الحـــق الـمر

نفالي والبرغوثي… لكــــل بــــلاد أرطـــالهـــــــــا !

يكتبه : د. محمــد قماري/

 

يحكى أن رجلاً كان يجوب ببعض الأسواق، وتوقف عند تاجر يبيع البرتقال، وطلب أن يزن له رطلاً، ولاحظ الرجل أن التاجر المحتال قد وضع كيلة تصغر عن الرطل، فأحتج لديه عن هذا الغش المفضوح، فما كان من التاجر إلا أن سأل الرجل: أنت غريب عن هذا البلد؟ وأجاب الرجل: نعم أنا من بلاد كذا…فقال التاجر: يا هذا ألم تعلم أن لكل بلاد أرطالها!
والفرنسيون في أمثالهم يضربون مثلا مشابهًا، إذا تعددت المعايير، ويقولون: (المكيال واحد والوزن مختلف) «Un poids et deux mesure»، وليس أشدّ على النفس من هذا الصنف من الجور، فالناس قد يقع عليهم الظلم ويتساوون فيه، فيسيئهم الظلم ويرضون بالمساواة، أما إذا اختلت الموازين في الظلم فتقع على أناس بعينهم لاعتبارات شتى، فإن الشعور بالغبن والقهر يتضاعف.
لقد كنا قبل شهر أكتوبر من العام المنصرم، نتابع ما يحدث في أكرانيا، ونأسى لحال النساء والأطفال وهم يهيمون على وجوههم في دول الجوار، طلبا للأمن وهربًا من الحرب، وكانت تلك البلدان تفتح لهم، وتتدفق المساعدات عليهم من كل حدب وصوب، فلما جاءت مأساة غزة، خفتت صورة أكرانيا في الإعلام، حتى لا يقارن الناس بين مأساة شعب، يلقى الدعم والمأوى والمأكل، وشعب آخر يمنع عنه الغذاء والدواء، ويقصف من السماء ومن البحر، وتهدم بيوت الناس على رؤوس قاطنيها، وتحول المشافي إلى ثكنات أحيانا وتسوى بالأرض في أحيان أخرى…
وإذا بالمتحضرين يقفون عراة، قد نزع عن وجهوهم اللحم والدم، وبدوا من قبحهم هياكل خالية ومخيفة، أشباح لا روح فيها إلا روح استحضار الانتقام والبطش، ولولا تلك النبضات في شوارع أوربا وأمريكا التي تجعلنا لا نيأس من الإنسان، لكان زوال الدنيا بما فيها ومن فيها أطهر لهذا الكوكب الذي غدا عبئا على الكون…
يوم الجمعة الماضي توفي المعارض الروسي (ألكسي نفالي Alexeï Navalny) في سجنه، وخرجت كبريات الصحف، وكبرى القنوات تتحدث عن (مآسي) الظلم الذي يلحق بالمعارضين لحكم بوتين في روسيا، وأن حاكم روسيا لا يعرف إلا طريقة واحدة في معاملة معارضيه (الموت) على حد تعبير جريدة (لومند) الفرنسية مثلا…
المثير في قصة هذا الكهل (48 سنة)، أنه كتب قبل سنتين احتجاجا، يشجب فيه معالمة إدارة السجن، نشره على حسابه على (انستغرام) ولم تحفل به تلك الصحف كثيرا في وقته، احتج نفالي عن احتجاز كتب كان قد جلبها معه، وخص بالذكر منها تفسير القرآن الكريم، والذي تماطلت إدارة السجن في تسليمه له بدعوة المراجعة إن كانت تلك الكب تدعو إلى العنف !
نفالي الذي استغرب هو نفسه من موقفه في كتابة ذلك الاحتجاج، كما نقلت الخبر وكالة الأنباء الفرنسية (AFP) في شهر أفريل 2021 ، أكد أن كثيرا من المسجونين معه لديهم رغبة في فهم الإسلام، وأن غالبيتهم لا يعرفون شيئا عن هذا الدين، وذلك وجه آخر من وجوه التقصير الذي يتحمل المسلمون تباعاته في الدنيا والآخرة، لأن العالم يرفض الفراغ فما لم تقدم ما عندك من حق، قام الآخرون بتشويهه وتقديمه بالباطل…
لقد رحل رجل يبدو أنه على جانب من التوازن الفكري والنفسي، رأى أن الأمور في بلده يجب أن تسير في اتجاه أفضل، وفي دنيا الناس آلاف من أمثاله ممن يجتهد في تغيير الواقع، سواء اتفقنا معهم أو اختلفنا فلهم سبق الاجتهاد، غير أن ما لا يختلف عليه اثنان أن نضال رجال ونساء من أجل تحرير أوطانهم من المحتل هي أشرف رسالة، وهو ما يقوم به المرابطون على أسوار المسجد الأقصى وما حوله.
فلماذا أغفل ذلك الإعلام الحديث عن (تهجير) السجين الفلسطيني مروان البرغوثي، تهجير من سجن إلى سجن أسوأ وكل (عالم القيود والسدود) سيء، وهو نوع من أنواع القتل المعنوي، ولماذا لا ترتفع الأصوات الإعلامية في وجه مذبحة على الهواء، وقتل مع سبق الاصرار والترصد بالحرمان من الغذاء والدواء والماء…هل نصدق شعارات الإنسانية في روسيا وننكرها في غزة؟
يا لعار الأقارب قبل الأباعد، وهم يطبقون الحصار لا على عبور السلاح، بل محاصرة حليب الرضع، وخبز الشيوخ والنساء، ودواء الجرحى والمرضى، لقد صاح الرئيس حسني مبارك يوم عبر الغزاويون عبر معبر رفح في وجه منتقديه: أغيثوا الفلسطينيين فلن يحتاجوا لعبور المعبر !
إن الفلسطينيين لا يبحون عن (نكبة) أخرى، بالخروج من ديارهم ووطنهم، ولكن غياب الأمن الاجتماعي والجوع، قد يدفعهم إلى عبور آخر لكن ليس من غير رجعة كما تحلم عصابات الصهاينة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com