أنوار الإسلام تشع من عمق إفريقيا
روبورتاج : أ. ياسين مبروكي/
واصلت الرسالة المحمدية والأنوار القرآنية، بعد أن توطدت أركانها بمكة المكرمة وبلاد الحجاز وأرض الشام، توسعها وانتشارها في مختلف أصقاع المعمورة من بلاد فارس وخراسان والقسطنطينية في آسيا إلى الأندلس في أوروبا مرورا بإفريقيا الشاسعة الواسعة خاصة في شمالها وغربها، التي احتضنت الإسلام وكانت المدد والسند والحفظ والصون لهذه الرسالة السماوية الخالدة.
هذه الرسالة التي احتضنتها الشعوب وآمنت بها وما تزال إلى اليوم متمسكة بتعاليمها وملتزمة بماهيتها ومطبقة لقواعدها رغم التلقبات والهزات البشرية المتنوعة من حروب دامية وإستعمار غاشم ونهب كاسح فادح وتهجير قسري دامغ وطمس ممنهج للهوية والثقافة والدين، والحقيقة أن إفريقيا هي أكثر المناطق في العالم تعرضا للغزو والنهب والطمس، لما لها من قدرات بشرية كبيرة وموارد طبيعية ضخمة وموقع استراتيجي يتوسط الكرة الأرضية تطل من خلاله على المحيط الهندي والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط والقارة القطبية الجنوبية.
وبرغم هذه الهزات والمصائب البشرية من قوى الشر التي سلطت على القارة الإفريقية إلا أن الإسلام والمسلمين إلى اليوم في انتشار وتزايد مستمرين، ففي دول شمال إفريقيا يعتبر الإسلام الديانة الأولى وبنسب عالية جدا في حين نجدها أقل بالنسبة لدول الساحل ودول غرب إفريقيا. سنسافر معكم في تقريرنا هذا إلى واحدة من الأمصار التي وصلها الإسلام في القرن الحادي عشر ميلادي والمسلمون اليوم بها هم الأكثر مقابل المسيحية والديانات الأخرى، كما أن رئيسها الحالي مسلم ولأول مرة في تاريخها، إنها ساحل العاج، الجنة الإستوائية والقلعة القرآنية والمنارة الإسلامية الشامخة.
نبذة عن دولة ساحل العاج
هي واحدة من دول قارة إفريقيا، عاصمتها السياسية مدينة ياموسوكرو وعاصمتها الإقتصادية أبيدجان، وتبلغ مساحة أراضيها 322,460 كم2، ونظام الحكم فيها جمهوري، استقلت عن الاحتلال الفرنسي عام 1960، تقع في الجهة الغربية من قارة إفريقيا، يحدها من الجهة الشرقية غانا، ومن الجهة الغربية غينيا وليبيريا، ومن الجهة الشمالية مالي وبوركينافاسو، ومن الجهة الجنوبية المحيط الأطلسي وخليج غينيا، أما مناخها فهو متنوع بين المناخ المداري في الجهة الشمالية، والمناخ شبه الاستوائي على الساحل، والمناخ المطري والجاف في الجهة الجنوبية منها، ويقدَّر تعداد سكان ساحل العاج عام 2021 بنحو 26,595,756 نسمة، وهم يتحدثون باللغة الفرنسية، التي تعتبر اللغة الرسمية هناك، إضافة إلى لغات محلية مثل: الديولية، والباوليية، ولغة دان، والسنارية، ويتألف المجتمع السكاني في ساحل العاج من العديد من المجموعات، ومنها: أكان، وأوغور، والأيفوريون، وهي تنقسم إداريًّا إلى 14 مقاطعة، ويعتمد اقتصادها على القطاع الزراعي، وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى تجارة العاج التي كانت تقام على الساحل.
