حوار

الدكتور علي العشي، أستاذ بجامعة الزيتونة للبصائر/ حاورته فاطمة طاهي

 

“المطلوب اليوم هو أن ننتج خطابا آسرا جاذبا لا منفرا للناس”

“الأمة بحاجة اليوم إلى مؤسسات التجديد الإسلامي حتى تخرج من كوبتها”

“لازالت الأمة تعاني ترديا في الفقه السياسي”

أشار الدكتور علي العشي، أستاذ بجامعة الزيتونة، وعضو الاتحاد الدولي للأكاديميين العرب، في حوار له مع جريدة البصائر، إلى أن إهمال وبعد الأمة عن دينها وعدم أخذها لأسباب التكنولوجيا والتقدم، جعلها في انحدار حضاري، بعد أن كانت تصدر العلم وتقود الأمم من قبل، مشيرا إلى  التجديد الإسلامي، ودوره في توضيح المفاهيم الخاطئة البعيدة عن الدين والعودة بالمفهوم الصحيح والواضح، كما جاء على يد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، ويضيف الدكتور أن الخطاب الديني يجب أن يبنى على الرحمة من أجل وحدة المجتمع ورفعته، وعلى صعيد آخر، تحدث الدكتور عن الفقه السياسي مشيرا – إلى أن البحث والمجلدات عن الفقه السياسي تكاد تعد بالأصابع، داعيا في هذا الصدد إلى ضرورة التجديد في هذا المجال لدوره في المضي قدما بهده الأمة.

 –أهلا بك دكتور في الجزائر، بداية لو تقدم للقراء نبذة عن شخصكم الكريم؟

* الدكتور علي العشي، من تونس الشقيقة، أستاذ بجامعة الزيتونة، ومدير قسم أصول الدين بالمعهد العالي لأصول الدين بجامعة الزيتونة، عضو الاتحاد الدولي للأكاديميين العرب، لي عدد طيب من المؤلفات منها: كتاب مسائل القدر عند المدارس الكلامية، المختصر في الفقه الأكبر، مباحث في الفرق الإسلامية الرؤى والمرجعيات، مناهج البحث العلمي أيسر الوسائل في تحقيق المخطوطات وكتابة البحوث والرسائل، وأيضا  كتاب بعنوان: فقه الذكر والنوافل والدعاء، كتاب حول العقيدة الإسلامية وهذا الكتاب موجود في اليمن بجامعة العلوم والتكنولوجيا، في جزأين الأول والثاني، وكتاب بعنوان: أحكام العبادات، وآخر بعنوان: أحكام الطهارة على المذاهب الأربعة، شدى الزهرات في قسم التركات، كما لي مجموعة من البحوث منشورة في مجلات علمية محكمة في تونس وخارج تونس، كما شاركت في أكثر من 20 مؤتمرًا علميًّا بالجامعات العربية.

