شهر شعبان… شهر الفضائل والخيرات/ يوسف جمعة سلامة
أخرج الإمام النسائي في سننه عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَالَ:( قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟! قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ؛ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ؛ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ )(1).
هذا الحديث أخرجه الإمام النسائي في سننه، في كتاب الصيام، باب صوم النبي “صلى الله عليه وسلم“ -بأبي هو وأمي- وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك.
من المعلوم أن لشهر شعبان منزلة عظيمة، حيث يُكْثر المسلمون فيه من الصيام، ويبتعدون عن الشهوات والملذات، فهم يتشبهون بالملأ الأعلى في طهارتهم وتفرغهم لعبادة الله عز وجل؛ لذلك خصَّه رسولنا – صلى الله عليه وسلم – بكثرة الصيام فيه، ولن نفوز بفضل هذا الشهر الكريم إلا إذا عملنا بما كان يعمله – صلى الله عليه وسلم – من صيام يُزكّي النفسَ وَيُصَفّى القلبَ وَيُقَرّب العبد من ربه؛ ليشكره على جليل نعمه.
وشهر شعبان يقع بين شهرين عظيمين، هما: رجب ورمضان، فقد ودعنا قبل أيام شهر رجب الذي شهد حادثة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كما نعيش الآن أياماً مباركة في ظلال شهر شعبان الذي شهد تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، كما أن شهر شعبان هو الشهر الذي يستعدّ فيه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لاستقبال شهر رمضان، شهر الخير والبركة بكثرة الصيام والطاعات والقربات.
نفحة بعد نفحة
إن لربنا في دهرنا نفحات، تُذكرنا كلما نسينا، وَتُنبهنا كلما غفلنا، فهي مواسم للخيرات والطاعات، يتزود منها المسلمون بما يُعينهم على طاعة الله سبحانه وتعالى:{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}(2).
إن نفحات الخير تأتينا نفحة بعد نفحة، فإذا ما انتهينا من أداء الصلوات المفروضة، تأتي النوافل المتعددة المذكورة في كتب الفقه، وإذا أدينا الزكاة المفروضة فإن أبواب الصدقات مفتوحة طيلة العام، وإذا أدينا فريضة الحج فإن أداء العمرة مُيَسّرٌ طيلة العام، وإذا أدينا فريضة الصيام فإن صيام النوافل موجود طيلة العام، وهكذا الخير لا ينقطع وهذا فضل من الله ونعمة.
وفي شهر شعبان ليلة مباركة، هي ليلة النصف من شعبان، وقد ورد في فضلها الكثير من الآثار، ففي هذه الليلة يُستجاب الدعاء، وَتَعُمّ المغفرة، وتهبط الملائكة على أهل الأرض بالرحمة، ولله فيها عتقاء كثيرون من النار، كما جاء في الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:( إنَّ اللهَ لَيطَّلِعُ في ليلةِ النِّصفِ من شعبانَ، فيَغفِرُ لجميع خلْقِهِ، إلا لِمُشْركٍ أو مُشاحِنٍ)(3).
لذلك يجب علينا أن نواظب على الطاعات في كل وقت، وأن نحرص على التزود بالتقوى، فنحن مخلوقون لعبادته وطاعته سبحانه وتعالي، امتثالاً لقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }(4) .
شهر شعبان …شهر الذكريات الخالدة
لقد أظلنا شهر شعبان، وأَهَلَّ ببركاته ونفحاته، تمهيدًا وتوطئة لشهر رمضان المبارك، ومن المعلوم أن شهر شعبان شهر مبارك لما فيه من الفضائل، فشهر شعبان حافل بالذكريات الإسلامية العظيمة، فهو الشهر الذي انتصر فيه الرسول – صلى الله عليه وسلم – في غزوة بني المصطلق، وفيه تزوج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حفصة بنت عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما-، كما فرض الله فيه صيام شهر رمضان المبارك في السنة الثانية من الهجرة.
ومن الأحداث المهمة التي سجَّلها القرآن الكريم في هذا الشهر المبارك: حادثة تحويل القبلة من المسجد الأقصى بالقدس إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة، بعد أن ظلَّ المسلمون يستقبلون بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً بعد الهجرة، وكان رسول الله– صلى الله عليه وسلم – يُحِبَّ أن يُحَوّل نحو الكعبة، فنزلت:{قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}(5)، فَصُرف إلى الكعبة.
ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد ربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في الآية الأولى من سورة الإسراء:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(6)، وذلك حتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين ولا يُفَرّط في أحدهما، فإنه إذا فرَّط في أحدهما أوشك أن يُفَرِّط في الآخر، وتتجلّى العلاقة المتينة بين المسجدين في أمورٍ عديدة، منها :
* من حيث البناء: جاء في الحديث الشريف عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال:” قلْتُ يَا رَسُولَ الله: أَيُّ مَسْجد وُضعَ في الأرْضِ أوَّل؟ قَالَ: “اَلْمسجِدُ الْحَرَامُ“، قَالَ: قُلْتَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: “اَلْمَسجِدُ الأقْصَى“، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيه“(7).
* من حيث استقبال القبلة: لقد كان المسجد الأقصى المبارك القبلة الأولى للمسلمين منذ فُرضت الصلاة في ليلة الإسراء والمعراج، حتى أَذِنَ الله- سبحانه وتعالى- بتحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، كما جاء في الحديث الشريف: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال:” صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ “(8).
* من حيث شدّ الرحال: جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة – رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:” لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى “(9).
* من حيث مضاعفة ثواب الصلاة: جاء في الحديث عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:” الصَّلاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلاةٍ، وَالصَّلاةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلاةٍ، وَالصَّلاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلاةٍ“(10).
* من حيث عدم دخول الدجال فيهما: جاء في الحديث “عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ أَمِيرًا عَلَيْنَا فِي الْبَحْرِ سِتََّ سِنِينَ، فَخَطَبَنَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: دَخَلْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- وَقُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا بِمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَلا تُحَدِّثْنَا بِمَا سَمِعْتَ مِنَ الناسِ، قَالُوا: قَالَ: فَشَدَّدُوا عَليْهِ، فَقَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ– صلى الله عليه وسلم –، فَقَالَ:” أُنْذِرُكُمْ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، أُنْذِرُكُمْ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، وَهُوَ رَجُلٌ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، “قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: أَظُنُهُ قَالَ: الْيُسْرَى“، يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، مَعَهُ جِبَالُ خُبْزٍ وَأَنْهَارُ مَاءٍ، يَبْلُغُ سُلْطَانُهُ كُلَّ مَنْهَلٍ، لا يَأْتِي أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ، فَذَكَرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَالْمَسْجِدَ الأَقْصَى، وَالطُّورَ، وَالْمَدِينَةَ، غَيْرَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، لَيْسَ اللهُ بِأَعْوَرَ، لَيْسَ اللهُ بِأَعْوَرَ، “قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَأَظُنُّ فِي حَدِيثِهِ” يُسَلََّطُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْبَشَرِ فَيَقْتُلُهُ، ثُم يُحْيِيهِ، وَلا يُسَلََّطُ عَلَى غَيْرِهِ”(11).
اللهم بلّغنا رمضان
أخرج الإمام البيهقي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه – قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ:( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ، وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ)(12).
لذلك كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – يدعو بهذا الدعاء؛ لمعرفته اليقينية بما في شهر رمضان المبارك من نفحات الخير، لذلك يتوجب على المسلمين الاستعداد لشهر رمضان المبارك الذي جعله الله سيد الشهور، وأفاض فيه الخير والنور، فهو من أوفرها خيراً، وأكثرها بركة، وأعمِّها نفعاً ورحمة للعالمين، فهو شهر كريم وموسم عظيم، فما أحوجنا لاستقباله بقلب سليم وعهد جديد.
هذا فضل شهر شعبان الذي يغفل الكثير من المسلمين عن فضله ومكانته، لذلك يجب علينا أن نغتنم هذه الأيام المباركة بالإكثار من الطاعات واجتناب المنهيات والمحرمات.
اللهم بارك لنا في شعبان، وبلّغنا رمضان، واحفظ شعبنا ومقدساتنا وأمتنا من كل سوء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الهوامش :
1- أخرجه النسائي.
2- سورة البقرة، الآية (197).
3- أخرجه ابن ماجه.
4- سورة الذاريات الآيات (56-58).
5- سورة البقرة الآية (144).
6- سورة الإسراء الآية (1).
7- أخرجه البخاري.
8- أخرجه مسلم.
9- أخرجه البخاري.
10- ذكره السيوطي في الجامع الصغير.
11- أخرجه أحمد.
12- أخرجه البيهقي.