دخول الإسلام إلى ساحل العاج
تعددت طرق دخول الإسلام إلى ساحل العاج وكان أسبقها وأنجعها طريق التجارة، مع تنقلات التجار المسلمين ورحلاتهم المستمرة إلى غرب إفريقيا سعيًا وراء الرزق، وشيئًا فشيئًا توغل التجار جنوبًا للحصول على العاج المستخرج من سن الفيل في ساحل العاج؛ حيث أدهش القبائل الوثنية صلاة المسلمين، ودفعهم للتعرف على دينهم.
وكانت أخلاق المسلمين وصدقهم وأمانتهم الأساس في نشر الإسلام بين القبائل الوثنية التي حاز انتباهها كتاب “القرآن الكريم” الذي يحمله المسلمون في كل مكان، وظنوا أنه السر وراء ثرائهم، كما اعتمد الملوك الوثنيون على المسلمين في إدارة الشئون المالية والإدارية؛ ما ساهم في نشر الإسلام بالبلاد. واعتمد التجار في نشر الدعوة على أخلاقهم إلا أنهم عمدوا في القرن العاشر الميلادي إلى استقدام الفقهاء خاصة من شمال إفريقيا وموريتانيا لنشر الفقه الإسلامي في المناطق التي يكثر بها المسلمون، ولذلك ساد المذهب المالكي في ساحل العاج وغرب إفريقيا.
وشعرت القبائل الوثنية بعلاقات قريبة مع التاجر المسلم، خاصة أن الأخير مع تعدد رحلاته وطول إقامته كان يلجأ لبناء منزل على الطرز الإسلامية الحديثة، ويتزوج من أهل البلاد، فدعم ذلك وشائج المودة مع أصهاره، وساهم في دخولهم الإسلام.
وإذا كانت المدن وأسواقها قبلة التجار، فقد ارتحل إلى ساحل العاج العديد من الدعاة قصدوا ريفها وغاباتها، بغرض الدعوة للإسلام والبعد عن شهوات وملذات الدنيا، فكان لهم أكبر الأثر في نشر الإسلام وتصحيح العقيدة، وحث القبائل على التخلي عن عادتها الوثنية.
أما الانقلاب الأكبر وسبب تحول ساحل العاج إلى الإسلام فيأتي عام 1025م حين اعتنق زعماء قبيلة الماندينجو الإسلام، والماندن أو الماندينجو إحدى أكبر وأهم قبائل إفريقيا الغربية، وينتشرون منذ القديم على ضفتي نهر النيجر وما حوله من حزام الصحراء الكبرى شمالاً وشرقًا، إلى ضفاف المحيط الأطلنطي غربًا وجنوبًا.
وهي المنطقة التي تتوزع اليوم بين كل من: غينيا، ومالي، وساحل العاج، وغامبيا، وسيراليون، وليبيريا، والسنغال، وغانا، وبوركينافاسو، والنيجر، ويطلق على لغتهم “أنكو”، وقد أدى اتساع رقعة المناطق التي يسكنونها إلى انقسام لغتهم إلى أربع لهجات رئيسية: ماندنكا، بمبارا، مندنكو، جولا، وتتفرع عن كل لهجة رئيسية بضع لهجات فرعية، ولكنها تدل على مسمى واحد وعلى شعب واحد.
واستطاعت قبائل الماندينجو المسلمة في شمال ساحل العاج من الاستقلال عن مملكة غانا 1050م، قبل أن تتمكن دولة المرابطين من احتلال عاصمة المملكة بعد حرب دامت نحو عشرين عامًا، والقضاء نهائيًّا على مملكة غانا عام 1076م على يد أمير المرابطين في الجنوب أبو بكر بن عمر.
وبعد دخول قبائل الماندنيجو في الإسلام، انطلق رجالها لنشر الدعوة الإسلامية، في غرب إفريقيا كلها، وإن لم يستطع الإسلام الانتشار في جنوب ساحل العاج؛ بسبب وجود الغابات الكثيفة التي تفصل بين الشمال المسلم والجنوب الوثني، كذلك بعد عواصم الممالك الإسلامية عن ساحل العاج.
