كلمة حق

اللغة العربية وخصوصياتها العلمية

من أهم المحاضرات التي أُلقيت في مجمع اللغة العربية بالقاهرة محاضرة الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد باشا، أستاذ الفيزياء في جامعة القاهرة، وعنوانها: «خصوصيَّاتُ اللُّغةِ العلميَّةِ العربيَّةِ وضرورةُ تنميتِها المُستدامَةِ».

بيَّنَ فيها إبداع المنهج العلمي القائم على التجرِبة والاستقراء، ونقل نصًّا لابن حيان (120-200هـ)؛ وهو: «وأول واجب أن تعملَ وتُجرِيَ التجارِبَ؛ لأن من لا يعمل ويُجري التَّجارِبَ لا يصل إلى أدنى مراتب الإتقان، فعليك يا بُنَيَّ بالتجرِبةِ لتصل إلى المعرفة».

وكذلك ما قاله أبو عبد الله القزوينيُّ (606-682هـ) في كتابه: «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» داعيًا إلى الصبر والمثابرة على البحث العلمي: إياك أن تغترَّ أو تعتلَّ إذا لم تُصِبِ [الهدف] في مرة أو مرتين؛ فإن ذلك قد يكون لفقد شروطٍ، أو حدوثِ مانعٍ؛ فإذا رأيت مغناطيسًا لا يجذب الحديد فلا تُنكر خاصيته، واصرف عنايتك إلى البحثِ عن أحواله؛ حتى يتَّضِحَ لك أمرُه».

وكذلك ذهب روجر بيكون (Roger Bacon) (1214م- 1294م) الفيلسوف الإنجليزي الذي أُعجِبَ بالحضارة الإسلامية وبمنهجها العلمي قال: «إنه باتباع المنهج التجريبيِّ الذي كان له الفضلُ في تقدم العرب، فإنه يُصبِحُ بالإمكان اختراعُ آلات جديدة تُيسِّرُ التفوق عليهم؛ ففي الإمكان إيجادُ آلات تَمخُرُ عُبابَ البحر دون مجدافٍ يحرِّكُها، وصنعُ عرَباتٍ تتحرك بدون دوابِّ الجرِّ، وإيجادُ آلاتٍ طائرةٍ يستطيع المرءُ أن يجلس فيها، ويُديرَ شيئًا تَخفِقُ به أجنحةٌ صناعيةٌ في الهواء مِثلُ أجنحة الطير، وهذا الخيال هو ما تحقق في الواقع، وتفوق به الغربُ على العربِ».

وذكر الكاتب الأمريكي المعاصر لنا في جريدة «نيويورك تايمز» في 18 أبريل سنة 1999م، في مقال له عُنوانُه: «أحسنُ فكرةٍ شهدتها الألفيةُ الثانيةُ» أشار إلى ابن الهيثم (965-1042) ومنهجِه العلميِّ التجريبيِّ الاستقرائيِّ في حل مشكلة الضوء والإبصار؛ فهو الذي دل على سرِّ التقدم واختراع المستقبل الذي يُعزى إليه كلُّ ما حدث بعد ذلك مِنِ اكتشافاتٍ وثَوْراتٍ علميةٍ وتقنيةٍ كبرى، وقال: «ولعل فكرة ابن الهيثم سوف تظلُّ الفضلى في الألفية الثالثة أيضًا».

والموضوعية في العلم لا تخضعُ للأهواء وأمانة الباحث الشخصية؛ فيرى الأستاذ أحمد فؤاد باشا أن لغتنا العربية لا تستطيعُ أن تستعيدَ عالَمِيَّتَها، ولا أن تُحقِّقَ تنميتها في مواجهة تحدِّيَاتِ العولمة؛ إلا بثورةِ «تعريبٍ شاملٍ»، وإعداد مدونة حصرية لكلِّ المصطلحات العلمية والتقنية التراثية والمعاصرة؛ مما يُمهِّدُ لِرَقْميَّتِها وحَوسَبَتِها، وَفقَ خُطَّةٍ مدروسةٍ، فهذا هو الضمان الوحيد لأن تعيشَ لغتُنا في تطوُّرٍ مستمرٍّ؛ فإن لغةَ العلمِ ومصطلحاتِه ونظرياتِه وقوانينَه ومنهجيتَه عالَمِيةٌ بطبيعتِها، وإن لغة العلم التخصصي تتشابكُ بدرَجاتٍ متفاوتةٍ مع علوم أخرى في المنظومة المعرفية الإنسانية؛ فإن المعرفة العلمية ذاتُ طبيعة عالمية لا تتوقف على جنس أو بلد، وقضاياه عالمية يشتركُ فيها علماءُ العالَمِ كلُّهم، إذ يختصُّ التبايُنُ بين الشعوبِ والسلالاتِ إذا ما تركزتِ الجهودُ على مشكلةٍ علميةٍ معينةٍ.

ومن أهم الخصائص العلمية العربية أسماءُ الأجهزةِ والآلاتِ والأدواتِ العلميةِ والتقنية، والطريقةُ المثلى لاستعمالها، وقد صنع ابن الهيثم بنفسه الأدوات التي يحتاجها في بحثه، كما صنع الزهراويُّ الأندلسيُّ أدوات جراحية متعددة، وصوَّرها في كتابه.

كما أن بداية استعمال الرموز في المعادلات الرياضية إنما شرع في استعمالها العلماءُ الرياضيون المغاربةُ؛ كما فعل ابنُ البنَّاء المَرَّاكُشِيُّ (721-1321) وابنُ قُنفُذ القسنطيني الجزائريُّ (740- 810)، ووضع القَلَصَادي (891- 1486) مجموعةً من الرموز الجبرية العربية؛ مِثلَ حرف (جـ) رمزًا للجذر، وللعنصر المجهول حرفَ (ش) أو (س).

وهذا الانتقال من لغة الألفاظ إلى لغة الرموز في التعبير عن المعادلات والقواعد الجبرية له أهميتُه في الاختصار والدقة في بناء الأنساق الرياضية، وكذلك استعمال الأرقام والرسوم والأشكال والجداول يُغني عن صفَحاتٍ من الكلام اللفظي، وما فيه من الألفاظ المشترَكةِ التي تحتملُ عدَّةَ مَعانٍ.

ويُمكِنُ هذا من التعبير الكمِّيِّ بدلَ الكيفيِّ الغامضِ، وهذا ما يجعل اللغة ذاتَ طابعٍ عالميٍّ، ويؤدي إلى الحوسبة اللغوية، وإلى الترجمة الآلية، واللسانيات الحاسوبية، وعلم هندسة اللغة، وفهم السياق اللغوي، والمستوى المعجمي والمنطقي للُّغةِ، باستعمال أسلوب الإحصاء والتحليل اللغوي.

وقد ألَّفَ الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد باشا عدَّةَ مؤلفات ومقالات؛ منها: فلسفة العلوم بنظرة إسلامية، آفاق المعاصرة في تراثنا العلمي، وتعريب العلوم والتقنيات، ومعجم المصطلحات العلمية في التراث الإسلامي.

وقدمت محاضرات أخرى، ربما تتاح لنا الفرصة لتحليل أهم عناصرها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com