اتجاهات

الاستعمار أولاً وأخيرًا/ محمد الحسن أكيلال

 

البعض من العرب المستنيرين – مفترضا – المحسوبين على النخبة ينسون أو يتناسون البدايات التي عاشتها فلسطين وشعبها الذي رزئ بألعن من لعنهم الله من بني آدم وراحوا يشرأبون بأعناقهم ويديرون أعينهم في المآلات عساهم يجدون عذرًا أو مبررًا يسوغ لهم إمساك العصا حيث أمسكوها خفية غضب المنفقين عليهم، وتركهم حيث كانوا يرتزقون بكتاباتهم التي أصبحت تغني الحركة الصهيونية العالمية على بذل جهود أخرى للدعاية لفكرها وعقيدتها ومبرراتها اللا أخلاقية التي تسوقها في كل يوم للدفاع عن الجرائم التي يرتكبها جيشها في فلسطين المحتلة ضد الشعب الأعزل الذي لم يعد أمامه للدفاع عن حقوقه إلاّ القبول بالموت برصاص القناصة أو الجرح أو الأسر لسنوات قد لا تنتهي إلاّ بموته.

قد يقول قائل أن ما قالته “غولدا مايير” رئيسة وزراء إسرائيل في عهدها عن أن العرب لا يقرأون التاريخ، وإذا قرأوه فلا يتعظون به، أن ذلك من باب الحكم العنصري الساخر المستهزئ بالعرب وتخلفهم، لكن الحقيقة أن ما قالته هذه العجوز الحكيمة هو عين الصواب، وخاصة في الراهن الذي نحياه ونعيشه، الذي تلفه هذه الغمامة المخدرة التي لا نهاية لها، لقد أصبح من نسميهم نخبة – تجاوزًا –  هم أول المطبلين والمزمرين للتطبيع مع العدو في الوقت الذي كان يجب عليهم فيه إضرام الحرائق في كل ما يكتبون ويتفوهون به أمام الميكروفون والكاميرا لإزالة هذه الغمامة التي عجب أبصار الرأي العام العالمي حول ما يجري في فلسطين.

للتذكير فإن فلسطين اغتصبت من طرف الاستعمار البريطاني والفرنسي وبدعم أمريكي منذ بداية القرن الماضي وما زالت مغتصبة من طرف نفس الاستعمار مع تغيير طفيف في الأدوار تمليه الضرورة والمصالح؛ مع التطور الهائل لتكنولوجيات الإعلام والاتصال يفترض أن تستغل هذه الطفرة من طرف النخبة العربية والإسلامية لما فيه المصالح العليا للأمة ومن ضمنها أولاً وأخيراً تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني الذي أثبتت الأيام أنه وراء كل المصائب والأرزاء التي تصيب هذه الأمة.

إن العالم بعد أن عاش انتكاسة خطيرة خلال العقود الثلاثة الماضية باختلال التوازن الاستراتيجي بين القطبين اللذين توليا تسيير شؤونه وحماية أمنه والسلام فيه، ها هو يستعيد تدريجيا هذا التوازن، لكن بدل أن تتفطن نخبنا لهذا الجديد الطارئ يلاحظ العكس تماما عليها، فهي كأنها وجدت نفسها مثقلة بما ابتلعت من الغرب الاستعماري من فكر إمبريالي رأسمالي صهيوني، فأصبحت تتسابق للتموقع في الخطوط الأولى من الصراع بين الشرق والغرب، رغم أن احتياجاتنا للإعداد وبناء القوة لا يتأتى من هذا الغرب، بل بالعكس فهو يجردنا من كل عناصر ومقومات القوة التي يمكننا بها التحرر من هيمنته واستغلاله واستعماره.

الاستعمار واحد حتى ولو انقسم جغرافيا وتنظيميا، ففرنسا تقع في غرب أوروبا وبريطانيا جزيرة بين بحر الشمال والمانش والمحيط الأطلسي، والولايات المتحدة الأمريكية تقع بين المحيطين الأطلسي والهادي، لكن لأن مصالحهما المشتركة العليا واحدة وجذورهما الحضارية والثقافية واحدة وإيديولوجيتهما واحدة، فهي تستميت في الدفاع عنها بل وتهدد العالم بحرب عالمية ثالثة من أجل ذلك.

بالعودة إلى الماضي القريب جدًّا، لوحظ فجأة وبدون سابق إنذار قيام المملكة المتحدة باتخاذ قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي رغم أن القرار قد رفضته أغلبية المجتمع البريطاني، ويتعارض حتى مع المصالح الاقتصادية للمملكة، ومع ذلك تواصل تنفيذه مع سبق الإصرار لا لشيء إلاّ لأن الدولة العميقة فيها أشارت إلى ضرورة هذا الانسحاب، والدولة العميقة في بريطانيا هي قلب الاستعمار النابض والسلف الذي أعطى أرض فلسطين لأشخاص اجتثوا من أوطانهم وكونوا بهم شعبا يهوديا وأسسوا لهم دولة في أرض فلسطين، وبتطور الأحداث وتسارعها دلت كل التقارير والدراسات أن الأوان أوان طرد هذا المحتل وعودة كل فرد منهم إلى وطنه الأصلي. لقد كان قرار أغلبية أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة الاعتراف بدولة فلسطين ومنحها عضوية مراقب بمثابة ناقوس الخطر، لذلك ترك مجلس العموم البريطاني للتصويت لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية لكن منعت الحكومة من ذلك، نفس الشيء بالنسبة لفرنسا وكثير من دول الاتحاد الأوروبي، بدعوى أن القرار يجب أن يكون قرارا أوروبيا جماعيا، وهذا قد لا يمكن تحقيقه في الظروف الحالية.

