رأي

الرَّحِيلُ: قصة رحيل الشيخ حسن حبنكة الميداني

عبد العزيز بن سايب/

كل واحد منا سيرحل عن هذه الدنيا..أَحَبَّ مَنْ أَحَبَّ وكَرِهَ من كَرِهَ، ذَكَرَهُ مَنْ ذَكَرَهُ ونَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ.. إنها الحقيقة التي لا ريب فيها..نطق بها القرآن العظيم في غير ما آية، أصرحها قوله -جل جلاله-: (كل نفس ذائقة الموت)، وقوله تعالى لخليله محمد -صلى الله عليه وسلم -: (إنك ميت وإنهم ميتون). والسنة النبوية المشرَّفة مليئة بالتذكير بها بشتى الأساليب.. بَيْدَ أن هذه الحقيقة القطعية الجليَّة يتغافل عنها الناس..حتى تكاد تكون عند غالبهم نسيا منسيا.. أما العلماء الربانيون فإنها حاضرة معهم في كل تقلباتهم..

وإليك قصة أحدهم.. وهو سلطان علماء الشام في العصر الماضي الشيخ حسن حبنكة الميداني.-رحمة الله تعالى عليه ورضوانه-.
ففي صبيحةِ جُمعةٍ ألقى الشيخ حسن درسَه المعتاد بعد صلاة الصبح، وكان درسا جامعا، تكلم الشيخ فيه عن حبِّ اللهِ تعالى، والإقبالِ عليه والتعلق به، والحذرِ من سجن الدنيا وزنازينها المتنوعة..درسٌ رائعٌ.
وفي ختام الدرس وَدَّعَ الشيخُ الحضورَ، لأنه سيسافر صبيحة الاثنين إلى مكة المكرمة، لحضور جلسات رابطة العالم الإسلامي، التي كان عضوا فيها. فكان مما قال في توديعهم: «إنَّا على جَنَاحِ السَّفَر، إمَّا إلى الآخرة، ونسأل الله أن يعفو عنا، وإما إلى الحجاز مهبط الوحي، وأسأل الله أن يتقبل منا..»اهـ.
نعم تأمل كلامه.إلى الله -جل جلاله.- أو إلى مهبط وحي الله تعالى.. وحَلَّتْ ليلةُ الاثنين.. وجاء لبيت الشيخِ بعضُ الموَدِّعِين له، ولما طال بهم السهرُ استأذنوا بالانصراف، فقال لهم: ألا تنتظرون؟ قالوا له: لقد أطلنا عليكم السهر، وأنتم غدا على سفر، فالأحسن أن ترتاحوا وتأخذوا حظكم من النوم.. بعدها بدأت تأخذ الشيخ غيبوبةٌ وحَشْرَجَاتٌ..وجاءت ساعة الرحيل..نعم كان الرحيل.. لكن لا إلى مكة، ولكن إلى الرفيق الأعلى .. وكان هذا فجر الاثنين 14 من ذي القعدة سنة 1398 هجرية، الموافق 16/10/1978م.. وهكذا العالم الرباني..بل المؤمنُ اليَقْظَانُ..إزاء ساعة الموت، وحين الرحيل عن هذه الحياة الدنيا.. والسفر عن هذه الإقامة المؤقتة..
التفكر في الموت قد يكون خاطرة وليدة عبرة..أو نفحة ثمرة موعظة..بيد أنها سرعان ما تتلاشى.. بخلاف العقيدة الحية الحاضرة.. فبها يكاد عالم الغيب أن يُمسي عالَمَ حِسٍّ ومشاهدة..
إنه لتناغمٌ عظيم أن تكون القدم على الأرض والقلب في السماء، والعقل يُكيِّف الحياة بين تقلباته بينهما..
ومن هنا نفهم ونفقه قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلا وأنتم مسلمون)..أي أن يكون الإنسان على استعداد لمجيء الموت، فهو متأهب في كل وقت لهذه الرحلة.. حالةٌ إذا عاشها القلب تَقْلِبُ التُربَ تِبْرًا..وتُحَوِّلَ المرَّ حُلْوًا..وتُصَيِّرُ الجزعَ سكينةً.. بها يَذْهَبُ رَهَقُ حسابات الناس، ويرتاح من ثقل مصائب الحياة.. العقيدة ليست معلومات فحَسْب، يُحْشَى بها الدماغُ..بل هي حياةٌ وعاطفةٌ وروحٌ.. المؤمن لا تنفك الآخرة من حساباته..إن حضور أخبار الموت وأجواء الآخرة وظل الرحيل في الذهن والفكر دواءٌ وغذاءٌ.. دواء لمرض التعلق بالعاجلة..فهو يكسر القيود التي تَشُدُّ الإنسان إلى الدنيا..ويُمزق الحِبَال التي تجذبه إلى التثقال للأرض.. وغذاء للساعين للآخرة.. والمتنافسين لنعيمها المقيم.. بجوار رب العالمين.. وهذه نصيحةُ سيد المرسلين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل أَمْرُهُ حين قال: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادمِ اللَّذَّاتِ» يَعْنِي الْمَوْتَ. أخرجه الترمذي والنسائي وابنُ ماجه..ولعله سبب نقش عمر رضي الله عنه على خاتمه: «كفى بالموت واعظا يا عمر».. الموت حقيقة إذا وُضِعَ أيُّ شيءٍ بإزائها انكشف زيفُهُ وبَانَ بَهْرَجُهُ..كالمرآة الصقيلة النقية التي يقف أحدُنا قُبَالَتَها.. فإنها تصوِّرُ له الحقيقة بعيدا عن أوهامه عن نفسه..