– ما دام تخصصك هو علم العقيدة، كيف نقرب للقراء أكثر مفهوم العقيدة كعلم؟

* كتبت عن علم العقيدة، وعرضت فيه القضايا الأكاديمية بالأساس، حيث بعد التعريفات عرضت الفرق بين العقيدة وعلم العقيدة، وهذا من الإشكالات المطروحة اليوم، هناك من الطلبة عندما يجدون اختلافات للمدارس العلمية مثل الأشاعرة والتيار السلفي والمعتزلة، هذه الاختلافات هي مسائل مختلفة في علم العقيدة، فيظنوها في العقيدة، فيخالفوهم في أرائهم ظنا منهم أن هذا الخلاف خلاف عقدي أي في أصول الاعتقاد، وهذا ما يؤدي إلى التضليل والفسوق، وربما يبدعون وقد يصل الأمر إلى التكفير لبعضهم البعض، فتجد الواحد منهم وكأنه يحمل بطاقات صفراء، فإن خالفته قليلا أخرج لك بطاقة، أنت مبتدع أو فاسق، وإن واصلت وخالفته أكثر أخرج لك بطاقة حمراء، أي إقصاء من الملة، أصبحت كافرا، هذه القضية خطيرة جدا في حين أن العقيدة هي أصول ومبادئ، وهي النصوص الثابتة في الكتاب والسنة المجمع عليها، وهي أركان الإيمان الستة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وأما علم العقيدة فهو المناهج التي يتم بها دراسة مسائل العقيدة، هذه المناهج والطرائق والأساليب التي تدرس بها علم العقيدة، والتي تدرس بها قضايا العقيدة هو “علم العقيدة”، كما أن العقيدة مسائلها توقيفية أي لا يجوز فيها الاختلاف، أما علم العقيدة فليست توقيفية بل مسائل فيها الاجتهاد وفيها الرأي، وقد يطرأ عليها الخطأ كما يطرأ عليها الصواب، والعلماء قد أقروا بجواز تسمية العقيدة الأشعرية، المقصود بها علم العقيدة، أي مسائل الاعتقاد وفق منهج الأشاعرة مثال: أقسام التوحيد، التوحيد من العقيدة ولكن كيف يقسم؟ ومن هنا اختلف العلماء، هناك من قال التوحيد ينقسم إلى ثلاثة: توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال، وقال: الأشاعرة وابن تيمية: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه كلها معانٍ متقاربة، أي المعنى واحد، وابن العز قسم التوحيد إلى: توحيد الإثبات والمعرفة، وتوحيد القصد والطلب، وبالتالي تبقى هذه التقسيمات اجتهادية، لم يقل عالم من هؤلاء أن هذا التقسيم هو مراد الله، عز وجل، أو أن هذا التقسيم توقيفي، لا هي تقسيمات اجتماعية، فعلم العقيدة مسائل ليست توقيفية، ولو أدرك الكثير من بعض غلاة الدين، الذين تطرفوا وغالوا في رأيهم،  هذا الأمر لرأوا أن الخلاف سائغ في هذه المسائل، ولكن إن وصل الخلاف في أصول الاعتقاد فتلك هي الخطورة، ولهذا نقول أن المدرسة الأشعرية والماتريدية هي مدرسة أهل الحديث، وكل اختلف في مسائل ولكن في النهاية خلافات ضمن علم العقيدة وليس خلاف في العقيدة، فالجميع مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، كما تناولت في كتابي مسائل نسميها إلاهيات متعلقة بإثبات وجود الله سبحانه وتعالى ومتعلقة بموضوع الاستدلال على وجود الله، استدلالات الفلاسفة أو المتكلمين، والاستدلالات القرآنية، التي تبرهن على وجود الله سبحانه وتعالى، كدلالة الفطرة ودلالة العقل ودلالة الشرع ودلالة الحس، ودلالة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المطهرة، وكذا دلالة الهداية، كلها قضايا في الاستدلال على وجود الله، تناولنا موضوع الأسماء والصفات بالتفصيل، وتناولنا موضوع القضاء والقدر وهذا كله ضمن مبحث الإلاهيات، ومبحث آخر هو مبحث النبوات، يتناول الإيمان بالكتب السماوية ومبحث النبوة، الإيمان بالرسل، مسألة عصمة الرسل، مسألة الصفات الواجبة في الرسل، مسألة المعجزة، مسألة الكرامة، مسألة المفاضلة بين الرسل، وغير ذلك من القضايا، هل يجوز أن يكون النبي أنثى؟ هل تجوز النبوة للنساء؟ هل كان هناك تنبؤ نسائي طبعا هذا كله قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه باتفاق أن النبي هو خاتم الرسل، وفي القسم الأخير تناولت مبحث السمعيات، فيه مبحث الإيمان بالملائكة الكرام، وبكل التفاصيل المتعلقة بهذا المبحث، وأخيرا مبحث يتناول الإيمان باليوم الآخر، وكذلك تفاصيل كثيرة وكثيرة جدا قد لا يسع المجال للحديث عنها كلها.

