رأي

حـــــول صمـــــود أهـــل غـــــزة : الحديد لا يلين إلا بالحرق والطرق

البدر فارس/

منذ بداية الحرب على الفلسطينيين بعد السابع من شهر أكتوبر سنة 2023م، كان الصمود والتصدي شعار «أهل غزة وفلسطين»، حيث صبروا وصمدوا في وجه الاحتلال الصهيوني، كما صبر الأولون من السلف الصالح حين فجّروا منابع اليقين والإيمان -رضي الله عنهم- في مواطن العسر والزلزلة، وظهرت مَقامات التسليم والثبات والصمود، ففي محنة «غزة» ابتُلي الفلسطينيون المؤمنون وزُلزلوا زلزالا شديدًا، وأحاط بهم اليهود والمُنافقون، وخرجوا بطرًا ورئاءً وصدًا عن سبيل الله، فقيل لِأصحاب «غزة»: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(سورة آل عمران، الآية: 173). هذا حال أهل الإيمان عند الشدائد وفي ساعات العسرة، صمودٌ وثباتٌ تستحي منه حتى الجِبال الراسيات…!!.

نعم، صمودٌ وثباتٌ تستحي منه الجبال الراسيات…!! ولكن سرعان ما يزول هذا العجب عندما تعرف أن هذا الإيمان في ساعات العسرة إنما منبعه اليقين في الله أولا، ثم الاقتداء بخير الصامدين الثابتين «محمد» (صلى الله عليه وسلم)، فقد امتلأت حياة الفلسطينيين بألوان مُتعددة من المحن، ومن عظيم البلاء، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا واثقين بنصر الله تعالى ووعده؛ ولذلك كانوا يتساءلون: متى نصر الله؟! والفلسطينيون سألوا متى نصر الله؟ ولم يقولوا أين نصر الله؟ والفرق بين السؤالين هو فرقٌ شاسع، فالأول سؤال الواثق في نصر الله وفرجه، وأما السؤال الثاني فهو سؤالٌ يشتم منه رائحة الشك والعجلة، وهذا حال من لا يعرفون سُنن الله في كَوْنه، ولا يدركون حكمة الله في عباده، فقد يتأخر الفرج والتمكين والنصر وقد يأتي سريعا، وذلك حسب مَقام الإيمان من قلب العبد واستجابة العباد لربهم، أو أن التأخيرَ يأتي لِحكمة لا يعلمها إلا الله، وهذه الحكمة تصب في مصلحة العباد، قال تعالى:{ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(البقرة: 216)، أو أن التأخير بسبب ما يعد لهؤلاء المُتجبرين الظالمين من عقاب، قال تعالى: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً}(سورة مريم: 84)، أو لِيتمادى الظالم في غيه لِيسطر حتفه بيده فيكون الإمهال لِحكمة:{أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(آل عمران: 178).
وبمناسبة ذكر الآية القرآنية:{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(البقرة: 216)، تذكرتُ إحدى الطرائف حدثت للشيخ «عفيف الدين يوسف بن البقال» المُتوفى سنة 666 هجرية، وكان صالحًا ورعًا زاهدًا، حيث يقول الشيخ: «كنتُ بمصر فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار، فأنكرتُ في قلبي وقُلتُ: يا رب كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟ فرأيتُ في المنام رجلًا وفي يده كتاب فأخذته فقرأته فإذا فيه هذه الأبيات، فيها الإنكار عليَّ:
دع الاعتراض فما الأمر لك   ولا الحُكم في حركات الفلك
ولا تسأل اللهَ عن فعله   فمن خاض لجة بحر هلك
إليه تصير أُمور العباد   دع الاعتراض فما أجهلك
وتوالي ساعات العسرة على المؤمن لا تعني استمرارها وسيطرتها، لأنه كلما اشتد البلاء، وعظمت المحنة بالمؤمنين الصادقين الثابتين فإن فرجهم يكون قريبا، وتلك سُنة كوْنية قدَّرها اللهُ سبحانه كما قال عزّ وجلّ: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}(الشرح: 6).
وليعلم القارئ الكريم أنه لم ولن ترفع مَطارق العسرة وزلزلة الابتلاء إلا بالإيمان الجازم، والتعرف على الله عز وجل في الرخاء، عن «ابن عباس» -رضي الله عنه- أن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) قال له: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك»(رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح). وفي رواية أخرى: يُروى عن النبي «محمد» (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «احفظ الله تجده أمامك، تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم: أنَّ ما أخطأكَ لم يكن لِيُصيبك، وما أصابك لم يكن لِيُخطئك، واعلم: أن النصرَ مع الصبر، وأن الفرجَ مع الكرب، وأن مع العُسرِ يُسرًا»(أخرجه الطبراني) (11/123، رقم: 11243).
