ماذا يراد بالمجتمع السعودي؟/التهامي مجوري
إن ما يحدث في المملكة العربية السعودية الشقيقة من اهتزازات – على مستوى التحول الثقافي الديني خصوصا- لم تشهد له مثيلا من قبل، وهي اهتزازات ذات جذور ومبررات متعددة ومتنوعة، يمكن إيجازها في ثلاثة أسباب رئيسة، تصلح لأن تكون أسبابا ومبررات موضوعية:
السبب الأول: هو أن المملكة العربية السعودية الحديثة حكمت خلال 86 سنة – ما بين 1932م/ 2018م – بجيلين اثنين: 1/ جيل المؤسس الملك عبد العزيز، 2/ جيل أبنائه من الملك سعود إلى الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز.
وإذا اعتبرنا أن المؤسس لا يمثل جيلا، فتكون الفترة حكمت بجيل واحد؛ فتكون هذه الاهتزازات بمثابة “حركة تغييرية” يقوم بها شاب من الجيل الجديد داخل الأسرة الحاكمة، بضمانات غربية، بقطع النظر عن نوعية هذا التغيير، أهو لصالح الشعب السعودي؟ أم لغير صالحه؟
السبب الثاني: وهو مبرر طبيعي نتيجة الانغلاق والانطواء الذي عاشته المملكة طيلة الفترة نفسها، نشأت في ظلاله أفكار وسلوكات متنوعة مردها إلى توجهين رئيسيين فيما يشبه المجتمعين المتباينين بداخله، مجتمع ليبرالي لا حدود للبراليته، ممدد في أسر المال والسلطة والإدارة والنخب الإعلامية، الموصولة بالقوى الغربية والأمريكية منها على وجه الخصوص، ومجتمع محافظ منغلق على نفسه لا حديث له إلا فيما تحدث فيه الفقهاء، وبين هذين المجمعين جدران مبنية وأبواب مغلقة، فلا نقاش بينهم، ولا جدال ولا حوار. وإذا وجد اتصال فليس أكثر من البحث عن شرعية دينية لفعل تريد النخب الفاعلة تمريره، والسلطة هنا -باعتبارها صاحبة القرار في إدارة هذا الواقع- لا دور لها إلا كتم الأنفاس لكل ما يزعج هذا الواقع في إطار شرعية تاريخية، تحمل عنوانا: “تحالف سياسي ديني بين آل سعود وآل الشيخ”.
وهذا وحده كاف لإحداث اهتزازات تغير خارطة المجتمع الثقافية والدينية، لأنه وضع غير طبيعي، إذ الوضع الطبيعي في كل المجتمعات هو الحوار بين فئات المجتمع كلها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وعندما يسد هذا الباب فإن النتيجة الطبيعية هي توقع الانفجار في أية لحظة؛ بل إن كل فعل إصلاحي في جو كهذا لا دور له إلا تأجيل الانفجار لاسيما عندما يكون هذا الفعل استجابة لإرادة دولية، وليس نابعا من واقع المجتمع وحاجاته وطموحاته.
السبب الثالث: سبب ناتج عن طبيعة التحولات الدولية التي تملك القدرة على المبادرة، وهي بالتأكيد تبحث عن مصالحها قبل كل شيء، وذلك ينعكس على المجتمع السعودي كما انعكس على غيره من المجتمعات الإسلامية المغبونة.
لا شك أن ما تناقلته وسائل الإعلام من جرأة في اتخاذ القرار من قبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لا تبشر بخير، سواء في شكلها أو في مضمونها، فمن الناحية الشكلية لم ير في فترات سابقة على أحد أنه قام بما يقوم به في حضرة الملك، على اعتبار أن النظام في المملكة مركزي وبيد الملك شخصيا، فلا ولي عهد ولا وزير ولا حكومة يمكن أن يفعلوا شيئا إلا بتوقيع من خادم الحرمين…! وتصريحات ومقابلات وتنقلات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، توحي بالهيمنة على الساحة السياسية في البلاد على خلاف العادة، بما يعني أن الملك لم يبق له دور في الحياة السياسية، وهذا يؤدي حتما إلى تغيير في نظام الحكم غير معلن، أما من جهة المضمون فلا أظن أن من الأولويات فتح دور السينما وقاعات القمار، وترشيح ملكات الجمال، والتبشير بالمجتمع السعودي الجديد وفق هذه المعايير، إلا أن يراد زعزعة المجتمع للفت الانتباه..!! وهذه مخاطرة.