– في ظل التغيرات الجديدة والحالية التي تطرأ على العالم الإسلامي، في كل المجالات وخاصة المجال الديني، ما هي الإستراتيجية التي ترونها من أجل الحفاظ على الوحدة الدينية والفكرية؟

* فعلا اليوم الأمة تعيش لحظة فارقة يمكن أن نطلق عليها لحظة انحدار حضاري أو لحظة منخفض حضاري، انتكست الأمة في كثير من الأمور، ولعل مرد ذلك عند البعض هو عدم اللحاق بالركب الحضاري الغربي، وعدم الأخذ بأسباب التكنولوجيا وأسباب التقدم، أما عند البعض الآخر فالسبب هو ترك الدين، حيث اعتبروا أن بعد الأمة عن دينها هو سبب كل البلاء، في الحقيقة العوامل كثيرة لا يوجد عامل واحد أدى إلى تخلف الأمة، لكن بلا شك الأمة اليوم تعيش منخفضا حضاريا بامتياز، بعدما كانت في مرتفع حضاري تصدر العلم والمعرفة وتقود الأمم، اليوم للأسف كما يقول أحد الأعلام من المشايخ الذين درسوني: “بقينا نختلف حول مسح كف وقدم حتى لم يعد لنا في الأرض موضع قدم”، وبهذا تخلفت الأمة كثيرا فهناك تخلف على المستوى التربوي، حيث أن المناهج التربوية لازالت متخلفة، وهناك تخلف على مستوى التكنولوجيات وعلى مستوى البحث العلمي، على مستوى السياسة، أمتنا لازالت تعاني مند سقوط الخلافة الراشدة ودخول الأمة في الملك العضوض، وما سمي بالملك الجبري، لازالت الأمة تعاني في الفقه السياسي ترديا حيث لدينا القول الواحد والرأي الواحد والحاكم الواحد المتفرد في الحكم، الذي لا رد في حكمه، والأمة تعيش على الهامش ليس لها رأي، الأمة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”، الأمة أخرجت عن السياق صار الحاكم الفرد هو الحاكم المطلق وبالتالي أمة لا تستطيع أن تقرر، لأساليب عيشها ولأساليب حكمها، وبالتالي لا يمكن أن تلحق بالركب الحضاري أو تنتج معرفة أو تنتج حضارة، وللأسف الفقه السياسي تردى في هذه الأمة وتخلف وأصبح يعرج بعدما كان في زمن الخلافة الراشدة هو الرؤية الواضحة والمضيئة، أين كان اختيار الحاكم عن طريق الشورى، واليوم هذا الاختيار بين الأمة للأسف تردى، نلمح في المجالات الأخرى كفقه العبادات وفقه الحيض وفقه النفاس وفقه الجنائز، وفقه الطهارة والصوم والصلاة والحج، ألفت فيها آلاف المجلدات بل أطنان من المجلدات، ولكن في الفقه السياسي لا نكاد نجد ما يتجاوز أصابع اليد الواحدة أو اليدين على أقصى تقدير، بقيت هذه الزاوية معدمة في تاريخ أمتنا، نجد كتاب الأحكام السلطانية للموردي الذي ينظر فيه أنه يمكن لشخصين اثنين أن يبايعا الحاكم فيحكم، فقاسها هنا على زواج حرمة يعني امرأة تكون بشاهدين، كذلك حكم أمة يكون بشاهدين، فقاس حكم الأمة على زواج الحرمة، وهذا الكتاب في الفقه السياسي صدر في زمان التردي السياسي والحكم المطلق للفرد، لا نكاد نجد غير كتاب “غياث الأمم في التياف الظلم” للإمام الجويني، وكتاب آخر لابن تيمية “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية”، وكتاب لتلميذه ابن القيم الجوزية بعنوان “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية”، ثم لا نكاد نعثر على كتب غير هذه، بقي التأليف في الفقه السياسي قليلا جدا ونادرا، ولعل مرد ذلك هو التخوف من الحاكم، لأن التصريح بالآراء التي تفيد ضرورة الشورى وضرورة الاختيار للأمة، هنا الأمة هي صاحبة السلطة، وفي هذا السياق الحاكم محاسب ويمكن مساءلته، وربما العزل إن أرادت الأمة ذلك، سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما حكم، في أول يوم له أخذ فأسه وحبله وذهب ليعمل عمله حيث كان حطابا، فناداه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ قال: إلى عملي قال: ليس بعد أن وليت أمر أمة فما تفعل الأمة إن غبت عنها يوما كاملا، قال: ورزق عيالي ماذا أفعل به؟ فنادى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة واتفقوا على راتب شهري يعطى للخليفة، ولم يزد هذا الراتب حتى أنه في العام الثاني لم يعد قادرا على شراء حاجيات عائلته، حتى اشتكى لهم بأن المبلغ لا يكفيه، فاجتمعوا وقرروا الزيادة في راتبه، قالوا: لم يزد حتى توفي رضي الله عنه، وأول عبارة قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “لقد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني”، طلب بنفسه أن يقوم وأن يحاسب وأن يساءل إن أخطأ، ذاك هو الأصل، لقد تردت الأمة في هذا الجانب وتخلفت والتخلف الذي حدث لها في الجانب السياسي ألقى بضلاله السوداء على كل المجالات الأخرى، وكان الخلاف في الحكم داخل الأمة على مر تاريخها في زمن الحكم الأموي والعباسي والعثماني وغيرها من تاريخ أمتنا، كان كله خلافا لا يحل إلا بالسيف وبالقتال، لعدم ترسخ المفاهيم القائمة على ضرورة الشورى للأمة والاختيار، الأمة اليوم لم تستطع أن تصل إلى لب الإشكال وهو الفقه السياسي، الذي لم يتطور بعد، نسأل الله عز وجل، فيه محاولات لتطوير الفقه السياسي ولعل المرحلة القادمة للأمة تعود بها إلى موقع الريادة والقيادة، وتعود الأمة إلى المرتفع الحضاري التي كانت فيه أمام الغرب، هذا الأخير الذي كان بعض أمرائهم كما كانوا يسمون قديما بالفرنجة، كان يرسل أولاده إلى قرطبة ليتعلم الاتكات ويتعلم الجوانب الحضارية في شخصيته، وفي لباسه وفي أسلوب حديثه، فكانوا يقلدون العرب، إذا فالأمة اليوم بحاجة إلى العودة إلى المعرفة، والعودة إلى أهل العلم والمراكز العلمية التي لابد أن تعطى مكانتها وقيمتها، إضافة إلى البعد الثقافي الذي يجب أيضا أن تعطى قيمته، اليوم لازلنا حتى ميزانية البحث العلمي في الدول العربية ميزانية ضئيلة جدا حسب الأرقام المتدنية، بينما في الغرب نجد مجال البحث العلمي يخصص له أعلى الميزانيات، وهذا بلا شك سينتج معرفة وحضارة وتمدنا.

