في رحاب رمضان

عودة إلى تراث العلم والدين في بجاية البجائيون يُصلّون التراويح بمسجد “عبد الرحمن ابن خلدون” بعد قرابة القرنين من الغلق

إعداد: فاطمة طاهي/

تزامنا مع أول أيام شهر رمضان الفضيل، تم يوم الاثنين 11 مارس 2024م إعادة فتح مسجد “عبد الرحمن ابن خلدون” بقصبة بجاية. هذا المسجد الذي تولى فيه أبو علم الاجتماع “حامل اسمه” منصب الإمام والفقيه 1365، لمّا كانت بجاية قبلة للعلماء وطالبي المعرفة القاصدين معاهدها التي بلغت شهرتها الآفاق، فكان لها دور في حياة البجائيين وفي الساحة الفكرية العربية والإسلامية عموما. والجدير بالذكر أن مسجد “عبد الرحمن ابن خلدون” كان مغلقا منذ عام 1853 بعدما استولى المستدمر الفرنسي على المنطقة إبان الحقبة الاستعمارية، ليُرفع به الآذان مرة أخرى ولأوّل مرة بعد 190 سنة من الغلق.

إن حدث افتتاح مسجد “عبد الرحمن ابن خلدون” يعود بسكان منطقة القبائل أو الزواوة إلى الحقبة التي كانت فيها بجاية قبلة للعلماء ومقصدا لطلاب العلم والمعرفة فهي المدينة التي قيل عنها: “دار هجرة العلماء”، فقد استقبلت رجال الفكر والأدب والعلماء والمحدثين من الأندلس الفارين بدينهم من الاضطهاد الإسباني بعد سقوط دولة المسلمين هناك، كما استقبلت المنطقة علماء وأقطابا جاؤوا من مختلف الحواضر الفكرية والعلمية، ما جعل منها مركزا للإشعاع الفكري في منطقة المغرب العربي ومشرقها، ويعود هذا الجامع من جديد ليروي لسكان وشباب المنطقة تاريخ أسلافهم السابقين والسباقين لاحتضان الدين الإسلامي والقرآن الكريم واللغة العربية، فكان مركزا ومعهدا يتدارس فيه طلبة العلم والذين تتلمذوا على يد العلامة عبد الرحمن ابن خلدون وغيره من العلماء البارزين في العلم العربي والإسلامي.
ولقد ساهمت المساجد الجامعة ببجاية في تطوير الحركة التعليمية حيث تخرج منها الـكثير من علماء الفكر والثقافة، فالمسجد كان المؤسسة التعليمية الأولى في بجاية كما هو الشأن في العالم الإسلامي ككل، حيث كانت المساجد على رأس معاهد التعليم ومؤسساته العلمية فساهمت بدورها في انتشار الثقافة بها.
وتذكر الأبحاث التاريخية بأن: أبا عبد الله المستنصر عمل كل ما في وسعه لاستقدام الكتاب والعلماء وإدراجهم في المجالس العلمية ومن أبرزهم: أبو بكر بن عبد الله بن الخطاب المرسي الذي أرسل له أموالا كثيرة لهذا الغرض إلا أن ابن الخطاب اعتذر ورد له أمواله، أما أبو عبد الله الحفصي فقد استقدم عبد الرحمن ابن خلدون واسند إليه الخطابة والتدريس ببجاية.


ويذكر الحسن بن محمد الوزان أحد أعلام الرحالة والجغرافيين المغاربة أن في بجاية: “جوامع كافية ومدارس يكثر فيها الطلبة وأساتذة الفقه والعلوم”. بالإضافة إلى زوايا المتصوفة وقد قدرت حسب بعض المراجع التاريخية بحوالي ستين مسجدا أما الآخرون فقدروها بحوالي ثلاثة وسبعين مسجدا هدمت عشرة منها أثناء الاحتلال الإسباني لمدينة بجاية.
كما عبّر أبو عبد الله الشريف في عام 771هـ الموافق لـ 1369م أثناء زيارته لبجاية في قوله: “دخلت بجاية في القرن الثامن، القرن الثامن فوجدت العلم ينبع من صدور رجالها كالماء الذي ينبع من حيطانها وصرت أكتب في كل مسجد سؤالا حتى وصل أمره إلى السلطان”.
وحسب ما جاء في المصادر التاريخية أنه: من بين الشخصيات العلمية الغربية التي زارت منطقة بجاية عالم الرياضيات الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي (1170-1250)، وعالم الاجتماع الإسباني ريموند لول.
ومن مساجد بجاية التاريخية أيضا: “المسجد الجامع” بقصبة بجاية الذي شارك هو الآخر في الحياة الفكرية والإسلامية بالمنطقة، وحسب الأبحاث الذي أجريت حوله فقد كان موجودا في القرن 6هـ الموافق لـ12م، ويفترض أن المسجد الجامع بالقصبة هو ذلك المسجد الذي ذكر في مورد زحف الموارقة وعن زحف علي بن غانية الميورقي على بجاية، حيث تذكر النصوص التاريخية: “وتقدم إلى القصبة فاحتلها من غير قتال وركز علمه الأسود بها… ثم يمم المسجد الجامع والناس في صلاة الجمعة فأحاطهم بجنوده”. ومن أشهر من جلس للتدريس به أبو عبد الله محمد بن غريون البجائي عام 733هـ الموافق لـ1333م الذي عرف بخطيب القصبة.

