تعطيـــــل التدافع…

يكتبه : د. محمــد قماري/
التدافع سنة من السنن التي تحكم السير الوظيفي للحياة البشرية، وقد جاء النص عن فاعليّة هذا في القرآن الكريم: ” وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ” (الحج/40)، وجريان هذه السنة وفقا للآية الكريمة فيه وقاية من وقوع سنة أعظم منها، وهي سنة العدالة الالهية، بأن ينسف ذلك الواقع بكل تفاصيل مشهده، هلاك يعم الظالمين والمتقاعسين عن (التدافع)، فكما قال ابن كثير في تفسيره: (لولا أنه يدفع عن قوم بقوم، ويكشف شر أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف )؛ وهدمت الصوامع والبيع والمساجد، انقطعت الصلوات وعند هذا المنعطف يأتي سيف القدر الأعلى…
وفي القرآن أيضا، قصة تحكي نموذجا من محاولة تعطيل سنة التدافع، فلما سلط سيف القدر وحلّ الهلاك لم يستثن المعطلين، ففي قصة القرية التي كانت حاضرة البحر، وصف القرآن ثلاثة أصناف من المتحركين في المشهد، صنف الظالمين، وصنف يدافع، وصنف ينهون المدافعين، ولأن المدافعين قلة ووسائلهم محدودة، جاء سيف القدر ليحسم الصراع، تحدث عن مصارع الظالمين ونجاة المدافعين، وسكت عن السلبيين الخانعين، وهو سكوت يوحي بإلحاقهم بالظالمين.
” وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ؛ وإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ؛ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ” (الأعراف/164-165)؛ تلك محنة المعطلين لسنة المدافعة (عذاب بئيس) جزاء لفسقهم ومروقهم عن الجادة.
إن ما أقدمت عليه دولة جنوب إفريقيا، هو أحد أوجه الحماية للعالم المعاصر، وإن كان أقل من الواجب المترتب على الإنسانية كلها، غير أنه بعض الواجب في تعرية الظالمين، وشجب مسلك الظلم السافر، فلم يكتف الظلمة الإسرائيليين بقتل الآمنين من النساء والأطفال والشيوخ، بل ذهبوا إلى ممارسة مقززة ومنفرة في عالم يتحدث عن حقوق (الحيوان)، ويدبج الخطب في حماية البيئة…
أما قتل البشر…وصب الحميم من فوق رؤوسهم ليل نهار…وقطع الماء والغذاء والدواء عنهم، فتلك قضية فيها نظر!
إن المنظومة الدولية الحاليّة وهي تعطل سنن المدافعة، لن تمر دون عقاب يسلطه سيف القدر، يسلط على الظالمين بفعلهم وعلى المعطلين بسلبيتهم، ومع الأسف الشديد فإن رقعة تلك المنظومة متسعة وطاغية مما ينذر بخراب شامل وشيك على العالم كله؛ ومن هنا وجب النظر إلى ذلك الفعل الحضاري الذي أقدمت عليه جنوب إفريقيا.
وفي يومي رفع الدعوى والردود، ظهر من جديد ذلك المسلك القديم عند الصهاينة، وهو لا يختلف عن مسلك أجدادهم ” وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ” ولن يتأخر الرد “قلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم “؟ ذلك وهم وزيف ” بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ” (المائدة)، مسلك الاحتقار وازدراء الآخرين بدعوى التفوق والخيرية التي لا تستند إلى واقع…
إن الحرب التي تشهدها غزة ليست حربا تدور على قطعة أرض مساحتها ثلاثين ألف كيلومتر مربع، ولا تعني جزءا من البشر قوامه مليوني شخص، إنها تدور هناك في الضمير الانساني كله، حيث الامتحان الأكبر للقيم التي يمكن أن تستمر بها الحياة، وأهمها قيمة التدافع ومحاولة كف الظالم عن ظلمه.
إن البشرية جمعاء مسؤولة على ما يحدث، وعليها أن تستعد لأن تنال نصيبها من سيف القدر، فلم يحدث طيلة القرون الأخيرة على الأقل مثل هذا المشهد السريالي، حيث تهيؤ الظروف للمعتدي أن ينفذ عدوانه في حماية تامة، وصمت مطبق على جرائمه، ذلك هو السيناريو القادم المريع، فالسكوت عما يحدث في غزة، هو باب يفتح أمام عذابات العالم، وباب تعصف منه رياح عاتية تنزع ما بقي يستر سوأته…
وكم هو محزن ومحبط ذلك المشهد الذي تسير فيه الحضارة الانسانية إلى حتفها، بفعل المتكبرين الطغاة في هذه الأرض، وأن تنزل الرذالة ببعض البشر إلى منع الماء والغذاء والدواء عن الأطفال، هذا إن لم تصبهم شظية طائشة من قصف لا يتوقف، ودك بالمدافع وترويع في ما بقي من بيوت أو خيام، هذه حروف وكلمات أما ما يدور من معاناة وأحزان ومكابدة بين أهل غزة فاللغة أعجز عن تصويره.