واستطاع الإسلام بناء حضارات جديدة بالبلاد وغيَّر- على نطاق واسع- من عادات أهلها وثقافتهم، فاندثرت عادة العري، وتنظيم الزواج وتحديد عدد الزوجات مع منح المرأة حق اختيار زوجها، ووقف عادة توريث المرأة للابن أو الأخ، كما حدد الإسلام العلاقات الأسرية وأعطى المرأة حق الحضانة، وتم تقسيم الميراث على أساس الشرع، وعقاب المجرمين وفقًا لأحكام الإسلام في القصاص.
وتوالت الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا وساحل العاج وأهمها مملكة مالي التي اشتهر ملوكها برحلات الحج، ثم صنغاي وكانم وبرنو وغيرها، حتى ظهرت الأساطيل الأوربية على شواطئ غرب إفريقيا أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، وكان السبق للبرتغال ثم تلتها فرنسا وبريطانيا.
وبعد اكتشاف الأمريكيتين عام 1492م، تعرضت ساحل العاج لهجمات أوربية واسعة لسلب ثرواتها ونهبها واختطاف الأطفال والشباب والفتيات، وحمل ذلك كله على سفنهم المتجة إلى أمريكا، واستمرت هذه الجرائم البشعة حتى تم تحريم تجارة الرقيق عام 1848م، بعدما تسببت في تفكيك قبائل الماندينجو ونشر الذعر والهلع في غرب إفريقيا كله.
ويشكل المسلمون اليوم أغلبية السكان في شمال وغرب ساحل العاج، حيث يشكلون غالبية السكان في ولايات بانداما، وفاسولو، وغومبي، وسيسو، وتانو، وواكانو. كما توجد مجتمعات مسلمة كبيرة في المدن الكبرى في ساحل العاج، مثل أبيدجان، وبواكي، ويامسوكرو.
واعتباراً من تسعينيات القرن الماضي، بدأ يتبلور لدى مسلمي ساحل العاج وعي متنامٍ بمناطق الضعف والتحديات التي يواجهونها، وسعوا لتحسين أوضاعهم وتطويرها، وقد أسهم في تكريس هذا التطور عاملان أساسيان: أحدهما التحولات التي شهدتها البلاد إثر وفاة الرئيس فيليكس هوفوت بونيي، بما فيها صعود الرئيس الحالي الحسن وترا، والثاني عودة نخبة من المسلمين الذين درسوا في بلدان إسلامية واحتكوا ببعض التجارب الإسلامية المعاصرة، وقد نشط هؤلاء في إطار جمعيات وروابط ذات اهتمامات تربوية واجتماعية وإعلامية ودعوية، من أبرزها: المجلس الوطني الإسلامي، وجمعية الشباب المسلمين، ورابطة الدعاة في ساحل العاج.
وتتراوح نسبة المسلمين إلى إجمالي سكان ساحل العاج في المصادر بين: 42.9%، 55%، 60%، 65%، يليهم النصارى بنسبة تتراوح بين 20% و33%، أما البقية فهم من أتباع الأديان الوثنية والمذاهب الإفريقية التقليدية، وأكثر المسلمين العاجيين يعتنقون المذهب المالكي.
ويلعب الإسلام دورًا مهمًا في حياة العديد من المسلمين في ساحل العاج. يمارسون الصلاة الخمس اليومية، والصيام في شهر رمضان، والحج إلى مكة المكرمة. كما يشارك العديد من المسلمين في أنشطة اجتماعية وثقافية دينية، مثل بناء المساجد، وتمويل المدارس الدينية، وتنظيم الفعاليات الدينية.