– كيف ترى دكتور مفهوم التجديد الإسلامي الذي تسعى إليه الدول اليوم من أجل تثبيت الفهم الصحيح لهذا الدين الذي هو دين يسر؟

* نحن أحوج لقضايا التجديد في الأمة، فالأمة مازالت في مرحلة عالقة بين التراث الذي لم تستطع الخروج منه إلى آليات التجديد لهذا التراث والاستفادة منه والبناء عليه ثم التقدم، لأن التطور هو استحفاظ زائد التجاوز، أما أن نكون ماضيين بمعنى أن نعيش أسرى الماضي دون أن نتقدم فهذا لا يصح ولا ينتج إلا البقاء في شرنقة الماضي، والتجديد ليس معناه أن نلغي ديننا وتراثنا ونصوصنا وأن نأتي بدين جديد وبكل شيء جديد أبدا، أو نأتي بطبعة جديدة لهذا الدين، هذا الدين على مر التاريخ الطويل لهذه الأمة ران عليه الكثير من الغبار والأتربة إن صحت العبارة، هذا الغبار والأتربة في الفهم الخاطئ الذي سيطر إما لأسباب كثيرة عبر تسرب الإسرائيليات في كتب التفسير وكتب التاريخ وكتب الحديث وربما حتى تسرب أراء بعيدة كل البعد عن المنهج الذي خططه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، بل كانوا ينظرون إلى آفاق متقدمة كسيدنا عمر الذي كان ينظر دائما إلى المسائل المتقدمة على الفقه الحنفي، حيث صار يطلق عليهم الأرائيون أي بمعنى كانوا يتساءلون كثيرا “إن رأيت لو حدث كذا” كيف يكون الحكم الفقهي؟ فصاروا يتكهنون في أمور لم تحدث، وهذا هو فقه النظر الاستراتيجي للقضايا المستقبلية فمثلا في زمن الأحناف صار بعضهم يتساءلون هل يجوز للإنسان إذا كان يحمل كيسا من النجاسة أن يصلي في ذلك الزمان، كان الأمر في تلك الحقبة يبدو عجيبا، فكان الجواب “يرمي ويصلي لماذا يصلي به أصلا”، ولكن اليوم هل يمكن للإنسان الذي معه كيس نجاسة أن يصلي وجاء الزمان الذي يعمل فيه الإنسان عملية جراحية، وربما يحتاج لعملية التنظيف بعد العملية الجراحية فيدخلون في بطنه أنبوبا متصلا بكيس حامل لنجساته، ويبقى على هذه الحال أياما بل أشهرا، وهنا المريض مضطر أن يصلي وهو يحمل هذا الكيس، النظر إلى هذا الفقه الذي ينظر إلى ما هو أبعد من اللحظة، فالأمة كان النظر فيها نظرًا استراتيجيًّا في الحقيقة، وهذه الأبعاد للأسف تقلصت، وركنت الأمة في مراحل من تاريخها إلى الجمود ومنعت الاجتهاد فتوقف، وتوقف الاجتهاد نعتبره من القضايا التي أدت إلى تأخر الأمة، لأن إيقاف وإغلاق باب الاجتهاد هو إغلاق لإمكانيات هائلة لتقديم الأمة، مثل ما قال الغزالي: “من لم يشك لم ينظر”،  والنظر هو البحث ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة، والأمة حين توقفت عن البحث والنظر والتأمل والتدبر بقيت في العمى والحيرة للأسف، نحن محتاجون إلى النظر، حتى وصل الأمر بالحديث عن فقه متعلق بالمرأة بما لا يعقل، فالمرأة مكلفة مثلها مثل الرجل، تساهم مع أخيها الرجل في نهضة الأمة فهي مكلفة نفس التكليف الذي كلف به الرجل، غير أنه ربما الوظائف تختلف، كل ميسر لما خلق له، صارت اليوم أفهاما عجيبة تتكلم بأن المرأة لا يجوز لها أن تخرج إلا ثلاث مرات في عمرها: مرة من بطن أمها إلى الأرض، والثانية من بيت أبيها إلى بيت زوجها، والثالثة من بيت زوجها إلى القبر، هذه المفاهيم التي جعلت المرأة في بعد وغيبوبة عن الدور الحضاري الذي يمكن أن تقوم به إلى جانب الرجل، فالمرأة هي نصف المجتمع والنصف الباقي يتربى على يديها، ونحن اليوم نعيش الواقع بأن المرأة هي المربية وهي التي تسهم لحظة بلحظة في مرافقة أبنائها مرافقة تامة من خلال تعليمهم وتربيتهم وفي حياتهم، أما الأب فأحيانا يعيش غربة صغرى على أبنائه لا يدري حتى متطلباتهم وأوضاعهم، بينما المرأة تتابع لحظة بلحظة حياة الأبناء، فهي كما قلت نصف المجتمع والنصف الآخر يتربى على يديها، وبالتالي ينبغي أن تولي عناية كاملة وكبيرة داخل المجتمع بمنح كل الأسباب والآليات التي تعود بها إلى دورها الحضاري المطلوب، فالنساء هن شقائق الرجال بحيث تساهم معه في الدور الحضاري