  
ومن المساجد التاريخية بمنطقة بجاية: “جامع قصبة بجاية” الذي يعتبر أقدم مسجد جامع في مدينة بجاية التاريخية الذي بقي من عهد الدولة الحمادية، ومرورا بالدولة المرابطية ثم الدولة الموحدية والدولة الحفصية. وهو جزء من النسيج العمراني لمدينة “الناصرية” العتيقة التي كانت تضم، بالإضافة إلى عديد المساجد، كلا من الأسواق والمستشفيات التي كانت تلبي احتياجات السكان.
ومسجد سيدي عبد الحق: الذي ينسب إلى الشيخ الفقيه عبد الحق الأزدي الأشبيلي أحد علماء بجاية الذي تصدر للتدريس به وهذا حسب الغبريني، أما من الناحية المعمارية والأثرية فهو عبارة عن قاعة مربعة الشكل بها محراب ولا تحوي مئذنة.
مسجد أبي زكرياء الزواوي: يقع هذا المسجد بحومة اللؤلؤة خارج باب المرسى عند قبر الشيخ الولي الصالح أبو عبد الله العربي، وكان هذا المسجد موجودا في القرن 6هـ الموافق لـ12م، حيث كان يتردد عليه أبو مدين شعيب الأنصاري للتدريس به، ولـكن ما هو معروف أن هذا المسجد نسب إلى الفقيه أبي زكرياء الزواوي الذي جلس به ليعلمهم أمور دينهم فعرف باسمه ولم يبق منه سوى آثار محرابه.


مسجد المرجاني: نسبة إلى الشيخ الفقيه أبا زكرياء المرجاني الموصلي الذي كان كثير التردد على هذا المسجد، كما جلس للتدريس به فنسب إليه تكريما له بعد رجوعه إلى بلاده الموصل في بلاد المشرق. ومن مساجد بجاية أيضا مسجد الريحانة: وهو المسجد الذي درس به المهدي بن تومرت، ومسجد الموحدين ومسجد النطاعين ومسجد عين الجزيري وغيرها من المساجد التي كان لها دور في حياة البجائيين الدينية والتعليمية حيث أصبح المسجد قبلة لطلاب العلم والعلماء وبعض مريدي الفكر الصوفي، مما يبين مدى رقي العلوم وازدهارها ببجاية منذ القرن السابع هجري.
كما كانت بجاية تزخر بعدد من المساجد التي كان يقوم بإدارتها أهالي الأحياء التي تقع فيها، الذين يتولون الإنفاق عليها، ومعظم هذه المساجد بناها أهل المنطقة ميسورو الحال وبعض الشخصيات البارزة، وبهذه المساجد كان البجائيون يؤدون شعائرهم الدينية ويزاول فيها أبناؤهم تعليمهم في مرحلته الأولى. وهذا النوع من المساجد كان كثير الانتشار بأحياء بجاية في كل حي مسجد على الأقل.
وجاء في الأبحاث التاريخية بأن: أمراء بجاية اهتموا بترميم وإصلاح المساجد التي ترجع في أغلبها إلى العهد الحمادي، حيث حرصوا على تهيئتها لتؤدي رسالتها الدينية والتعليمية فاهتموا بإنارتها وفرشها بأزهى وأفخر الأفرشة وعنايتهم الدائمة هذه جعلتهم يشجعون العلماء والفقهاء ويستقبلونهم من مختلف الحواضر المغربية والأندلسية ليدرسوا بها، ولعل ذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى النزعة العلمية التي كان يتميز بها الأمراء الحفصيون فقد أولى الأمير الحفصي أبو زكرياء يحيى الأول عناية كبيرة ببجاية حيث وسع عمرانها حتى أصبحت حاضرة تنافس حاضرة تونس كما كان يرى أن اتجاه العلماء الأندلسيين إلى حاضرته تشريف لها وإغناء لثروتها العلمية وسمعتها الأدبية في إفريقية والعالم الإسلامي.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com