المدارس الإسلامية في ساحل العاج
تنتشر المدارس الإسلامية في مختلف ربوع ساحل العاج وتسجل ضمن اهتماماتها الأولى التعليم القرآني والسنة النبوية واللغة العربية، وتهدف إلى الاهتمام بالقرآن الكريم، حيث أنه زمام متين لهذا الدين الحنيف فبالقرآن الكريم تُهدى إلى الطريق المستقيم، قال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} كما تساهم هذه المدارس في نشر الرسالة المحمدية على ضوء الكتاب والسنة في كافة أرجاء ساحل العاج، وتسعى إلى إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، منطلقين من قوله تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} وترمي في أهدافها كذلك إلى حث الأمة على العمل على ضوء ما جاء في الكتاب والسنة والحذر من مخالفتهما، مستندين إلى قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ومما تركز عليه تأهيل الدعاة والأئمة على المنهج القويم بالعلم النافع، بناء على قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، كما أن لها جهودا في مواجهة التيارات الفكرية المنحرفة بكل أشكالها، سواء كانت دينية، أم علمانية بأساليب عصرية، وبحكمة متوازنة، ومن أهدافها كذلك تشجيع المجتمع على قراءة القرآن الكريم، وكتب الحديث، وغيرها من الكتب الإسلامية، رغبة في رفع راية الإسلام في ربوع ساحل العاج عموماً. قال تعالى:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
أبرز ملامح الدعوة في المنهج التعليمي في المدارس الإسلامية بساحل العاج
يسجل المراقبون للمدارس الإسلامية نجاحا كبيرا ومحاسن واضحة في مناهجها التعليمية بسبب علاقتها بالدعوة إلى الله تعالى، مما أدى إلى ترسيخ العقيدة الصافية في قلوب المجتمع قبل إضرام نار الحرب التي كانت سبباً في إحياء الشرك بأنواعه في ساحل العاج، ولازالت مدرسة دار الحديث تقاوم مظاهر الشرك في دعوتها الخالصة من خلال المنهج التعليمي وعلاقته بالدعوة إلى الله حيث تركز فيه على الآتي:
أولا: العناية بالكتاب والسنة الشريفة:
1- حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب من خلال المناهج المقررة في جميع المراحل التعليمية، والتشجيع على المشاركة في المسابقات المحلية والدولية، كما يشارك أبناؤها في حلقات المساجد لتدريس كبار السن من الرّجال والنّساء.
2- حث المتعلمين والمدعوين على التحلي بأخلاق بالقرآن الكريم، والتخلي عن نواهيه، وعدم الخوض فيه بغير علم، والتحقيق من أقوال المفسرين والرجوع إلى التفاسير المعتمدة في معانيه، وتحذير الطلاب والمدعوين من القول في القرآن بغير علم.
3- تدريس السيرة النبوية بشكل مكثف، وإلقاء المحاضرات تحت هذا العنوان، لا شك أن هذا له تأثيره العميق في المجتمع العاجي، هذا لأنه يعد من أنجح الوسائل في مجال الدعوة والتعليم.
4- إقامة الحلق العلمية في المساجد لشرح كتب الأحاديث مثل: كتاب بلوغ المرام وغيره، وبيان أحكامها باللهجة «جولا»، لبيان أحكام العبادات والمعملات للناس.
5- تأهيل الأئمة والخطباء والوعاظ وإرسالهم إلى الأماكن المختلفة كما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم.
6- إبراز شعائر السنة الظاهرة وتطبيقها من الطلاب في البيئة المدرسية وفي جميع أرجاء ساحل العاج، وإظهار ذلك فيما يلبسه الأساتذة والمتعلمون في المدارس الإسلامية والمساجد، وأماكن المحاضرات والخطب وغيرها.
ثانيا: إظهار أصول الدين للناس وما يتبع ذلك من العبادات والمعاملات والأخلاق.
1- الأخذ بأيدي الناشئة إلى العلوم النافعة، وتشجيعهم على التحلي بالأخلاق الحميدة وإبعادهم عن الأخلاق الذميمة في الحياة العامة، من وظيفة، وتجارة، وحرفة.
2- التعمق في تشجيع المجتمع بالدعوة إلى الله، وصرفهم عن التوسل بالأموات وطلب قضاء الحوائج منهم.
3- مواجهة الأخلاق السيئة الهدامة بكل أشكالها سواء كانت دينية، أم علمية.
4- غرس روح المحافظة على الصلاة في الجماعة متمثلين قول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}.