المنشود في رفعة الأمة، والأمة التي فيها المرأة بعيدة عن أي عمل حضاري أمة متخلفة ولن تتقدم، ولهذا قاسوا في موضوع آخر أمن المجتمع على أمن المرأة، إذا كانت المرأة غير آمنة فالمجتمع ليس آمنا، وكذلك في موضوع التقدم فالمرأة التي أبعدت وأزيحت عن الأدوار المجتمعية، أمة مازالت متخلفة ولم تتقدم، وبالتالي أنا أقول: اليوم مطالبون بصقل الدين بمعنى صقل ما ران عليه من غبار وأتربة القرون بسبب أفهام الجاهلية أو الأفهام المتخلفة أو الأفهام البعيدة عن الدين والخاطئة، حتى نعود به صقيلا أصيلا واضحا محررا منقحا، كما جاء على يد رسولنا الله صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة الكرام، وهذا جهد المجددين في كل زمان وفي كل قرن قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يبعث الله على رأس كل مئة عام لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها” وفي رواية أخرى “من يجدد لها دينها”، والمجددون العلماء قالوا: المجددون قد يكونوا أفرادا، وهؤلاء رواد والرائد لا يكذب أهله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الذين ينظرون إلى الدروب البعيدة ربما يكون لهم المبادرات العظيمة، قد يكونون أفرادا في تاريخ الأمة، ومن نماذجهم عمر بن عبد العزيز الذي كان مجددا بامتياز في مجال الحكم، حيث كان مجدد الأمة في القرن الأول، والإمام الشافعي، وقالوا عن الغزالي أنه مجدد القرن الخامس، ابن دقيق العيد هو مجدد القرن السابع، حيث يقول العلماء “والخامس الحبر هو الغزالي وعده ما فيه من جدال”، “والسابع الراقي إلى المراقي ابن دقيق العيد باتفاق”، هؤلاء جددوا في مجال العلم والمعرفة، الرازي كان مجدد القرن السادس، والإمام زين الدين العراقي كان مجدد القرن الثامن والسيوطي مجدد القرن التاسع وغيرهم كثر، ونعتبر الإمام العلامة ابن باديس كان مجددا بأتم معنى الكلمة، لأنه نهض بالأمة الجزائرية التي عاشت في سبات وظلمات وفي جهل بسبب استعمار غاشم سيطر على رقاب العباد والبلاد، وجثم على هذه البلاد، فأراد أن تكون الجزائر قطعة فرنسية، ولكن صيحة ابن باديس العظيمة الذي أعاد اللغة العربية وأعاد الأمة إلى مسارها الصحيح، استطاع أن يكون فعلا “أمة في رجل ورجلا في أمة”، وعليه المجددون يمكن أن يكونوا أفرادا ولكن أيضا يمكن أن يكون التجديد جماعيا، ونحن نقول أنه في هذه المرحلة لم يعد بإمكانية التجديد الفردي، بل اليوم الذين يقومون بعملية التجديد في الأمة لابد أن يكونوا مؤسسات علمية: مجامع البحث العلمي ومجامع الفقه ومجامع الفكر وحتى التجديد في اللغة تقوده المجامع اللغوية، إذن مؤسسات البحث العلمي التي تكون قائمة على علماء كبار يمكن أن تقود عملية التجديد في المرحلة القادمة، كما يجب أن تشمل مجالات التجديد مجالات عدة تحتاجها الأمة أهمها المجال السياسي، فلابد من التجديد في الفقه السياسي كما يجب التجديد في الفقه التربوي، وغيرها من القضايا الكثيرة والكثيرة جدا، والتجديد في المجال الفقهي مازلنا أسرى قضايا فقهية من قرون خلت ومضت ولم يعد لها دور، حتى الصور الفقهية في كتب الفقه هي صور انتهت لم يعد لها وجود، اليوم هناك صور جديدة للفقه مثلا: قضية الربا ذات صور جديدة، حيث يمكن أن تكون الربا عبر الانترنت وعبر الهواتف الذكية، تجري اليوم قضايا كثيرة وبالتالي يمكن أن نجدد الصور الفقهية، من خلال الحديث عن الصور التي يعيشها الناس اليوم، فمثلا عندما نتحدث مع الشباب عن صور فقهية انتهت، لن يفهموا، ولكن عندما نضرب لهم مثالا نعيشه اليوم، مثال: لا يمكنك أن تدخل شيئا معظما لبيت الخلاء، وتقول له لا يمكن أن تدخل الهاتف النقال الذي يحمل الأذان إلى ذلك المكان، فممكن أن يؤذن وأنت في الداخل، هنا نقرب الفهم للشباب بنماذج  وصور معاصرة، وكما أسلفت الأمة اليوم بحاجة إلى مجددين لهذا الدين وإلى مؤسسات للتجديد حتى تنهض الأمة من كوبتها التي فيها.