إن عقيدةَ حضور الموت ومُبَاغتته لها فوائد جمة على نظرة المؤمن وسلوكه في حياته.. منها..التَّعلُّقُ بالله تعالى والتوكلُ عليه والتفويضُ إليه.. ومنها عدم الأسف على ما فات من المخططات والمشاريع.. والاستعداد لترك كل شيء في أية لحظة.. ومنها وضع الأشياء في موضعها الصحيح..فلا تُعَظِّمُ حقيرا، ولا تُحَقِّرُ عظيما.. ولا تبكي على تافه، ولا تُهمل نفيسا.. ومنها سلامة المواقف وثبات الأقدام إزاء الْمُغْرِيات والْمُرَوِّعَات..فما قيمة حياة الخزي والعار والشنار..وآخرتها موت.. إن طول الأمل بلاء مبينٌ وداء عَويصٌ..وأَمَضُّ أدويته ذكرُ الموت.. إن الإخلاد إلى الأرض والتثاقل إليها وتعشُّق شهواتها ومكاسبها الوهمية يَحُولُ بين المرء وبين التطلع لما وراء هذه الحياة.. وهي حُفْرَةٌ زَلِقَةٌ ما سقط فيها إنسان أو جماعة إلا وحاق بهم الهلاك.. وما حديث الغثائية مِنَّا ببعيد.. ألم يَقُلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشكُ الأُمَمُ أنْ تَدَاعَى عليكم كما تَدَاعَى الأَكَلةُ إلى قَصْعَتِها»، فقال قائل: من قِلَّة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنَّكم غُثاء كَغُثَاءِ السَّيْلِ، ولَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ في قُلُوبكم الوَهْنَ». قيل: وما الوْهنُ يا رسول الله؟ قال: «حُبُّ الدُّنيا، وكراهيَةُ الموتِ». أخرجه أحمد وأبو داود.
وما حالتنا اليوم إلا تَجْسيدٌ لهذا الحديث الذي اخترق غيبَ المستقبل.. لا أحسب اليوم قوما يعيشون حالة حضور الموت مثل إخواننا في فلســطين..إذا أصبحوا لا ينتظرون المساء، وإذا أمسوا لا ينتظرون الصباح.. فإخواننا اليوم هناك خير مثال لهذه العقيدة الحية..تَرَقُّبُ الرحيل في أيِّ لحظة من ليل أو نهار..ويا لها من رحلة..رحلة في أثواب الشهادة.. ورُبَّ ضارةٍ نافعة..والعبرة بالحياة في الآخرة الباقية لا بالحياة الأولى الفانية.. نعم نحن نتحمل مسؤولية كبيرة وتاريخية نحوهم.. ونتألم لما يحدث وينزل بإخواننا..لكن هناك حقيقة لا ننساها..وهي تمني هؤلاء الشهداء العودة.. لا لرغد الحياة، بل لمذاق ميتة الشهادة.. قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، إِلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ» . أخرجه الشيخان .
واقرأْ معي حديثَ رسوله الله -صلى الله عليه وسلم – لجابر رضي الله عنه وهو يخبره عن والده عبد الله رضي الله عنه الذي قضى شهيدا في أُحد: «أَفَلَا أُبَشِّرُكَ، بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟»، قَالَ: بَلَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون)». أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان.
وما تلك الجراحات والتشوهات إلا خدوش..قال صلى الله عليه وسلم: «ما يَجِدُ الشهيدُ مِنْ مَسِّ القتلِ إلا كما يَجِدُ أحدُكم من مَسِّ القَرصة». أخرجه أحمد والترمذي والنسائي.
فهل نُهَنئ إخوتنا في غــزة الذين يعيشون شعور قرب الرحيل كل يوم.. وما ينتظرهم من النعيم المقيم.. أو نبكي على أنفسنا كَرَّتَين..؟! كَرَّةً لخذلاننا لهم، ونعيش حياتنا بكل برودة وبلادة ونحن نرى ما ينزل بهم من إبادة.. وكَرَّةً أخرى لغفلتنا عن الموت وقربه مِنَّا..ومفاجأته في أي لحظة؟! يُباغتنا ونحن في سُكْرِ الغُثائية..وانبطاحِ الرضا بالحياة الدنيا.. واللُّهاث وراء زينتها..ومذلةِ التخاذل والخذلان.. غفرانك ربي.. اللهم ربنا توبةً نصوحًا قبل الممات..

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com