في رحاب رمضان

الإصلاح… أولاً

أ.د. فضيلة تركي*/

النظرية القرآنية تقر أن الأمم كالأفراد، تمر عليها أطوار ثلاثة : طور الشباب، وطور الكهولة ثم طور الهرم والأفول، ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: 34] .وذكر القرآن الكريم أسباب السقوط والانهيار، وبين أن هلاك القرى يكون نتيجة الانغماس في الترف والإخلاد إلى الأرض والفساد والابتعاد عن شرع الله والتمرد عن أوامره؛ وهذه المرحلة سماها ابن خلدون بمرحلة الترف، يقول تعالى مقررا سر دمار الأمم ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ [الإسراء: 16].
وبالعودة لقصص الأمم الغابرة في القرآن نجد نوعين من الهلاك كما بين ذلك ابن باديس : هلاك بالاستئصال النهائي والإبادة للقرية أو الأمة كما حدث مع قوم نوح وعاد وثمود… وهذه الأقوام لم يعد يجدي معهم أي استدراك أو توبة حضارية أو إصلاح. وأما النوع الثاني من العقاب الإلهي فللأمم التي ابتعدت عن هداية الوحي، وتنكبت السنن التي تقوم عليها الحضارات كالعدل والأمانة والصدق والعفة…هذا العقاب يتمثل في الضنك الاقتصادي والخوف الاجتماعي والهزائم العسكرية. ونتيجته الأفول الحضاري والانزياح عن قيادة العالم وسيادته.
فهذه الأمم لم تستأصل ولكن أصابها عذاب وتدمير جزئي، يقول تبارك وتعالى واصفا لها: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112]. ويستخلص ابن باديس من هذه الآية عبرة غاية في الأهمية، وهي أن» القرى التي قضى عليها بالعذاب الشديد فهذه لا تزال بقيد الحياة فتداركها ممكن وعلاجها متيسر. مثل الأمم الإسلامية الحاضرة.»
هذا الفهم السنني الذي فهمه ابن باديس أن الأمة الإسلامية لا تموت ولكنها قد تضعف، هو سر ظهور الحركات الإصلاحية كلما خبت جذوة الروح في الحضارة، وسر تشكيله لجمعية العلماء المسلمين الجزائرية، حتى تتدارك الأمة الجزائرية وتعالج أدواءها بالإصلاح والتغيير والاحياء.
من هذا المنطلق بدأت دروس ابن باديس الإصلاحية مع ثلة من خيرة أبناء الجزائر، تحيي النفوس، وتحرك المجتمع، فبادر الشعب ينفض غبار الذل والقابلية للاستعمار، ورفض الاستعمار شيئا فشيئا، حتى انفجرت ثورة أول نوفمبر.
وهذا ما يحدث بالضبط في فلسطين عامة وغزة خاصة، فالجهود الإصلاحية التي بذلتها الحركات الإسلامية في فلسطين أحدثت تغييرا نفسيا اجتماعيا شاملا؛ فزكت النفوس وحررت العقول وألهبت الإرادات، وبعثت الحياة من جديد، حتى قال أحد المؤرخين اليهود: «أن المساجد هي دائما منبع دعوة الجماهير العربية إلى التمرد على الوجود اليهودي».
إن حركات الإصلاح أدركت جيدا أن القضية تكمن في روح الأمة، وأن الإصلاح يجب أن يتوجه لإحيائها وفق نواميس حركة المجتمعات التي بينها القرآن: «﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، لذا عملت حركة حماس على تعزيز ثقافة المقاومة في مناهجها التربوية التعليمية، وانشطتها الصيفية في المحاضن الدينية والثقافية، من مراكز تحفيظ القرآن الكريم، والمساجد، والأندية الثقافية والرياضية…
يصف القرآن الكريم أثر فعل الإصلاح في إحياء الأمم بقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120] أي أن إبراهيم «كانَ أُمَّةً وحْدَهُ في الدِّينِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في وقْتِ بِعْثَتِهِ مُوَحِّدٌ لِلَّهِ غَيْرُهُ، فَهو الَّذِي أحْيا اللَّهُ بِهِ التوْحِيدَ، وبثَّهُ في الأُمَمِ والأقْطارِ»، وهذا ديدن المصلحين في إحياء المجتمعات وانتشالها من وهن التخلف وبعثها حضاريا.
هذه عقيدة المصلحين ورثة الأنبياء؛ أن العذاب لن يرفع عن هذه الأمة إلا بالعودة إلى سر قوتها، وأن الاستعمار لن يزول إلا ببناء انسان جديد يحمل قيما ثورية ضد قيم الفساد والظلم والاستكبار، وتكوين جيل مقبل غير مدبر.
وقد استلهم المصلحون من القرآن الكريم أن معادلة النصر مرتبطة بالنصر في عالم الروح قبل النصر في عالم المادة ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]، فميزان التقوى يغلب ميزان القوة، وأن قوة الأمم وحياتها في قوة ايمانها.
وأن سبب الهزائم يكمن في الإخلاد إلى الأرض وعدم القدرة على كبح النفس ولجمها عن شهوتها، ويظهر هذا جليا في المعركة التي دارت بين طالوت وجالوت، يقول عز من قائل: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: 249]. فسر الهزائم كما تبين الآية عدم القدرة على منع النفس عن رغباتها في الأمور اليسيرة مآله عدم الثبات في المواقف الكبرى، وهذا ما نراه اليوم في جنود الجيش الإسرائيلي، من عدم قدرتهم على تحمل أعباء الحرب ومشاقها.
وهذا المعنى قامت عليه كل حركات الاحياء والإصلاح عبر التاريخ الإسلامي، فمنه استمدت الأمة استمراريتها عبر التاريخ، وما تنجزه المقاومة اليوم من بطولات وابداع وتضحية وصمود أسطوري مستمد من القوة الروحية التي بثتها حركات الإصلاح في روع المجتمع الغزاوي.
إنّ من سنن حياة الشعوب وانعتاقها من الغثائية والوهن، أن يقوم المصلحون بزرع بذور الايمان، فيتحرك الانسان ويحرر الأوطان ويبني العمران.

*كلية العلوم الاسلامية –جامعة باتنة 1

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com