الإسلام في فرنسا: صدور أول كتاب عن تاريخ مسجد باريس الكبير

قراءة وتقديم ونقد: سعدي بزيان/
عندما عقدت العزم على إصدار كتاب «الصراع حول قيادة الإسلام في فرنسا» كما عشته وأنا مكلف بالإعلام في مسجد باريس بحثت في مكتبة المسجد فلم أجد سوى نص خطاب قدور بن غبريط خلال افتتاح مسجد باريس وأسماء الشخصيات الفرنسية الإسلامية التي حضرت حفل الافتتاح وصور الافتتاح، واحتفظت بهذه الصور مع خطاب بن غبريط في حين خلف الشيخ حمزة بوبكر وراءه ترجمة كتاب البردة للبصيري وترجمة رائعة لثلاثة شعراء شعبيين في الجزائر مع ترجمة لمعاني القرآن الكريم، وتعتبر من أهم الترجمات، وقد صدرت لها طبعة في الجزائر.
كما خلف وراءه نشرية بالفرنسية بعنوان «السلم» مذيلة بالآية القرآنية «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها». وتمر السنون ويغادر حمزة بوبكر ليخلفه الشيخ عباس ثم الدكتور تيجيني هدام وها هو ابن حمزة بوبكر ويدعى دليل بوبكر يصبح عميدا لمسجد باريس منذ 1992 إلى 2020 فأخذ يصدر كتبا متعددة ولعل أبرز هذه الكتب هو كتاب La Grande Mosquée de Paris, Un message et une Histoire
مسجد باريس الكبير رسالة وتاريخ.
قد ضمنه صفحات عن المراحل الأولى التي سبقت افتتاح مسجد باريس وقد تجسدت الفكرة فعليا بعد تأسيس جمعية «أحباس الحرمين الشريفين» برئاسة قدور بن غبريط 1917 في الجزائر، وفي 1922 ثم وضع الحجر الأساسي للمسجد ليفتح أبوابه أمام المصلين في 15 جويلية 1926، وتزامن ذلك مع ميلاد نجم شمال إفريقيا وقد عارض الوطنيون إقامة هذا المسجد ونعتوه بشتى النعوت وكان ممنوعا على الوطنيين إعطاء الدروس فيه، وقد علق ابن باديس على إقامة هذا المسجد في فرنسا في حين يضطهد فيه الإسلام بأرض الإسلام في الجزائر، ويذكر الأستاذ سعيد بورنان في كتابه «نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في فرنسا 1936-1956» منشورات هومة الجزائر 2001م أنه عند تدشين مسجد باريس 1926 كان الإمام ابن باديس قد نشر مقالا في الشهاب، علق فيه على خطاب رئيس الجمهورية الفرنسية الذي ألقاه في حفلة افتتاح المسجد ومما جاء فيه:»نريد من فرنسا التي شيدت للإسلام معهدا عظيما في عاصمتها أن تلفت نظر حكومة الجزائر إلى مزيد الاعتناء بمساجدنا: بترميمها، فإقامة المدرسين الدينيين المهذبين فيها، بتوفير عدد القائمين عليها وبتحسين مرتباتهم ليتفرغوا لها فمنها تنتشر التعاليم العالية، والتهذيب الراقي الذي راق لحضرتكم وأعلنتم بالثناء عليه.