– كيف يمكن للخطاب الديني اليوم أن يساهم في تحقيق التجديد الإسلامي؟

* هذا سؤال جيد، اليوم مشكلتنا هو الخطاب الذي تردى وارتكس بهذه الأمة، فصار خطابا فجا غير جاذب، بل ثار على كل من يقترب إلى الإسلام، فنحن نطرده بخطابنا الفج، فانتشر خطاب التفسيق والتبديع والتكفير على ألسنة أناس يحسبهم الناظر إليهم من خلال أشكالهم أنهم علماء وما هم بعلماء، لأن العلم هو الذي يقرب الناس لهذا الدين والنبي صلى الله عليه وسلم سيد الأولين وسيد الآخرين معلم هذه الأمة يقول: “بشروا ولا تنفروا يسروا ولا تعسروا”، والإنسان الذي لا يبشر وإنما دوره دور التنفير فخطابه مترد لا ينتج ولا يثمر ولا يزهر في الأمة، نريد خطابا مزهرا مثمرا مبشرا لا منفرا، هذا خطاب اليسر على الأمة “يسروا ولا تعسروا” قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”، هذا الحديث هو تتمة في الحقيقة لحدث جرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في المسجد النبوي، لم يكن فيه آنذاك فرش وساجدات، كان مفروشا بالرمل والحصى، وجاء رجل من الأعراب ودخل المسجد فضايقه البول، فأراد أن يقضي حاجته فالتفت لركن المسجد وتبول، فنهره الصحابة حتى قيل في الحديث: “فتناوله الصحابة” والوحيد الذي لم يفعل هو النبي صلى الله عليه وسلم فقال “دعوه ولا تزرموه ثم هريقوا على بوله دنوبا من الماء” فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أن هذا الرجل لو كان مدركا لقبح ما فعل لما فعل ذلك، والرجل رأى ما فعل به الصحابة ممن تناولوه وسمع ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما توضأ وصلى، سمعوه في آخر صلاته يقول: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدا، على اعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الوحيد الذي كان رحيما معه، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهذا “ضيقت واسعا” وفي آخر الحديث قال صلى الله عليه وسلم قال: “فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”، ولما أرسل النبي سيدنا معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن أوصاهما قائلا صلى الله عليه وسلم: “بشرا ولا تنفرا يسرا ولا تعسرا تطاوعا ولا تختلفا”، تطاوعا ولا تختلفا هنا دلالة على أن يتناول كل منكم على الآخر هذا الخطاب الذي هو جاذب وجامع ومقرب للناس لا منفر للناس هذا هو المطلوب، للأسف اليوم ظهرت أنواع من الخطب، خطاب تكفيري عند أدنى نازلة وعند أدنى اختلاف من أناس لم يفقهوا العلم أبدا ولم يعرفوا معاني منهج الرحمة للنبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي قال رب العزة على النبي: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين“، والعلماء قالوا في هذه الآية الله عز وجل أن هدف بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لُخِّص في مقصد واحد عظيم، تنبثق منه جميع المقاصد والأهداف وهو “رحمة” هذا هو هدف البعثة النبوية، ومن الرحمة تنبثق كل الأهداف ولكن ليس للمؤمنين فقط بل للعالمين مؤمنهم وكافرهم، محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين لمن كان مؤمنا ومن كان كافرا، فهو رحمة والرحمة المهداة للبشرية، ولهذا رب العزة جعل أولى ما هو مطلوب هو الرحمة، خطاب الرحمة وخطاب اليسر وخطاب التبشير هو المطلوب اليوم في هذه المرحلة التي تعيشها الأمة، كما أن الله سبحانه وتعالى لما تحدث عن أهل الكهف وهم في الكهف في المكان الضيق الذي أشبه بالسجن “ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ من أمرنا رشدا“، والرشاد هو الفهم بل هو أعظم أنواع الفهم والإدراك أن يصل الإنسان إلى الرشد والرشاد، لم يطلبوه إلا بعد الرحمة وبهذا المعنى أنه لا يطلب العلم قبل الرحمة، فالرحمة هي الأساس والعلم القائم من دون رحمة ربما سيصبح وبالا على صاحبه، وسيدنا موسى لما بلغ مجمع البحرين ذهب يبحث عن الرجل الذي ورد ذكره في السنة بسيدنا الخضر عليه السلام، يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه العظيم ” فوجد عبدا من عبادنا أتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما” هنا أيضا يأتي العلم بعد الرحمة، تقدمت الرحمة عن العلم، وبالتالي نرى بعض الناس قد يكون لهم نصيب من العلم ولكن علمهم يخلو من الرحمة، فربما نجد من يعنف والديه ومن يكفر الأمة ومن يكفر علماء الأمة ومن لم يترك من الأمة أحدا إلا وأطال تكفيره، وبالتالي هذا الخطاب يجعل الأمة في انحدار جديد فوق ما هي منحدرة، نحن محتاجون إلى علم يبنى على الرحمة والتبشير، هذا هو العلم والخطاب الذي يمكن أن يكون خطابا منتجا وخطابا مقربا حتى لغير المسلم، نبحث عن الخطاب المشترك الذي يمكننا من التعايش مع الغير والتعاون على أنماط الخير وبالتالي التعاون على رفعة المجتمع، أما الخطاب المبني على المناهج البائسة فلن ينتج أمة ولن يعيد حضارة، والأمة اليوم بحاجة فعلا إلى فقه اللحظة، والمطلوب أن ننتج خطابا آسرا جاذبا للناس لا منفرا للناس.

