الحـــق الـمر

واحد من الناس…

يكتبه : د. محمــد قماري/

قبل سنوات يوم حل وباء كورونا، وانكفأ الناس في بلدانهم بل في مدنهم، بدا الأمر كما لو أن البشرية تعود مجبرة إلى عصور تاريخيّة قديمة، ومع انجلاء غمامة الوباء، تحرك البشر يتدافعون على الطرقات والموانئ والمطارات، وفي رحلتي هذه الأيام لأوروبا لاحظت كأن (ردة فعل) نشأت عن سنوات الحبس الوبائي…في المطارات والشوارع ألوان وأعراق، ألسن تنطق بكل لغات الدنيا، وللحظة قد تشعر أنك نائم وما تراه أضغاث أحلام…
تلك هي إحدى حسنات (العولمة)، وهي ظاهرة لو يستغلها عقلاء بني البشر لآتت أكلها في تقريب الثقافات، وأصابت ألسن تجار الفتن والعنصرية، وتجار السلاح والاحتراب في العالم بالخرس…
من يقوم في وسط هذه الحركة، بتبليغ تلك الرسالة الراقية: (أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى) رواه الإمام أَحمد، ولا نقصد بالتبليغ بداهة تبليغ الألفاظ والكلمات، وإن كانت هامة وتقتضي تعلم ألسنا عديدة، وفهم ثقافات شعوب وأمم، والأولى هو انخراط المسلمين بسلوكهم الايجابي…بالنظرة الحانية والفعل الايجابي.
إن قطاعات واسعة من المسلمين، وهم يعيشون في ديار الغرب، يشعرون بالاضطهاد والتحيز ضدهم، وينكفئون بسبب خطاب ظالم في حقهم، يهدف إلى زرع عقد الاحساس بالدونية، وذنوب لم يقترفونها، فلم افترضنا أن بعضا من أبناء المسلمين قام بما لا يقره القانون، فإن ذلك لا يبرر العقاب الجماعي، ففي كل الشرائع (الذنب شخصي) ولا تزر وازرة وزر أخرى…
ومع ذلك، فإن الواقع الذي يجب أن يبنيه المسلمون بأخلاقهم، وحسن سلوكهم واحترامهم لأهل البلد من جهة، وللوافدين من غيرهم، يجعلهم مصدر اشعاع وبناء في المجتمعات التي هاجروا إليها، وأن لا ينشغلوا بـ(شعائر) هي أقرب إلى منطق البيئات منها إلى منطق الثقافة، كالإصرار على مظهر بعينه، والاعتقاد أنه هو مظهر المسلم.
إن العولمة التي أريد لها أن تكون (نهاية التاريخ)، بالمعنى الغربي الرأسمالي، وما يختزنه من (عقد) نشأت عن صراعات تاريخية، لا يمكن لتلك العولمة أن تمضي في طريق يعجل بـ(صدام الحضارات)، لأن نتيجة تلك العجلة هو السقوط المريع لمكاسب الانسان في هذا العصر، والتعجيل بسقوط الحضارة الانسانية في دورها التاريخي المعاصر.
إن حوار الحضارات في مستوى هذه الحركة التي تجوب العالم، ومحاولة طرح بدائل تنمي المشترك والقابل للبقاء بين بني البشر هو الحل الأمثل، في مواجهة أزمة الانسان المعاصر، والذي يسعى بعضهم إلى جعله رقما بلا هوية ولا مرجعية، وهو ما تبشر به فكرة (النيوم).
إن التعليمات العامة التي جاء بها الإسلام، سواء على مستوى المقاصد، وهي تحفظ (الدين) و(النفس) و(العقل) و(المال) أو على مستوى الآداب والمعاملات، هي تعليمات لا ترفضها الفطرة السليمة، ومن ثمَّ يمكن أن تستلهم بوصفها (كلمة سواء)…
لقد أظهرت أحداث الأسابيع الأخيرة، اتساع الهوة بين الخطاب والواقع في دوائر صنع القرار في الغرب، فالخطاب الذي يرافع من أجل نبذ الكراهية، واهدار حقوق الانسان، وبث قيم العدالة، وواقع يدوس على تلك المنظومة كلها ويحطمها، فالحرية والعدالة وحق البشر في الحياة لا يعني كل البشر، بل يقصي فصيلا من البشر بعينهم.
وتلك مأساة أخرى، أن يكون الخطاب مزدوجا ووقحا ومفضوحا، في زمن السموات المفتوحة، وزمن انتقال المعلومة في لمح البصر، لقد تغير العالم وتغيرت أدواته، ولم تتغير فيه رؤى بعض الساسة وقناعاتهم، تستدعي خطابا تفوح منه رائحة الكراهية والحقد، ويتجاوز قيم التسامح التي تصم الأذنين، ونصرة الانسان حيث كان مقهورا أو مهدورا.
إن العولمة في سياقها العادي وهي تتيح هذا التدفق في حركة البشر، أو بوجهها الآخر الذي يسمح بحركة المعلومة وسرعة تداولها والقدرة على توثيقها، كل ذلك يدخل البشر في منطق مرضي، هو منطق (انفصام الشخصية) الحضارية، شخصية تتحدث عن الخير والحياة عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا، وهي هي ذات الشخصية تصرف النظر عن مأساة ومحرقة في غزة، وقودها مدنيين من أطفال ونساء وشيوخ.
نحن البشر على مفترق طريق، والحضارة المعاصرة المتخمة على شفا انهيار، لا بسبب أزمات الاقتصاد أو تقلبات الأسواق، لكن بسبب أزمات ضمائر الساسة، وتقلبات أسهم القيم الانسانيّة الكبرى، ولا يمكن أن يستمر الحال على ما هو عليه…فإما انفراج أو لا قدر الله سقوط تام.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com