حديث في السياسة

قصة بوجدرة والنهار: دفاع عن القيم قبل كل شيء

بقلم التهامي مجوري/

من تابع المقلب الذي نصبته قناة النهار للروائي رشيد بوجدرة، يخرج بحوصلة هامة ذات شقين لهما علاقة بالنخبة في بلادنا، شق متعلق بالحصة نفسها، وشق آخر له طابع أيديولوجي انتقائي.

أما الشق المتعلق بالحصة وكيفية إدارتها والمادة المعروضة فيها، لا يسع المشاهد إلا التعاطف مع بوجدرة مهما اختلف المرء معه ومع خياراته الفكرية العقدية والفنية، كما لا يسعه أيضا إلا إدانة مثل هذا السلوك الذي انتهجته القنوات مع ضيوفها رفعا لنسبة المشاهدين ولو على حساب الناس، والأفعال التي أقل ما يقال فيها أنها مخلة بشرف الإنسان وكرامته. وهذا الشق في مثل هذا البرنامج تشترك فيه كل القنوات وليست قناة النهار وحدها، بدليل أن جل الحصص –الكاميرا الخفية- تنتهي بالعراك والضرب والركل…وتحت الإلحاح من معدي البرنامج تفتكُّ من الضيف ابتسامة غير طبيعية تحت الطلب، كتأشيرة للموافقة على البث.

والحصة موضوع المقال لمن لم يشاهدها، هي برنامج كاميرا خفية، استضافت الروائي رشيد بوجدرة، ونصبت له مقلبا كما هي العادة في مثل هذه البرامج..انتهى بمغادرة الضيف الحصة بصياح ونرفزة وكلام من كل نوع..

شرع الصحفي في محاورة ضيفه بوجدرة بالكلام عن نسبة مبيعات روايات أحلام مستغانمي..وفجأة –بدأت التمثيلية- دخل رجلان من الأمن وطلبا من مقدم البرنامج التصريح بتسجيل الحصة، وطلب من رشيد بوجدرة بطاقة التعريف..ودخلا مع بوجدرة في حوار، ابتداء من التهمة بالتخابر..والاتهام بالإلحاد..ومن بين ما طلب منه أن يشهد ألا إله إلا الله..، وطلب منه أيضا أن يكبر..فشهد ألا إله إلا الله وكبر..وكرر التشهد والتكبير عدة مرات..وحمي الوطيس.. وتطورت الأمور إلى أن انسحب بوجدرة من الحصة بعد أقل من 10 دقائق منها..، صائحا بأعلى صوته “قيلوني قيلوني قيلوني”، أي اتركوني، صياحا مصحوبا بقذائف من القول الغليظ.

وإدانة مثل هذا التعامل ليس لأنه مع الروائي بوجدرة، وإنما لكونه ينال من كرامة الإنسان وعرضه، وسخرية بالمرء واستهتارا به، وإلا ما معنى أن يطلب من رشيد بوجدرة أن يقول لا إله إلا الله، هل المقصود فضحه بأنه ملحد ليكشف أمام الناس أنه ملحد، أم المقصود أن يظهر بأنه منافق؛ لأنه لا يجرؤ على التصريح بالإلحاد؟ وكلتا الحالتين لا تليق؛ لأن البرنامج ترفيهي –كاميرا خفية- المقصود به الترفيه على الناس وليس فضح الناس والكشف عن أفكارهم، وإذا كان المقصود فضح الرجل والكشف عن آرائه ومعتقداته وأفكاره فلتكن في برنامج فكري أو ثقافي أو سياسي آخر وليس في البرامج الترفيهية التي هي في العادة تكون مضحكة غير مؤذية لا للمشاهد ولا للضيف، وليست من البرامج الجادة المتحيزة في طروحاتها، الضيف يتحيز إلى أفكاره ويدافع عنها، ومقدم البرنامج يمثل الرأي الآخر أي المخالف، تمكينا للمشاهد من الاختيار والمقارنة بين الآراء والأفكار والمعتقدات.

وموضوع الكاميرا الخفية في بلادنا بكل أسف في جميع القنوات لا تحترم هذه القواعد التي من المفروض أنها من قواعد المهنة ومن ضرورات طبيعة البرنامج.

إن كرامة الإنسان، مع الصديق والعدو والموافق والمخالف والمحب والخصم، واحدة وكلّ غير قابل للتجزئة، فلا يجوز لكائن من كان أن يعتدي عليها لأنها من وضع الله سبحانه وتعالى{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[الإسراء:70]، وكذلك أن البرامج الهزلية لها طابعها الهزلي، ومع ذلك لابد من إنزال الناس منازلهم، ويختار من الأمور والطرائف التي لا تضر بالضيف أو المشاهد..، وفي مثل بوجدرة وغيره ممن في عمره ربما لهم من الطرائف في حياتهم التي تضحك الناس أكثر من أن يطلب منه أن يقول أشهد ألا إله إلا الله أو أن يُرْعَب أو يُرَهَّب بوجود بوليسي.

الشق الثاني وهو مؤسف أيضا وهو التضامن الانتقائي الذي قامت مجموعات من المثقفين والإعلاميين، وجروا معهم الكثير من الشباب الفايسبوكي، وهو تضامن لم يحظ به أحد ممن تعرضوا لمقالب كثيرة في مثل هذه الحصص، في كل القنوات خلال رمضان والذي قبله والذي قبله والذي قبله… “مُرْمِدَ” الكثير من الفنانين والشخصيات .. ولا يزالون يمرمدون، ولم نسمع عن أحد من هؤلاء أنه استنكر هذا الفعل..، وجل حصص الكاميرا الخفية انتهت بعراك وضرب وركل ومع ذلك لم نجد من استنكر إلا عندما تعلق الأمر بالروائي رشيد بوجدرة وكأن الكرامة الإنسانية ليست إلا لرشيد بوجدرة..، رغم أن مثل هذا السلوك مدان بالفطرة.

ولكن الصيادين وصناع المشاكل يريدون من الموضوع أن يتحول إلى عراك هامشي آخر وهو الدفاع عن المعتقدات وعن الأفكار والحريات، وكأن البعض ينتظر مثل هذه المناسبات ليثير ما يخالف فيه بوجدرة غيره ليدافع عنه، في حين أن الموضوع موضوع قيم إنسانية لا يجوز الاعتداء عليها سواء تعلقت ببوجدرة أو بغيره، وليس موضوع خلافات أيديولوجية، أو معتقدات دينية أو أفكار مقبولة أو مرفوضة…

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com