الحـــق الـمر

عام مضى…وآخر حلّ!

يكتبه : د. محمــد قماري/

يصدر هذا العدد من (البصائر)، ونحن نتطلع لقدوم العام الميلادي الجديد، والناس يفرحون بمضي عام من حياتهم، هو شعور ترصده الرزنامات، والأجهزة الالكترونيّة كالساعات والحواسيب والهواتف…ويتبدل رقم الثلاثة من 2023 إلى رقم الأربعة، أما الشمس فتطلع وتغيب في موعدها، ولا فرق في كون الله الفسيح بين آخر يوم من ديسمبر وأول يوم من يناير، الفرق يكمن في أعماق هذا الإنسان وهو يقطع رحلة الحياة الشاقة، ويفرح بالملهاة كما يفرح الأطفال بلعبهم حين توضع بين أيديهم، لحظات أو ساعات ثم ينغمسون في نشاطهم الاعتيادي…
تلك مشكلة الزمن (الفارغ)، أما المؤمن الذي يمتد الزمن عنده، ويعرف أن زمن الحياة كلها إن لم يعمرها بالعمل الذي يواجه به مستقبله الأبدي، يغذو لحظات عابرة لا تختلف في شيء عن سعادة الأطفال وعبوسهم، وها هم أصحاب الزمن الفارغ يسألون في الآخرة عن أعمارهم الممتدة ومتعهم الزائلة: ﴿قَـٰلَ كَم لَبِثتُم فِي الأَرضِ عَدَدَ سِنِینَ ؛ قَالُوا لَبِثنَا یَومًا أَو بَعضَ یَومࣲ فَسـَٔلِ ٱلعَادِّینَ؛ قَـٰلَ إِن لَّبِثتُم إِلَّا قَلِیلا لَّو أَنَّكُم كُنتُم تَعلَمُونَ ﴾ (المؤمنون 114-112)…
يا الله…قد يكون أحدهم تجاوز الثمانية عقود يظن نفسه إلهًا أو نصف إله، جمع المال والسلطان، ثم يرسل هذه الإجابة المبهمة الخاشعة الغبية: (لَبِثنَا یَومًا أَو بَعضَ یَوم)، لبثنا يوم أو بلغة العصر 24 ساعة…لا، لا…أقل من ذلك بعض يوم فقط! ثم هي الحيرة والجهل: لا أعلم، لا أحصي: فَسـَٔلِ ٱلعَادِّینَ…
ترحل سنة، وتحل سنة أخرى بالتقويم الميلادي، والذي ربط بميلاد أحد الأنبياء من أولي العزم، عليهم الصلاة والسلام، وفرحا بمولده زعموا يعربد الناس في العالم، ويتحللون من انسانيتهم، ويسكرون حتى مطلع الفجر! احتفالاُ بمولد المسيح الذي جاء يهدي الناس إلى قيم الخير والرشد، ويخرجهم من التمرغ في الوحل والطين إلى خفة الروح والجمال والجلال…
تمر سنة أخرى من أعمارنا والعالم من حولنا ليس بخير، فالإنسان المعاصر الذي استطاع أن يسخّر طاقات الكون من حوله، وأصبح يطير في السماء ويغوص في أعماق الماء، ويضاعف من انتاج ما يحتاجه من مأكل ومشرب وملبس ووسائل رفاهية…هذا الإنسان لم يتخل عن طمعه وجشعه بل عن جهله وظلمه « إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» ، إن الجهل هنا ليس بما حوله، بل الجهل بنفسه، أو جهل مركب لخصه الطبيب الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الطب (أَلكسي كاريل) في كتابه القيم (الإنسان ذلك المجهول).
ونحن نودع سنة أخرى، وتكاد العشرية الثالثة من الألفية الثالثة من الميلاد أن تنتصف، والمشاهد الفظيعة المؤلمة تتوالى من قطاع غزة، وتتوالى المواقف المتجمدة الباردة من ساسة العالم (المتمدن)، وهم يباركون مجزرة تنقل بالصوت وبالصورة عبر القارات الخمس، فماذا أبقى الإنسان المعاصر من فظائع الإنسان الذي كان يسمى متوحشًا؟
بماذا يمكن أن يفاخر إنسان (نهاية التاريخ)…والإمبراطورية الراعية للديمقراطية وحقوق الإنسان على الإنسان البدائي الهمجي، وعدسات التصوير شديدة الدقة تنقل صور أشلاء النساء والأطفال، وتترصد ما يمكن أن ينشأ من أوبئة وأمراض تفتك بمن نجوا إن نجوا؟
هل نتصور في هذا العصر أن يتفرج العالم على تجويع الرضع والأطفال، وحرمانهم من أبسط ظروف العيش، فإذا تسربت قطرات إغاثية قامت العصابات الصهيونية بقصفها حتى يموت الناس جوعًا! هل هذه هي نهاية التاريخ؟ ألا بئست النهاية والظلم كما قال ابن خلدون (مؤذن بخراب العمران)، فإن كان الذي يحدث على أرض غزة ليس ظلمًا فأين العدالة؟
إن مسؤولية العالم على حماية نفسه من الخراب في كفة، ومسؤولية الامبراطورية الامريكية وتوابعها في المنظومة الغربية في كفة أخرى، فالجرائم التي تحدث لقطاع من البشر في عالم يوثق كل شيء وينشر على أطراف المعمورة كل شيء، مؤذن فعلا بخراب العمران وتفسخ العقد البشري، ويفتح أبوابًا لأحقاد وصراعات قادمة، لا يفيد معها (منطق القوة) بعد أن فقدت الجماعة الدولية (قوة المنطق)…
إن الأرض تسبح بالبشر في الفضاء، كما تسبح السفن في المحيطات، وإذا توطأ ربان السفينة مع من يحدث فيها خروقا وشقوق، غرقت السفينة كلها بمن فيها، لأنها تفتح باب العربدة على مصراعيه، ويصبح باستطاعة كل (مقامر أو مغامر) أن يعبث بمصير كل ركاب السفينة، فالقائد يفقد هيبته الأخلاقية قبل هيبة القوة، فالقوة نسبية وأكثر أوجه نسبيتها الجانب المعنوي، حيث يسلم الجميع للقائد، ويلتفون حولهم من أجل سلامتهم، فإذا تخلى القائد أو تزحزح عن مكانه دب الخراب، وأصبحت السفينة على كف عفريت!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com