5- تنظيم المحاضرات في تزكية النفوس بما تؤدي إلى استقامة السلوك، وتنشىء الأخلاق الرفيعة من بر وكرم.
6- توطين نفوس المجتمع على أداء العبادات بأكمل الوجه وأحسنه في كل حال من الأحوال.
7- تزويد المجتمع بصيانة النفس والأموال والأعراض، وذلك عبر المحاضرات والاجتماعات الدينية، والزجر عن كل ما يؤدي إلى الفساد في المجتمع العاجي.
8- تنمية وعي أفراد المجتمع ليدركوا ما يجب عليهم في الإسلام؛ إتباع المنهج النبوي القويم ومنهج السلف الصالح في جميع مجالات الحياة.
دور خريجي المدارس الإسلامية في الدعوة إلى الله
لخريجي المدارس الإسلامية دور لا ينكر في نشر الدعوة التي عمت معظم مناطق ساحل العاج، وذلك بمساهمتها في تخريج الأئمة والدعاة، ويمكن إبراز دور هؤلاء الخريجين في النقاط التالية:
1- قيامهم بالإمامة والخطابة في المساجد في كل جهات ساحل العاج متمثلين قول الله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال}. فهم يفيدون المجتمع العاجي بمواعظهم الحسنة وخطبهم البليغة، لأن أغلب المساجد كانت في أمس الحاجة إلى توضيح الخطب باللهجة المحلية وترجمتها باللغة الفرنسية، وقد ساهمت المدرسة في تحقيق ذلك.
2- تنظيم القوافل الدعوية إلى البوادي والأرياف لتبليغ الرسالة المحمدية على منهج السلف الصالح، لأن أهل البوادي والأرياف كانوا في السابق لا تأتيهم الدعاة طوال السنة، فقد ساهموا في هذا الجانب بما يسد جل الحاجة، وإن كانت هذه الجهود تحتاج إلى المزيد.
3- التدريس في المدارس الإسلامية في عموم مدارس ساحل العاج، وتعتمد أغلب المدارس الابتدائية والمتوسطة على هؤلاء المتخرجين في التدريس في المؤسسات التعليمية.
4- الإمامة والخطابة على مستوى الدولة ابتغاء وجه الله ومرضاته، ولما لهما من دورٍ بارز في مجال الدعوة، لقول تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
5- تعليم الناس أحكام العبادات والمعاملات، وإظهار معالم السنة المطهرة في ربوع ساحل العاج، ومحاربة البدع، من خلال الدروس في المساجد، عملاً بتوجيهات الخالق تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
6- الدعوة في السجون وفي المدارس الحكومية، بما فيها الإمامة والخطابة والمحاضرات وتدريس القرآن الكريم وفي المراكز الطبية الحكومية.
7- ابتعاث قوافل الدعاة إلى القرى لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وبيان محاسن الإسلام -وكله محاسن- وسماحته، وتنزيهه من جميع ما يلصق به من تهم.
التنصير والتبشير في ساحل العاج
كانت ساحل العاج في وقت من الأوقات عدة دويلات أسستها مجموعات إفريقية مختلفة. ففي عام 1483م بدأ البحارة الفرنسيون بالتجارة مع الأفارقة في تلك المنطقة. وبعد ذلك تحولت تجارة الرقيق إلى تجارة مهمة. وفي عام 1637م وصلت الحملات التنصيرية الفرنسية إلى هناك.
وفي عام 1842م اشترى الفرنسيون منطقة جراند ـ بسَّام ووضعوها تحت حمايتهم. وعززت المعاهدات التي أبرمها الفرنسيون مع رؤساء القبائل الإفريقية من نفوذ الفرنسيين في هذه المنطقة وتحولت منطقة ساحل العاج إلى مستعمرة فرنسية حتى عام 1895م وأصبحت جزءًا من مستعمرة غرب إفريقيا الفرنسية. وبعد الحرب العالمية الأولى بنى الفرنسيون الموانئ والسكك الحديدية، وعبّدوا الطرق، كما زرعوا البن وأشجار المطاط، وأنشأوا المراكز الطبية. وفي عام 1932م تحولت المستعمرة الفرنسية المعروفة باسم فولتا العليا (تسمى حاليا بوركينا فاسو) إلى جزء من جمهورية ساحل العاج. وفي عام 1947م جعل الفرنسيون من هاتين المنطقتين مستعمرتين منفصلتين.
