا من المحافظة على موقع فرنسا داخل الحلف الأطلسي وإبقاء مجلس الأمن الدولي كما هو دون تغيير في تركيبته بزيادة عدد الأعضاء حيث من المفترض أن تمنح العضوية لكل من ألمانيا واليابان والهند، ومن الممكن تصل ذات يوم دولة كإيران إذا تركت وشأنها في تطوير برنامجها النووي، وهذا سيجعل من فرنسا على الأقل في ذيل الترتيب في هذا المجلس وفي الاتحاد الأوروبي.
إن السيد “ماكرون” الذي يواصل جهود أسلافه في توظيف نظام المخزن المغربي لاستنزاف جهود الجزائر في التنمية ومحاولة جرها إلى القيام بدور حارس الأرض في دول الساحل الغربي لإفريقيا حيث توجد مناجم اليورانيوم والذهب التي تستغلها لصالحها دون أي اعتبار لحالة الفقر والعوز التي تعيشها شعوبها، وهذا التوظيف يأخذ بالحسبان علاقات المخزن بدولة الكيان الصهيوني وباللوبي الصهيوني في بلاده وفي الولايات المتحدة الأمريكية، فتحريض النظام المغزلي ودعمه للإبقاء على القضية الصحراوية على ما هي عليه تخدمه في مسعاه على كل المستويات وكل الأصعدة، وأهمها الإبقاء على ابتزاز الجزائر ماليا واقتصاديا وأمنيا ولو بالحدود الدنيا التي يفرضها التنسيق لمحاربة الإرهاب الذي يعرف “ماكرون” كيف ولماذا أنشأ ومن يقف وراءه ومن يدعمه ماديا وماليا ولصالح من؟
إن الاستعمار هو الاستعمار، حتى ولو تغيرت أساليبه ووسائله لأن الأسباب والأهداف تبقى دائما كما هي بالنسبة لدولة كفرنسا وبريطانيا وأمريكا التي ورثتهما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي بصدد التراجع الذي تفرضه تطورات الأحداث في الشرق الأوسط وأوراسيا، لذلك لا بد من التفكير جديا في البحث عن أسباب ووسائل للمحافظة على التحالف الغربي والتنسيق المتواصل لإطالة أمد سيطرة هذا الغرب الإمبريالي على كل مناطق النفوذ والمجال الحيوي بما في ذلك المياه الدافئة والمضائق المائية الموروثة ولو على سبيل الاحتياط للأسوأ في حال نشوب حرب عالمية ثالثة بدأت علاماتها وملامحها تظهر في سوريا حاليا.
لقد كانت فلسطين وما زالت السبب والعامل الأساسي لإمداد الوقود للاشتعال الخطير الذي إن حدث فقد يطال لا الشرق الأوسط فقط، بل حتى القارة العجوز أوروبا..!