هكذا فلتكن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
أ. سمير زريري */
شهدت جمعيةُ العلماء ـ سنة 1938 ـ زلزالاً كبيرا، كاد أن يُودِيَ بالإسلام ولغته في الجزائر، لأنّ حكومة شوطان أصدرت في 08 مارس من ذات السنة قانونا مشؤوما، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قِبله العذاب، ضربَ التعليمَ العربي الحرّ ضربةً قويّة، في الوقت الذي أحدثَ نهضة حقيقية في الأمة الجزائرية، وصار منافسا للتعليم الفرنسي رغم قلّة الوسائل وكثرة العراقيل.
حُسن نيّة الواضع لا تَقي سوءَ نية المطبّق
أدركَ الإمامُ المؤسس باكرا هذه الباطنية المقيتة، وفرّق بوضوح مُحرِجٍ بين حُسن نيّة الواضع وسوء نيّة المطبِّق، وكتب في ذلك مقالا بعنوان “القوانين بين الوضع والتطبيق”، نشرته جريدة البصائر في عددها 174 لسنة 1939م، جاء فيه: ” … كلّ هذا حسن جميل، وجدير بمحلٍّ اختل فيه شيء من هذه الأمور الضرورية أن يُغلق، وجدير بمن يستهين بهذا أن تزجره العدالة بما وضَع له القانون من عقاب، هذا الذي اتفق النّاس على قبوله، ولم يَبدُ منّا ولا من غيرنا يوما إنكاره.
أمّا ذلك التطبيق الجائر المباين لغرض واضع القانون فهو الذي أقام الجزائر وأقعدها، وأدخل عليها الرّعب والخوف على مصير دينها ولغة دينها، فأخذت ترفع صوتها بالشكوى والاحتجاج من يوم قرار 08 مارس”.
يجب أن نستذكر أنّ الإدارة الفرنسية رفضت ـ مُتذرعةً بهذا القانونِ ـ الترخيصَ لكلّ من انتسب لجمعية العلماء، أو كانوا يعلّمون في مدارسها، ومنهم من قُدّم للمحاكم كالمجرمين، وهم في حقيقتهم “من حفظة القرآن العظيم، وحملة الشهادات التي تخوّلهم التعليم الابتدائي أو أوسع منه، وهم من ثمار النهضة العلمية الدينية الحديثة التي نَهَضتها الجزائر العربية المسلمة.
وكلّ هؤلاء الطالبين للرخص لا يتقدمون للإدارة بالطلب إلا بعد أن يُحضّروا المحلّ اللائق الذي لا يقل في الصلوحية عن محلات سكناهم، وكثيرا ما يكون أحسن من كثير منها، كمدرسة دار الحديث بتلمسان، ومدرسة قلعة بني عباس، ومكتب بجاية، وغيرها”.
هنا ظهر الغرض الحقيقي من تطبيق هذا القانون، لأنّ الشروطَ المنصوصَ عليها مستوفاةٌ وزيادة، ومع ذلك ترفض الإدارةُ الفرنسية الترخيصَ لمدارس جمعية العلماء وأساتذتها، “فعندما تمنع الإدارة مثل مدرسة تلمسان، ومدرسة القلعة ونحوهما، فهل يبقى شك في أنّ المانع شيء آخر غير المحافظة على الصحة؟ وما هو هذا الشيء إلا عرقلة المسلمين عن تعلّم الدّين ولغة الدين”.
حذّر الإمام الإدارةَ الفرنسية، ورفعَ عقيرته مهدّدا بأنّ الأمر “أجلُّ مما تحسب، وأنّ المسلمين قد يسكتون عما يسكتون، لكنهم لا يسكتون عن تعلم دينهم ولغة دينهم، فمن الخير للجميع أن تُنهى هذه المسألة الخطيرة بعدل وإنصاف، ويطبّق القانون بصدق ونزاهة”.
