الحق مُرٌّ…وشاهدٌ ومشهود

يكتبه : د. محمــد قماري/
تأملت طويلاً في اتفاق لفظة (الشهادة)، بين من يقدم شهادة في أمر علمه كي يعين في تحقيق العدل، والشهادة التي تعني أن يُقتل الإنسان في سبيل الله؛ ما مناسبة الاتفاق بينهما؟ ورجعت إلى معاجم اللّغة، ووجدت ابن منظور في لسان ينطلق في سرد معنى مادة (ش.هـ.د) هكذا: «الشهيد من أَسماء الله الأَمين في شهادته. قال: وقيل الشهيدُ الذي لا يَغيب عن عِلْمه شيء، والشهيد: الحاضر…قال ابن سيده: الشاهد العالم الذي يُبَيِّنُ ما عَلِمَهُ، شَهِدَ شهادة… والشَّهِيدُ: المقْتول في سبيل الله، والجمع شُهَداء»…
إن الشهادة بين يدي القاضي تقتضي من الشاهد أن يكون حاضرا، فلا يشهد بما لم يعلم، وأن يكون أمينا عدلا فلا يُحرّف شهادته أو يكتمها، والشهادة التي يبذل فيها الإنسان دمه وروحه في سبيل الله هي قمة العدالة والشرف، وهي قمة الحضور والشهود على من تنكب سبيل الحق وتنكر له.
فقصة (الشهيد) تختزن في طياتها (شاهد) و(مشهود)، وهذا هو المعنى الذي جاءت به آيات سورة البروج، وقصة ذلك الغلام كما جاءت في السنة النبوية، حيث اهتدى شاب إلى بطلان ما يعبد قومه من أوثان، يستغلها حاكم في استعباد شعبه، وجن جنون الحاكم وهو يرى في ذلك الشاب أنه قدوة لغيره في سبيل الخروج من (ألوهيته) وبث روح التحرر في ذلك الجمهور، وحاول قتله في يوم مشهود، لكن النبال كانت تخطئ جسد الشاب في كل مرة…
وأشار الشاب على الحاكم أنه لن يستطيع قتله، إلا إذا قال عند اطلاق النبل (باسم الله رب الغلام)، ولأن الحاكم كان يستعجل رؤية ذلك الشاب مقتولاً، صوب النبل إلى صدره وقال باسم الله رب الغلام، فاخترق النبل صدر الشاب وخرّ (شهيدًا)، لكن ما لم يحسب له الحاكم حسابا أن جمهور الحاضرين صاحوا بصوت واحد: (آمنا برب الغلام)…ووقع ما كان يخشاه، وسرت دماء الايمان والحرية في عروق القوم من دم الشهيد!
وأمام قوة المنطق لجأ الحاكم (الطاغية) إلى منطق القوة، وأمر جنوده بحفر أخاديد تضرم فيها النار، ويرمى فيها المؤمنون أحياء، وكان مشهدا مريعا فيه أجساد تحرق (مشهود) وقوم يتفرجون عليها (شاهد) ولكنه شاهد سلبي ومتواطئ بصمته، يستحق اللعنة والخذلان !
وقد سجل القرآن الكريم ذلك المشهد: «… وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» (سورة البروج).
ولا يهم من تفاصيل المشهد، أن يقعد المتفرجون أمام حافة الأخدود أو من خلف شاشات التلفزة أو الهواتف…إنهم قعود ينظرون إلى النساء والأطفال والشيوخ والشباب، أجساد تحترق وتتفحم، وهم (قعود) و(شهود)، ويا لها من فرجة بائسة ومشاهد يحملها الشهيد معه إلى الشهيد الجبار «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»…
وربما على حواف الخندق كما في كل عصر ومصر، تنطلق تلك الألسنة الخائبة الخائرة، ما الذي جعلهم يغامرون ويتحدون قوة الحاكم، لو سكتوا لو اندسوا…وكذلك اليوم لو أن المقاومين لم يفعلوا لما دمرت غزة، وقبلها كانت ألسنة الحركى ومن تبعهم تنهش أعراض المجاهدين في سنوات ثورة التحرير (الفلاقة)، ومضى الشهداء ومعهم شهادة تعرض يوم الدين أمام (العزيز الحميد)، وقبلها قال المنافقون عن الصحابة الأبرار: «وقَالُوا لإخْوانِهم إذَا ضَربُوا في الأَرْضِ أو كَانُوا غزى لو كانوا عِنْدنَا مَا مَاتُوا وما قُتِلُوا ليَجعَل اللَهُ ذَلِكَ حَسْرةً في قُلوبِهمْ واللَهُ يُحيِي ويُميتُ والله بما تعمَلُونَ بَصِير» (آل عمران/159).
ستطوى مشاهد محرقة (غزة) كما يشاء القدر الأعلى، تطوى كما طويت صفحات التاريخ منذ بدايته، ويذهب (الشهداء) ومعهم شهادتهم عن الشهود القانعين في الذل والهوان، ويسجل التاريخ مواقف هؤلاء وهؤلاء، وإنهم لعز وفخار للشهداء في الدنيا وقد اختاروا موت العزة والكرامة، فالموت نهاية كل حي، وقد أحسن المتنبي في قوله:
إذا لَمْ يَكُن مِنَ المَوتِ بُدِّ فَمِنَ العَـارِ أَنْ تَمُـوتَ جَبَانَـا
إنَّه عار الإنسانيّة جمعاء، وعار الأمة التي تحسب أَنْفُسَها بما يربو عن المليار، وعار الجيران من ذوي القربى، ونحن جميعًا (شهود)، وإن تباينت المسؤوليات فإن التبعات تلحق الجميع، تبعات ضريبة تلحق الساكتين الخانعين، ونحن نعلم أنه (ليس من الموت بد)، ونعلم أن الساكت على الحق شيطان أخرس، ويالها من ملحمةٍ كاشفة دبرتها يد القدر، لتعري الأنفس وتعري الأباطيل، وتهدم فكرة (نهاية التاريخ)، وهو يتهيأ لبداية جديدة ليست على نمط ما كان !