معالجات إسلامية

في ذكرى المولد النبوي الشريف

د. يوسف جمعة سلامة*/

تمرّ بنا في هذه الأيام ذكرى ميلاد خير البرية محمد – صلّى الله عليه وسلّم –، حيث كان مولده – عليه الصّلاة والسّلام- ميلاد أُمة بأكملها؛ لأَنَّه أرسى دعائم خير أمةٍ أُخرجت للناس وصاغها بتعاليم الوحي الإلهي، فقد أرسله ربُّه سبحانه وتعالى بالهُدى ودين الحقِّ، حاملاً خير الرِّسالات، مُبَلِّغاً كتاب ربِّه تبياناً لكلِّ شيء، هادياً للتي هي أقوم، مُتَمِّماً لمكارم الأخلاق، هادياً ومُبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً مُنيراً.
لقد صنعه ربُّه عزَّ وجلَّ على عينه وأحاطه برعايته، وشمله بِلُطْفه ورحمته، فجمع له كلّ المَحَامِدِ والمكارم، حتى وصفه بقوله -سبحانه وتعالى-: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، ومن المعلوم أَنَّ رسولنا -عليه الصَّلاة والسَّلام- هو المَثُل الأعلى في جميع جوانب حياته؛ لذلك فإِنَّ واجب المسلمين تَمَثُّل أخلاقه والاقتداء به والتَّمسُّك بشريعته-صلّى الله عليه وسلّم-.

مولــده صلى الله عليه وسلم
في شهر ربيع الأوّل وُلِدَ رسولُ الإنسانية ورحمة الله للعالمين سيَّدنا محمد بن عبد الله – صلّى الله عليه وسلّم -، فقد ورد في كُتب السّيرة أَنَّه- صلّى الله عليه وسلّم – وُلِدَ بمكة المكرمة يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل عام الفيل، (وأَمَّا كونه وُلد عام الفيل فذلك مقطوع فيه، ولكن اختلفوا في اليوم والشهر، والجمهور على أَنَّه في الثاني عشر من ربيع الأوّل كما نصَّ عليه ابن اسحاق في السّيرة، ورُوي عن ابن عباس – رضي الله عنهما- أَنَّه قال: «وُلِدَ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – عام الفيل يوم الإثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل، وفيه بُعث، وفيه عُرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات»، قال في البداية والنهاية: وهذا هو المشهور عند الجمهور).

وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
لقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله – صلّى الله عليه وسلّم – لإنقاذ الناس من الظّلمات إلى النّور، فكانت بعثته – صلّى الله عليه وسلّم – رحمة للعالمين، مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وقد جاء في الحديث الشّريف أَنَّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم– قال: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)، وقد بلغت الرّحمة نسقها الأعلى في شخصية النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – الذي أرسله الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين، فكانت سيرته مع الناس نموذجاً للرّقّة واللُّطف والسّماحة والعطف والشّفقة.

وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً
لقد خصَّ الله سبحانه وتعالى نبيّنا – صلّى الله عليه وسلّم- بأنْ أرسله للناس كافَّة دون سائر الأنبياء، حيث إِنّ كلّ نبِيّ كان يُرْسَل إلى قومه خاصّة، كما جاء في القرآن الكريم عن سيِّدنا عيسى
– عليه الصّلاة والسّلام-: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وعن سيِّدنا هود- عليه الصّلاة والسّلام-: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً }، وعن سيِّدنا صالح- عليه الصّلاة والسّلام-: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} …إلخ، في حين أنّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – بُعث إلى النّاس كافّة كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، وكما جاء في الحديث الشّريف: (فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ)، فهو – صلّى الله عليه وسلّم – خاتم النَّبيِّين كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، وكما جاء في الحديث: (إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ).