بعد الحرب العالمية الثانية شرع الفرنسيون في تطوير المصادر الطبيعية في جمهورية ساحل العاج، وسرعان ما أصبحت هذه المستعمرة من أغنى مناطق غربي إفريقيا الفرنسية. وفي عام 1946م حول الفرنسيون منطقة ساحل العاج إلى مقاطعة داخل الاتحاد الفرنسي. وجرى في عام 1958م (داخل الجالية الفرنسية) تصويت جعل منطقة ساحل العاج جمهورية ذات حكم ذاتي، وكانت تلك الجاليات بمثابة تنظيم يربط فرنسا الأم بمستعمراتها فيما وراء البحار. وفي عام 1959م انضمت ساحل العاج إلى داهومي المعروفة حاليًا باسم بنين وإلى النيجر، وكذلك إلى فولتا العليا التي يطلق عليها حاليًا اسم بوركينا فاسو لتشكل مايعرف باسم مجلس التحالف؛ وهو اتحاد فيدرالي غير محدد المعالم. وفي السابع من أوت عام 1960م أعلنت ساحل العاج أنها جمهورية مستقلة. إلا أنها أبقت على روابط اقتصادية وثيقة مع فرنسا.
فرنسا التي كانت تعرف أن الإسلام والمسلمين هم فقط من يهددون مشروعها الإستراتيجي في ساحل العاج، حيث كان الشمال يَعُجُّ بالمدارس الإسلامية التي تعلم الدين واللغة العربية، فاتجهت فرنسا لعلمنتها، وإبعاد الدين عنها، فيما نشرت البعثات التنصيرية خاصة الكاثوليكية التي تدين بها فرنسا، وأنشأت العديد من المدارس المسيحية لنشر تعاليمها، بينما دخلت البروتستانتية على يد واعظ ليبيري عام 1913م، يدعى وليام هاريس.
وفترت الأعمال الفرنسية مع نشوب الحرب العالمية الأولى، قبل أن تعود مجددًا بعد انتهائها لمواصلة المشروع الفرنسي بمسخ هوية البلاد، واستخدام ذهب المعز وسيفه لتحويل المسلمين عن دينهم، ولتعزيز الكاثوليكية، فأنشأت المدارس الفرنسية التي سمحت بالدراسة فيها للمسيحيين والوثنيين فقط، فيما حرمت المسلمين من شغل الوظائف الحساسة والمهمة في بلادهم، ومكنت الكاثوليك من السيطرة على الجهاز الإداري للدولة.
وفي عام 1939م صدر قانون غرضه وضع رموز وزعماء المسلمين تحت المراقبة، ليمكن وزارة الداخلية من التضييق على أصحاب الشعبية من المسلمين، وحصر أعمال الدعاة وتحديد أماكن تحركاتهم، لإفساح المجال أمام المنصرين فقط في الغابات الاستوائية جنوب ساحل العاج.
كما قررت سلطة الاحتلال منح مكافآت فورية لكل من يرتد عن الإسلام ومنحه الجنسية الفرنسية، ومنعت تدريس الإسلام في المدارس، وشمل الحظر لغة الأنكو الخاصة بقبائل الماندينجو المسلمة التي أصبحت لغة الإسلام في غرب إفريقيا، فيما حرصت على تعليم ضعاف العقيدة من المسلمين في مدارسها أو نقلهم إلى باريس، حتى يتشربوا بالثقافة الفرنسية، ويحتقروا هويتهم وتعاليمهم ومن ثم إشاعة ذلك بين أهاليهم وفي مناطقهم.