فبمبايعة محمد بن سلمان يكون النظام قد أشرف على نقل السلطة من جيل إلى جيل جديد، لتخرج بذلك الدولة السعودية من عهد إلى عهد جديد مختلف تماما عن الجيل الذي قبله، أحسن أو أسوأ، وإنما هناك تجاوزات تدفع بالمعارض لهذا الواقع إلى الانتفاضة وتفجير الوضع لا قدر الله.
إن السلطة السياسية السعودية في طبيعتها لا تختلف كثيرا عن غيرها من أنظمة العالم الإسلامي، سواء في تعاملها مع الشعب أو في علاقاتها الدولية وفي موقفها من قضايا الأمة والمسائل التنموية، مع اختلافات بسيطة في علاقتها بالسلطة الدينية التي تعتبر شريكا لها، وفروق طفيفة أيضا بين ملوكها من الملك سعود إلى الملك سلمان في بعض الأمور المتعلقة بقضايا المسلمين في العالم وفي أمور التنمية المحلية، وما يقال عن الأنظمة العربية الإسلامية من استبداد سلطوي، وتهميش للشعب، وضعف تنمية، ونجاحات وإخفاقات، يقال عن النظام السعودي فهو نظام ليس أفضل من غيره من أنظمتنا المترهلة، ولا هو أسوأ منها، ولذلك لا أجدني مضطرا للتوغل في ذكر محاسنه ومساوئه.
ومع ذلك فإن المملكة العربية السعودية تعيش اليوم مأزقا حقيقيا، ظهر في شكل جيل واجِهَتُهُ الرسمية “محمد بن سلمان”، الذي تجرأ على فعل ما لم يفعله غيره من آل سعود، على الأقل فيما يتعلق بالشأن الديني، فعرض خياره السياسي وخطته الاقتصادية المعروفة بين السعوديين بمشروع 2030م، بتهميش كامل لعلماء المؤسسة الدينية الرسمية، وتحد للعرف الاجتماعي مهما كان سيئا جرأة، وتحدي له ما بعده. وهذا الخيار السياسي الاقتصادي الذي من بين منتجاته أزمة التوجه السياسي الجديد في القضية الفلسطينية، وفي التدخل في اليمن، وفي الأزمة القطرية الخليجية، وفي الداخل السعودي يتكلم المتابعون للشأن السعودي عن أزمة داخل الأسرة الحاكمة، يضاف إليها انتقال السلطة من جيل أبناء الملك عبد العزيز إلى جيل أحفاده وهو جيل آخر مختلف، وهناك معارضة متمثلة في حركة الإصلاح يقوم بها دعاة سجنوا كلهم أو جلهم في حملة “هذا الجديد”، وكتلة الليبراليين بجميع فئاتهم السياسية الاقتصادية والحقوقية والأدباء والمثقفين.
والمأزق الأعمق الذي يعانيه المجتمع السعودي اليوم يتمثل في الحملة الدولية عليه، في صورة الهجوم على نظامه السياسي، بينما الحقيقة هي حملة على الكل الاجتماعي السعودي، وليس على نظامه السياسي فحسب، ولذلك لم نر قوة دولية دعمت الحركة الإصلاحية أو السياسية المعارضة، وإنما تتكلم دائما عن واقع سعودي، لا تفرق فيه بين النظام السياسي الذي لا يختلف عن غيره من الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي، وبين الإصلاحيين الذي يرفضهم النظام.
إن تصريحات محمد بن سلمان الأخيرة الموغلة في استعداء التيار الإسلامي بمن فيه “الحركة الوهابية” التي هي جزء من المنظومة السعودية الثقافية السياسية، وفي التحامل على النخب السعودية المالية والثقافية والدينية، تعمق التساؤل أكثر..! أهي قناعات وطنية صادقة؟ أم هي إملاءات غربية؟ أم هو حراك من أجل قطع الطريق على حراك اجتماعي صادق فعال، بإثارة مشكلات وهمية يُسَبُّ فيها النظام السعودي حينا، ويلعن فيها ولي العهد حينا آخر، ويشتم فيه الأمريكان ثالثة، لتستقر الأمور بعدئذ حينما تستقر خريطة الشرق الأوسط كما يريده اليهود والمجتمع الدولي عموما.