ولعل أهم ما يقال عن كتاب دليل بوبكر الذي شغل منصب عميد مسجد باريس من 1992-2020 هو أنه خلف وراءه عدة كتب وقد بلغني خبر من مقربيه أن دليل بوبكر أمضى عقدا مع إحدى دور النشر اللبنانية في باريس لإصدار الأعمال الكاملة لوالده وهو عمل هام ومفيد بغض النظر عن الملاحظات التي وردت على لسان بعض الزملاء حول كتابه: «مسجد باريس الكبير رسالة وتاريخ». ولعله من حسن حظي أنني أملك كل كتبه وهذا الكتاب الذي أقدمه كان هدية من الصديق د. صديقي جلول مدير معهد الغزالي منذ تأسيسه إلى 2020م ويذكر في هذا الكتاب أن وضع الحجر الأساسي لإقامة مسجد باريس تم في 19 أكتوبر 1922 وقد ألقيت عدة خطب بالمناسبة من طرف قادة فرنسا وفي مقدمتهم الماريشال ليوطي «مارشال الإسلام» كما يلقبه الفرنسيون ويجد القارئ لهذا الكتاب صورة عن وضع الحجر الأساسي بحضور قدور بن غبريط وشخصيات فرنسية ويذكر دليل بو بكر أن مهندس جامع باريس هو Mourice Montout من مواليد الجزائر فقد بنى المسجد على مساحة مقدارها لـ 7500 متر.
في حين تحتل مساحة الحديقة العربية 3500 متر وهذه الأرض التي بنى عليها المسجد هي أساسا كانت ملكا لمستشفى دولا بيتي القريب من حديقة التجارب المشهورة ومنارة المسجد يبلغ علوها 34 مترا ومنبر مسجد باريس هدية من ملك مصر 1939 كما أهدى ملك إيران الزرابي ذات الشهرة العالمية ويقع مسجد بالقرب من كنيسة نورتدام والسوربون الجديدة والكوليج دوفرانس ومعهد العالم العربي وقد افتتح المسجد غاستون دوميرغ Gaston Doumergue وقدور بن غبريط الذي أثنى على غاستون دوميرغ وقد اهتم د. دليل بوبكر في كتابه الوارد ذكره بمرحلة عمادته التي ابتدأت في 13 أفريل 1992 واستمرت وكانت مدة عمادته استمرت 28 سنة وهي أطول مدة في حين كانت عمادة والده حمزة بوبكر 25 سنة.
عمداء جامع باريس كما ورد في كتاب دليل بوبكر حسب الترتيب:
1-قدور بن غبريط 1926-1954
2-أحمد بن غبريط 1954-1957 بالنيابة
3-حمزة بوبكر 1957-1982
4-الشيخ عباس بن الشيخ الحسين 1982-1989
5- تيجيني هدام 1989-1992
6- د.دليل بوبكر 1992-2020
ملاحظة كلمة عميد Recteur استعملت في عهد حمزة باقتراح من يونس بحري العراقي الأصل «الجاسوس العالمي» ودليل بوبكر يؤرخ لنا عن فترة قدور بن غبريط 1873-1954 وهو من مواليد سيدي بلعباس من عائلة تلمسانية وحسب دليل بوبكر فإن بن غبريط درس في الثعالبية في الجزائر، وفي القرويين في فاس حيث تمكن من اتقان الفرنسية والعربية وبسبب اتقانه اللغتين استطاع الانخراط في الإدارة المغربية التي أخذت تجند الكفاءات العلمية واللغوية وذلك في إطار الإصلاح الذي قام به الحسن الأول 1895 وأثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر التجأ الآلاف من الجزائريين إلى المغرب. وفي سنة 1910 افتتح بن غبريط مدرسة في طنجة وفي هذه المدرسة تعلم الترجمة من اللغتين العربية والفرنسية وخلال هذه المدة اكتشفت الإدارة الفرنسية في قدور بن غبريط الرجل المناسب في المكان الذي تحتاجه فيه وهو مؤهل، ويذكر دليل بوبكر في هذا الكتاب أن قدور بن غبريط شخصية إسلامية معروفة في الديار الباريسية وكان يقيم محاضرات في مسجد باريس، ولم يخلف من ورائه من الإنتاج الثقافي سوى كتاب عن أبي نواس باللغة الفرنسية، وماضيه مجهول عند الجزائريين وقد ذكر لي صديقي د. نجيب عاشور خريج جامعة باريس والذي يعمل حاليا في أحد المؤسسات التربوية الفرنسية «أن للكُتاب المغاربة عدة دراسات وأبحاث حول ابن غبريط ودوره السياسي الذي كان مناهضا للحركة الوطنية المغربية، رحمه الله مات وعمره 82 سنة ولم يشر دليل بوبكر إلى إمام جامع باريس الأول وهو الشيخ محمد المولود بن موهوب (1866-1939) وهو جزائري الأصل ومن الشخصيات العلمية اللامعة وهو من صلى الجمعة الأولى في جامع باريس وقد زاره مولاي السلطان يوسف في منزله وعبر له عن إعجابه به، وظل يحتفظ بهذا المنصب إلى غاية وفاته سنة 1939، وقد مات بن غبريط في 30 جوان 1954 ليخلفه حفيده سي أحمد بن غبريط لمرحلة معينة وخلال هذه الفترة انبعثت الحركة الوطنية بالمغرب العربي بقوة أدت إلى استقلال هذه الأقطار الثلاثة.