من القول إلى الفعل: وقائع اجتماع المجلس الإداري بأعضاء الشُّعَب
جهّز ابنُ باديسَ جيشه وأعدّ عُدّته، فدعا إلى اجتماعٍ عاجل يضمّ أعضاء الإدارة وأعضاء شُعَب الجمعية، فيما يشبه الجمعيةَ العامة الاستثنائيةَ، ليس في جدول أعمالها إلا تتبّع آثار هذا القانون على مدارس جمعية العلماء، “فوُجّهت الدعوة إلى مائة وثمانين عضوا موزعين على جهات الوطن الجزائري، وذلك للمشاركة مع مجلس الإدارة في إبداء ما يُتخذ من الجهود لحماية الإسلام، ولغة الإسلام من سلاح قانون 08 مارس”.
التواصل مع نوّاب الشعب
ركّزت الجمعية في هذا الاجتماع، على إيجاد الحلول العملية المناسبة بعد تحليل الواقع تحليلا دقيقا، شمِل النظر في تعنت الإدارة، وحالةِ الشعب الجزائري، فاجتمع المؤتمرون على رأي الشيخ الرئيس، إذ رأى فضيلته ضرورة حَمل الشعب “على الاتصال بنوابه، ودعوته لهم إلى الدفاع عن الإسلام والعربية، وأنّ من أخلّ بهذا الواجب فهو خائن”.
تابعت جريدةُ البصائر ـ في عددها 162 لسنة 1939 ـ تطبيقَ هذا الحلّ، ورصدت تفاعلا إيجابيا لنوّاب الشعب، فوجدت الجمعية فيهم “آذانا صاغية وقلوبا متأثرة واهتماما بالمصيبة واستعدادا للعمل، على أمل أن يدرك من بيَدهم الأمر أهمية القضية وأثرها في المصالح العامة المشتركة، فيتداركوها من أنفسهم بما فيه خير مضمّد لجروح القلوب”.
لم يكن فرحات عبّاس راضيا عن هذه المساعي، واعتبرها غيرَ كافية في دفع هذا القانون القتّال للدين الإسلامي، في خطابٍ يبعث على اليأس والقنوط، فردّ عليه الإمام المؤسس بأنّ هذا “اليأس هو الذي قعد به، وبأمثاله عن الاستمرار، فسكتوا واستسلموا لما يعرفون أنّه ضربة قتّالة للدين الإسلامي في هذه الديار”.
ثمّ خاطبه قائلا:” ألا فليفهم هذا الأخ وأمثاله من نوابنا المسؤولين عند الله، وعند الأمة وعند التاريخ: أنّ المسلم لا يستسلم بل يعمل ولا ييأس من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون»، فنحن بحقّ وعن إيمان عاملون وعلى الله متوكلون. فهل أنتم عاملون؟ إنكم لمسؤلون”.
الجبهات الأخرى
لم تكن جمعية العلماء تواجه جبهةً واحدة، لأن الإدارة الفرنسية أرادت أن تضرب الإسلام ولغة الإسلام بيدِ من ينتسبون إليهما، ويتكلمون -في زعمهم الكاذب -باسم أكثر من ثلاثة ملايين، فكان لها من رؤوس الطرقية -خيّبهم الله -ما أرادوا”.
أيّدت الطرقية قانون 08 مارس ودافعت عنه، وزعمت أنّه لا يسيء للدين بسوء. فطعن رؤوس الطرقية الإسلامَ ولغةَ الإسلام من خلف، وافتاتوا على الأمة، وعارضوا نوّابها في الدفاع عن دينها ولغة دينها، ففضحهم الإمّام المؤسس في مقال بعنوان “رؤوس الطرقية يؤيدون قانون 8 مارس”، نشرته جريدة البصائر في عددها 163 لسنة 1939.