وإنك لعلى خلق عظيم
من مظاهر تكريم الله سبحانه وتعالى لنبيِّه- صلّى الله عليه وسلّم- وثنائه عليه ما جاء في مطلع سورة النّجم، فقد زَكَّى الله عقله، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}، وزكَّى لسانه، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}، وزكَّى شرعه، فقال سبحانه وتعالى: {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}، وزكَّى جليسه، فقال سبحانه وتعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}، وزكَّى فؤاده، فقال سبحانه وتعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، وزكَّى بصره، فقال سبحانه وتعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}، وزكَّاه كلّه، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
فما أكثر ما قاله – صلّى الله عليه وسلّم – من توجيهات في حُسْن الخُلُق كالصّدق والأمانة والإحسان والتَّمسُّك بالفضائل وتجنُّب الرّذائل، كلّ هذه المعاني السّامية لَوْ تَمَسَّكَ بها المسلمون لكانوا كما أرادهم الله سبحانه وتعالى خيرَ أُمّة أُخرجت للناس، ورحم الله القائل:
مَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ غَــدا     فَلْيُطِع النَّبِيَّ مُحَمَّــدَا
إنْ شِئْتُمُوا أَنْ تَسْلَمُوا    يَومَ الحِسَاب وتُرْحَمُوا
وَتُكَرَّمُوا وتُنَعَّمـُـوا    فَلهَدْيِ أَحْمَدَ فالزَمُوا
وَإِذَا سَمِعْتُـــم ذِكْرَه   صلّوا عَلَيْـهِ وَسَلِّمـُوا

ورفعنا لك ذِكْرَك
لَقدْ شرح الله سبحانه وتعالى صَدْرَ نبيِّه – صلّى الله عليه وسلّم –، ووضع وِزْرَه، ورفع ذِكْره، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ* وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.
قال قتادة: «رفع الله ذكره في الدّنيا والآخرة، فليس هناك خطيب ولا مُتَشَهِّد ولا صاحب صلاة إِلا يُنادي بها : أشهد أَنْ لا إله إلا الله و أشهد أنّ مُحَمَّداً رسول الله»، وكما قال الشاعر:
وَضَمَّ الإلهُ اسْمَ النَّبِيِّ إلى اسْمِهِ  إذْ قالَ في الخَمْسِِ المُؤَذِّنُ أَشْهَدُ
وَشَقَّ لـَهُ مِــنَ اسْمِــهِ لِيُجِلَّـهُ  فـَذُو العَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

ونحن في ذكرى مولدك يا سيِّدي يا رسول الله:
نشهد أنَّك قد بَلَّغْتَ الرِّسالة، وَأَدَّيْتَ الأمانة، وَنَصَحْتَ الأُمّة، وَكَشَفَ الله سبحانه وتعالى بك الغُمَّة، فجزاك الله عنّا خير الجزاء.

طاعة الله ورسوله .. طريق الفوز والفلاح
لقد بشّر القرآن الكريم المؤمنين الذين يُطيعون الله ورسوله بالثّواب العظيم والنّعيم المُقيم، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا}.
(فقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره سبب نزول الآية، عن سعيد بن جُبير، قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – وهو محزون، فقال له النّبي – صلّى الله عليه وسلّم-: «يا فلان مالي أراك محزوناً؟» فقال: يا نبيّ الله، شيء فَكّرْتُ فيه، فقال: ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونُجالسك، وغداً تُرفع مع النّبيّين فلا نَصِلُ إليك، فلم يردّ النّبي
– صلّى الله عليه وسلّم – شيئاً، فأتاه جبريل بهذه الآية: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ}…الآية، فبعث النّبي– صلّى الله عليه وسلّم- فَبَشَّرَه).
إِنَّ طاعة الله ورسوله هي طريق النّجاح للفوز برضى الله سبحانه وتعالى، كما رُوي عن ربيعة بن كعب الأسلمي أَنّه قال: (كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي : سَلْ، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ : هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ).
هذا هو الحبّ الأسمى للرسول – صلّى الله عليه وسلّم – ، فحُبّه – عليه الصّلاة والسّلام- طاعته، وحبّه– عليه الصّلاة والسّلام- اتّباعه، وحبّه – عليه الصّلاة والسّلام- تعظيم سُنَّته، وتحكيم شريعته.
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com