وها هو الشيخ حمزة بوبكر 1912-1995 يصبح عميدا لمسجد باريس وهو أساسا من Gery ville في الغرب الوهراني:»البيض سيدي الشيخ ينحدر حسب ابنه من الخليفة أبي بكر أول خليفة للمسلمين 632-634 وهو من زاوية سيدي الشيخ التي ولدت في القرن الخامس عشر، والزاوية حاربت فرنسا ثم تصادقت معها، متفوق في دراسته يحمل شهادة التبريز في الأدب العربي عُين بروفيسورا في كوليج سكيكدة حيث ولد ابنه الدكتور دليل كما درس في «ليسي بوجو» الأمير عبد القادر الآن وجامعة الجزائر، يتقن العربية والفرنسية التي ترجم إليها معاني القرآن والبردة للبصيري وكتب أخرى، أسس جريدة السلام 1948 وعميدا لجامع باريس كما ترجم لـ 3 شعراء جزائريين، عين نائبا في البرلمان 1958 وعضوا في الأخوة الإبراهيمية الجزائرية ومات رحمه الله في 4 فيفري 1995 في باريس ودفن في مسقط رأسه البيض سيدي الشيخ بالجزائر في جنازة رسمية من طرف الدولة الجزائرية وعزته جريدة المجاهد بل قالت «أسد الصحراء مات» وعش رجبا ترى عجبا بل غرائب، ولعل أهم شيء في حياة هذا الرجل أنه ترك وراءه ترجمة لمعاني القرآن نشرت في باريس والجزائر معا، كما حصل على عدة جوائز تقديرية وكان عضوا في المجلس الإسلامي الأعلى بالأزهر، وقد أفرد له ابنه في كتابه صفحات مدعمة بالصور عن نشاطه ولقاءاته مع شخصيات فرنسية وعالمية.
الشيخ عباس 1912-1989 رابع عميد لمسجد باريس خلفه الدكتور تيجيني هدام 1921-2000 وكلا العميدين يحملان الجنسية الجزائرية وديبلوماسيان سابقان وقد سبق لي وتحدثت عنهما في جريدة البصائر إذن فلا داعي للتكرار، وقد أردت من خلال هذه الدراسة المختصرة إثراء جريدة البصائر بمواضيع ليست في متناول القراء.
فالحديث عن مسجد باريس ليس كالحديث عن باقي المساجد فقد ولد على جثث آلاف من الجزائريين الذين قدموا حياتهم ثمنا للدفاع عن حرية فرنسا وكرامتها.
وقد أصبحت الدولة الجزائرية منذ 1982 هي التي تتكفل بإدارته وتمويله وتخصص له ميزانية سنوية وتحت قيادة مسجد باريس يعمل 150 إماما جزائريا موزعين على كبريات المدن الفرنسية حيث تتواجد جاليتنا بكثرة ويتقاضى هؤلاء مرتباتهم بالعملة الصعبة ويتضاعف هذا العدد في شهر رمضان المعظم والدولة الجزائرية تتكفل بجميع هؤلاء وقد تعرضت إدارة المسجد لهجوم واسع النطاق من أناس آلمهم أن تؤول إدارة المسجد إلى الدولة الجزائرية فباءت مساعيهم بالخسران المبين.