تسارع الأحداث في سوريا دلت على أن النظام بدعم من روسيا وإيران سيحقق انتصارًا باهرًا ضد الإرهاب الذي فبركته أمريكا وحلفاؤها، سارعت أجهزة المخابرات الأمريكية بالتعاون مع “الموساد” إلى افتعال عملية اغتيال لجاسوس روسي باع نفسه لبريطانيا، لتبدأ عملية إضرام حرب دعائية ضد روسيا باعتبارها الوحيدة التي تمتلك ذلك السلاح الكيمياوي، ولم تنته في بريطانيا حتى انتقلت نيرانها إلى غوطة دمشق لإشراك نظام “الأسد” في التهمة، تهمة استعمال السلاح الكيمياوي ضد المدنيين، وللأسف الشديد أن تكون وسائل الإعلام والقنوات الفضائية العربية ورجال الإعلام العرب أول وأكثر الأيدي التي عملت على إضرام هذا الحريق المهول، والمستفيد الأول هو العدو الصهيوني الذي يرى في انتصار النظام السوري وتواجد إيران وحزب اللــه في سوريا تهديدًا خطيرًا لأمنه.

هذه الحادثة التي فبركتها بريطانيا العظمى التي انسحبت من الاتحاد الأوروبي أصبحت سببا مباشرا للقيام بهجوم صاروخي شاركت فيه كل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد قاعدة “تيفور” السورية، ليكون هذا الهجوم بمثابة التهديد بالدخول في حرب عالمية ثالثة مسرحها القطر السوري الشقيق.

بعد هذا لابد لفرنسا من دور صهيوني ذكي جاد في شكل بيان موقع من طرف ثلاثمائة شخصية أدبية وفنية فرنسية من بينهم الروائي الجزائري “بوعلام صنصال”  اسموه ضد معاداة السامية، وكأن اليهود وحدهم هم الساميون وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط ومنهم الفلسطينيون والسوريون والعراقيون ليسوا من أبناء سام بن نوح عليه السلام، هكذا يفعل الأذكياء البريطانيون باعتبارهم ذوي الفضل في منح الشرعية لشيوخ قبائل في منطقة الخليج ليكونوا ملوكا وأمراء، والفرنسيون ذوو الفضل في تسليح دولة الكيان الصهيوني بالسلاح النووي، وقد ساهموا في حرب العراق جميعا وإسقاط النظام والدولة وتدمير الجيش، مثلما فعلوا في ليبيا وحاولوا في الجزائر وما زالوا يحاولون بطرق أخرى منها تحريض الملك المغربي ضدها وممارسة ابتزاز قذر في المبادلات التجارية والعلاقات الاقتصادية، المهم أن فرنسا وبريطانيا وأمريكا صف واحد للدفاع عن دولة الكيان الصهيوني حتى لو اضطرهم ذلك لإشعال حرب عالمية ثالثة.

البيان الذي أمضاه الفرنسيون وعلى رأسهم “برنارد هنري ليفي” الصهيوني الفرنسي المنظر والموجه والمفعل لما سمي بالربيع العربي يطالب بحذف الآيات القرآنية المعادية لليهود، لقد نسي هؤلاء الذين يدعون الثقافة أن ما يطالبون بحذفه هو آيات محكمات من القرآن الكريم وهو روح الله ومنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو باعتباره الرب الخالق، لا يعادي مخلوقاته بما في ذلك هؤلاء اليهود، والذين نزلت في حقهم الآيات هم أولئك الذين اختاروا أن يعادوه بما اقترفوه من جرائم في حق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ومثل هؤلاء ما زال منهم فوق الأرض وما عداهم لم يعادهم الله تبارك وتعالى؛ أما نحن الذين يطلبون منا أن نحذف هذه الآيات، فليعلموا أن الفرق بيننا وبينهم أننا نحتفظ بالقرآن كما نزل ولا يمكن لمسلم حقيقي أن يتجرأ على كتاب الله ويحرفه ويحذف منه حرفًا واحدًا.

أما “بوعلام صنصال” الذي اختار معسكره فله أن يزور دولة الكيان الصهيوني ويرى بنفسه ما يفعله جنودهم بأطفال الشعب الفلسطيني ونساءه وشيوخه ثم ليفكر مليا هل سيبقى في ذلك المعسكر أم يعود إلى رشده.

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com