وحاول حاماله بن محمد بن عمر مواجهة الإفساد الفرنسي بعد قدومه لشمال ساحل العاج منفيًا من السودان عام 1930م؛ حيث اشتغل بالوعظ والإصلاح ودعا لتغيير العادات الوثنية واستبدالها بالتقاليد الإسلامية، كما هاجم الصوفية المبتدعة، واستطاع أعداؤه إقناع السلطات الفرنسية في كوت ديفوار بأنه كان المسؤول في وقت سابق عن الانتفاضات السياسية في السودان الفرنسية، فطردته السلطات من كوت ديفوار وحظرت تعاليمه.
والحقيقة أن التنصير امتزج مع الاستعمار، فمنذ مؤتمر برلين 1884/1885م الذي قسم إفريقيا بين دول أوربا الاستعمارية الكاثوليكية (إسبانيا، البرتغال، إيطاليا، فرنسا، بلجيكا)، مما أشعل حماس الكنيسة البروتستانتية فتحركت من (إنجلترا، سويسرا، ألمانيا، والدول الإسكندنافية، والولايات المتحدة)، ولذلك عرف التنصير على أنه “حركة دينية سياسية استعمارية”، ولذلك تتصاعد نسب التنصير مع الاستعمار والحروب والمجاعات.
وقضية التنصير في إفريقيا بصفة عامة قضية لها أولوية على أجندة الكنائس المختلفة، فبابا الفاتيكان السابق يوحنا بولس الثاني كان قد أعلن في عام 1985 عن خطة لتنصير إفريقيا سنة 2000، ولذلك من بين 220 ألف منصر في العالم يوجد 119 ألفا منهم في إفريقيا!! ولإفريقيا الحصة الأكبر من ترجمات الإنجيل حيث ترجم إلى 498 لغة ولهجة إفريقية من مجموع 1808 ترجمات للغة ولهجة في العالم!!
والتنصير في إفريقيا ككل تشارك به كل الكنائس الرئيسة في العالم وكثير من تفرعاتها:
الأقباط، الأرثوذكس، الكاثوليك، الرهبان الفرانسيسكان والدومنكان واليسوعيون، الآباء البيض والكبوتشيون، البروتستانت، الإنجليكان، الميثودست، البزربيتان، اللوثرية، الباتست والأدفنتست وشهود يهوه.
ولإنجاح عمليات التبشير قام المنصرون والكنائس بجهود ضخمة لدراسة البيئة الاجتماعية والطبيعية وكذلك دراسة اللغات واللهجات المحلية والديانات التقليدية الإفريقية، من أجل وضع أفضل الطرق والأساليب للتنصير.
ولذلك قام فرانك جراي بوضع مصفوفة للتنصير عرفت باسم مصفوفة جراي، حيث قسم الناس تجاه التنصير إلى أربع مجموعات:
مَن يعلم عن الإنجيل وله موقف إيجابي من المسيحية، وعكسه من يعلم عن الإنجيل وله موقف سلبي، ومن يجهل الإنجيل وله موقف إيجابي من المسيحية، وعكسه من يجهل الإنجيل وله موقف سلبي، ثم جعل لكل مجموعة برنامجا تنصيريا يناسبها.
وبرغم كل هذه الجهود والخطط وتسخير الاستعمار المباشر قديما، وغير المباشر حاليا عبر الحكام التابعين لأوروبا أو الخاضعين للمعونات والمنظمات الدولية، أو عبر محاربة الجهود الدعوية الإسلامية بفزاعة الإرهاب وفتح الباب على مصراعيه للتنصير، إلا أن الإسلام هو الدين الأول لمجمل سكان القارة الإفريقية بنسبة تفوق 50% من سكانها، ونسبة المسيحية في أحسن حالاتها لا تزيد عن 38% من السكان.
ولكن لابد من التيقظ لهذه القضية وعدم الاكتفاء بما هو قائم اليوم، فالمنصرون يعملون بجد وعندهم إمكانات ضخمة، والدعوة الإسلامية تملك الحق ويلزمها القوة المالية والعلمية والإدارية والسياسية.