ومعدن الكيان الصهيوني هو معدنٌ رخيص، معدنٌ من حديد لا يلين إلا بالحرق والطرق؛ وهذه حقيقة بديهية تأنف صفحات التاريخ من مُجرد سماعها لا الكتابة عنها؛ فإذا أردنا نحن كمسلمين العزة والكرامة لِأشقائنا الفلسطينيين، فلابد أن نضرب بيد من فولاذ الكيان الصهيوني حتى نُزيله من هذا الوجود، غير أن هذا النوع من العمل لابد له من مُقدمات وتحضيرات؛ فانتصارنا على اليهود الغاشمين لن يأتي من فراغ، ولن تكن النتائج التي سنحققها في هذا الميدان من دون مُقدمات، بل ستكون نتيجة منهج سياسي وتنظيمي وإداري وإصلاحي وإحيائي مُحكم وسليم سيمتد على أكثر من عشرات السنين، سيُساهم في نهجه وتحقيقه العلماء الربانيون والساسة والعسكريون والمُربون، وكل المُصلحين الذين سيساهمون مُساهمة فعَّالة في تحقيق هذا النصر، فطريق العزة والكرامة طريقٌ طويل يحتاج إلى التأني والمُثابرة والصبر… فإذا سرنا على هذا المنوال مُتحدين غير مُتفرقين، فنحن سنكون على يقين أن الله عز وجل لن يخذلنا أبدا بل سيمد يد العوْن إلى كل من سعى إلى هذا العمل النبيل، فالله سيُوفقنا في أكثر ما سنفعله إذا كانت النيّة خالصةً لوجهه العظيم، ونحن بَعْدُ مُدافعون لا مُهاجمون، وعادلون لا ظالمون، ومُتواضعون لا مُتكبرون.
وأسوق هذه القصة الآتية، لأنها تُلخص جانبا كبيرا من الفكرة التي أردتُ شرحها وحث الجميع على التحلي والتمسك والإيمان بها والعمل بها إذا أمكن ذلك: يُروى عن السلطان «صلاح الدين الأيوبي» أنه عندما قام بتحرير بيت المقدس سنة 1187م، وإعلانه عفوه وتسامحه مع الصليبيين، حدثَ موقف ظريف، فقد تقدّمَ صليبيّ من السلطان «صلاح الدين» يسأله: إذا كان السلطان يعلن سماحته هكذا؟ فلماذا حضر إلى بيت المقدس؟ وكان هذا سؤالًا يظنه السائل مُستعصِيَ الإجابة، وكأنه تصوَّرَ أنه يضع «صلاح الدين» في مأزق أمام أخلاقه الصريحة.
وبكل هدوء وثقة قال «صلاح الدين» للسائل: «أكانت المدينة لكم أم أنكم جِئتم فاغتصبتموها من أصحابها، وأسلتُم أنهار الدماء في يومٍ مشؤوم تتحدّثون عنه بالإعجاب؟!».
ووَقفَ، السائل لا يدري ماذا يقول، فقال له «صلاح الدين»: «اذهب سالمًا ولن يعترضك أحد، وقُل لِمن أرسلوك: إننا لا نُحاربكم في أوروبا، ولم نخترِق البحر بِسفُننا كي نزعجكم في دِياركم، ولكنكم اعتديتم على الآمنين، فكان من رسالتنا أن نردَّ الاعتداء».
وأزيد فأقول إلى جانب كلمة «صلاح الدين الأيوبي» هذه، قول الشاعر الكبير «المُتنبي» عندما قال:
لا يسلم الشرفُ الرفيعُ من الأذى   حتى يُراق على جوانبه الدمُ!
فأهل فلسطين هم في موقف الدفاع عن أرضهم الشرعية، بعكس اليهود الذين كانوا مَنبوذين مُشردين لفظتهم أوروبا، للتخلص منهم وإخراجهم من أراضيها فأسكنتهم فلسطين بغير حق وأعانتهم على الاستقرار في أرضٍ ليست من حقهم.
وفلسطين لها من الأهمية ما يُعبر عنها ذلك الحديث الشريف الصحيح؛ الذي يذكر أن الحرب الفاصلة بين المسلمين واليهود والتي ستكون عند ظهور علامات الساعة الكبرى وخروج المهدي ومن ثم المسيح الدجال والقتال بينهما ومن ثم نزول المسيح عيسى عليه السلام وقتله للدجال، ستكون تلك المعركة الفاصلة في فلسطين وِفق الأحاديث الصحيحة، عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم)، قال: «لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا «الغرقد»، فإنه من شجر اليهود» (صحيح مسلم/ح -2922-).
وأخيرا نُعقب بكلمة؛ فإن كان للمسجد الأقصى والأرض المُقدسة كل تلك المكانة العظيمة عند الله تعالى وفي نفوس المسلمين، فكيف لهم اليوم أن يتركوا المسجد الأقصى والأرض المُقدسة بين أيدي اليهود الغاصبين؟! الذين لا يتوانون في الإيقاع بالمسلمين ومُحاربتهم بكل الطرق، وتاريخ اليهود منذ نشأتهم وقبل الإسلام وبعد الإسلام وحتى اليوم حافل بالغدر والخيانة وقتل الأنبياء والتخريب والإفساد والإيقاع بين الناس، حتى إنه ما عرفهم أحد من حُكام الإمبراطوريات السابقة إلا وأجلاهم عن فلسطين ومنعهم العيش بها، واستمر الحال بهم مَنبوذين مُشردين حتى زماننا الحالي حيث لفظتهم أوروبا ورفضهم «هتلر»، فأخلاقهم ومكائدهم أساس علاقاتهم وحياتهم. ثم أرادت أوروبا التخلص منهم وإخراجهم من أراضيها فأسكنتهم «فلسطين» ودعمت هجرتهم إليها! وما زالت تدعم تلك الدولة المُسماة «إسرائيل» والتي لم تكن موجودة يوما! ولكن الحق يبقى لِأصحاب الأرض الأصليين ولا يمكن التخلي عنه مهما طال الزمن.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com