– ألم يحن الوقت لتكوين هيئة موحدة بين دول الجوار من أجل الحفاظ على الوحدة الفكرية والدينية خاصة في ظل التحديات التي يتعرض لها دول الجوار؟

– نحن في الجانب الثقافي والفكري أمة واحدة، وإن كان كل لديه سلطانه وحاكمه، وكذلك في الجانب الديني حيث ما ذهبنا في بلاد الله الواسعة لأمة الإسلام إلا وجدت نفسك بين أهلك وذويك فمثلا تونس مع الجزائر في غاية الانسجام الفكري والثقافي، هناك دعوات لمجامع علمية وفكرية موحدة، لما لا يكون لدينا اتحاد علماء مغاربي نتعاون في الرأي والقضايا وفي مجال الفتوى، واليوم علماء استراتيجيات يتكلمون عن القضايا المتعلقة بالأمن، ويجدون أن أعظم أنواع الأمن هو الأمن الشخصي الذي يكون فيه الإنسان آمنا على حياته، والكثير من الدول تعيش حالة احتراب وحالة فوضى، بمعنى الإنسان لا يكون آمنا على نفسه، وهذا ما يسميه البعض بالأمن العسكري، والأمن الصحي الذي يعكس ظهور أنواع كثيرة من الأمراض التي تتنقل بشكل عجيب وبسرعة، قال سيدنا عمر بن عبد العزيز: “يحدث لكم من القضايا بقدر ما أحدثتم من الفجور”، وكذا الأمن الغذائي وهو من أخطر أنواع الأمن وهذه القضايا الثلاث التي ذكرتها والتي ذكرها علماء الإستراتيجية لخصها النبي صلى الله عليه وسلم: “من بات آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا”، أنا أضيف اليوم في ظل هذا الغزو الفكري وفي ظل التلوث الفكري الذي يحدث لأبناء الأمة: نحن محتاجون لنوع آخر من الأمن والذي سبق وأن أشرت إليه وهو الأمن الفكري والأمن الثقافي، هذا هو المطلوب اليوم في هذه المرحلة التي وصلت إليها الأمة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com