ثمّ هُم مع هذا كلّه يدعون في اجتماعهم إلى الاتحاد، فأجابهم الإمام ابن باديس بقوله:” على أي شيء نتحد هبّلتكم الهوابل؟ أعلى قتل الإسلام ولغة الإسلام؟ أعلى إغضاب الله وإرضاء شياطينكم؟ أفبعد موقفكم بقي لمسلم معكم اتحاد؟ ومن يتولهّم منكم فإنّه منهم، إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين.
لا والله ما كنت أحسب أنّ القوم ينتهون إلى هذه الغاية، وينقلبون هذا المنقلب، ويبلغون هذا الحد من الجراءة على الله، والاستهانة بعقابه والاستخفاف بالمسلمين”.
الجبهة الإعلامية
بعد أن بذلت جمعية العلماء ما بذلت من جهود لمحاربة هذا القانون، آثرت السكوت لعلمها أنّ النوّاب قد قدّموا مطالبها ضمن المطالب الجزائرية الإسلامية العامة، وأنّهم جادون في المطالبة بها، وقد سافروا إلى باريس لهذا الغرض، فناسب أن تسكت الجمعية لتدع لهم العمل في جوّ هادئ.
وما أن أمسكت جمعية العلماء حتى حرّكت الإدارة الاستعمارية أرمادتها الإعلامية باللّغتين العربية والفرنسية، “تثير الكلام على قانون 08 مارس، وتثير الكثير من الكيد والدجل والتّموية، حتى كادت تجعله رحمة نزلت بالمسلمين الجزائريين، بينما هو بلاء صبّ على دينهم ولغة دينهم”.
فأضرب ابن باديس عن الردّ على الجريدة الناطقة بالعربية، واعتبر ما جاءت به “نباحا” لا يُلتفتُ إليه، بينما ردّ الإمام على جريدة «لاديبيش كونستتين» التي كان الظنّ بها احترامُ نفسها، لكنّها بخروجها عن خطّها المعتادِ فضحت من وراءها، فقال لها ابن باديس في مقال بعنوان: “جريدة لاديبيش تدافع، ولكن بالغش والتدليس” نشرته جريدةُ البصائر في عددها 168 لسنة 1939م، جاء فيه:”.. لكن ما يدرينا أن هذه الجريدة الاستعمارية تحركت من نفسها، ولم تكن منبعثة بإيعازات من غيرها مما هو أعلى منها؟ إنّ صدور الكتابة باللسانين بين يوميّتين، قد يدلنا على أن مكتب الدعاية بالولاية العامة هو مصدرها”.
لقد فهم المّاهدون من أول يوم، أنّ ما هم عليه من سلوكٍ لنهج الأنبياء مظنّةُ عداوة المجرمين، وهم يجدون في كتاب الله:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾، لذلك قال ابن باديس من أول يوم: “وقد فهمنا ـ والله ـ ما يُراد بنا، وإنّنا نقول لخصوم الإسلام والعربية إنّنا عقدنا العزم على المقاومة المشروعة، عزمنا وسنمضي ـ بعون الله ـ في تعليم ديننا ولغتنا رغم كلّ ما يصيبنا، ولن يصدّنا على ذلك شيء، فنكون قد شاركنا في قتلهما بأيدينا”.
عبرةٌ لابد منها
أمّا اليوم فيُعيِّرنا بعضُ النّاس بعدم أهليتنا لتمثيل جمعية العلماء، وقد يكون في تعييرهم هذا شيءٌ من الحق وإن أُريد به الباطل، فعلينا أن نرفع السقف إلى الحدّ الذي رسمه الماهدون، ليس فيه حظٌّ للنفس أو الجماعة أو العشيرة أو أيّ شيء آخر إلا الإسلام والعربية والجزائر، ولتكن وجهتنا مُناقشةَ البرامج، والخطط، والمشاريع، والتحديات التي يجب أن تعود إليها جمعية العلماء، ولن تجد القيادةُ المقبلة ـ أيّا كانت ـ إلا تنفيذ توصيات الجمعية العامّة السيّدة.
* رئيس شعبة عنابة