حزام الزيتون…
يكتبه : د. محمــد قماري/
تابعنا في الأيام الماضية مأساتين مرعبين، ومن سيئات عولمة الاتصال، أننا معشر البشر أصبحنا نعيش مآسي كانت بعيدة في المكان، نعيشها بالصورة والصوت، وما زالت صورة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، يوم استشهاده يوم 17 أفريل 2004، مطبوعة في مخيلتي كنت أتابع على شاشة التلفزة اللحظات الأخيرة من حياته، وقلت في نفسي حينها: أنا أقرب من مشهد وفاته، رحمه الله، ممن هم خارج المستشفى في غزة!
ولم نكد نتجاوز هول مصيبة الزلزال، التي ألمت بإخواننا في مراكش بالمغرب في الأيام الماضية، وصور الضحايا بالمئات، وصور نساء وأطفال يهيمون على وجوههم، طلبا للنجاة أو بحثا عن قريب تحت الركام، حتى حلت فاجعة أخرى في درنة بليبيا، وإذا بمناطق كاملة من المدينة أصبحت أثرا بعد عين، كأن لم تغن بالأمس، نسمع نحيب الثكالى واستغاثة المنكوبين، ونرى الدمار رأي العين، غير أننا لا نملك حيلة في اغاثتهم!
ويرى خبراء في علم الزلازل، أن زلزال المغرب هو هزة ارتدادية متوقعة لزلزال تركيا، الذي وقع في مطلع العام الجاري، فالصفيحة المتحركة ومركزها في (غازي عنتاب) التركية، نهايتها في جبال الأطلس في المغرب الأقصى، وليس بعيدا أن تقع حركة في وسط الصفيحة التي تمر بسواحل الضفة الجنوبية من المتوسط (مصر، وليبيا، وتونس، والجزائر)، وإذا كان منطلق الزلزال من ضفة البحر الأبيض المتوسط، فإن إعصار (دانيال) الذي فتك بدرنة انطلق من سواحل اليونان!
فإذا تجاوزنا مآسي الجغرافيا، وما حملته من زلازل وإعصار، ونظرنا في خريطة حوض المتوسط، فإن العين لا تخطئ خاصية دول في ضفة الشمال الغربي منه، وكان يُطلق على تلك الأقطار: (دول حزام الزيتون)، وهي اليونان وإسبانا والبرتقال، وقبل إعلان الاتحاد الأوربي كانت تلك الأقطار أضعف حلقة من ناحية التنميّة في أوربا، ووضعها الاجتماعي والسياسي ليس أقل سوء.
لقد جرت أمواج عديدة، وحتى زلازل وإعصار من شمال ضفة المتوسط إلى جنوبه، ولم تحمل تلك الأمواج التحولات التي شهدتها دول (حزام الزيتون)، وهذا السؤال القلق، حمله محمّد حسنين هيكل ذات يوم إلى ملك إسبانيا…يقول هيكل مخاطبا الملك:
«إنني أعرف أن لكل بلد خصائصه ولكل بلد ظروفه، وأعرف أن تجارب الشعوب غير قابلة للنقل أو التقليد، لكنها بالتأكيد قابلة للدرس والاستيعاب، ثم إنني أن القياس بالغير له مزالق لأن القياس الصحيح لا يصدق إلا في حالة التماثل التام وهو مستحيل من شعب إلى آخر.
ومع ذلك فقد خطر لي أن هناك أوجه شبه، أقول أوجه شبه، بين ما كان عندكم وتغير، وما زال عندنا ولم يتغير على الأقل حتى الآن.
كان عندكم رجل واحد على القمة، الجنرال «فرانكو»؛ وكذلك كان وما زال عندنا وإن اختلفت الرتب؛ وكان تحت الرجل الواحد تنظيم سياسي من صنعه، (الفالانج) في حالتكم، وكذلك كان وما زال عندنا وإن اختلفت الأسماء.
كان وراء هذا الرجل الواحد جيش، وكذلك كان وما زال عندنا وإن اختلفت درجة التدخل المباشر؛ لكنكم استطعتم أن تنتقلوا من هذا الوضع إلى وضع غيره» (من كتاب زيارة جديدة للتاريخ).
جاء رد الملك على هذا التساؤل لبقا، فبعد أن ذكر أنه ملك دستوري لا يحق له الخوض في السياسة، قال أنه كإنسان له رأيه، وراح يسرد قصة طريفة ومعبرة، معبرة لأن الانتقال الحقيقي حدث في أدمغة ووجدان، والنصوص المكتوبة في الدساتير لا تساوي الحبر الذي كتبت به ما لم تتغلغل في تلافيف الأدمغة وتخالط الوجدان.
يقول الملك: أنه بعد إعلان نتائج انتخابات ديمقراطية، فاز فيها الاشتراكيون تلقى مكالمة من صديق له، يحذره من شر هذه النتيجة، ويلمح له بعمل شيء للانقلاب عليها… يضيف الملك:
«إنني أحترم آراء أصدقائي وإن اختلف عن آرائي، لكن احترامي الأول هو لدستور إسبانيا؛ فيما يتعلق بدستور إسبانيا ليست لي آراء أو اجتهادات؛ لا يحق للملك أن تكون له آراء أو اجتهادات في الدستور، واجبه أن يطيع، ولا بد أن تجئ الطاعة من قلبه وليس من لسانه».
تلك العبارات تختصر وصفة التحوّل في دول (حزام الزيتون)، احترام الدستور من (قلبه لا من لسانه)، هي الوصفة التي سرت في البرتقال وإسبانيا واليونان، وهي دول تشهد سباقا في التنميّة قصد تقصير مسافة الفجوة التي تفصلها عن دول شمال القارة الأوربيّة، وجعلت منها واحات ما يزال أهل الضفة الأخرى يحلمون بالانتقال إليها، لا بسبب رفاهها المادي كما قد يبدو، وهو محدود لحد الساعة، بل بسبب التطلع لحياة يحكمها سياق واضح.