كلمة حق

نحوَ وَسطيَّةٍ إسلاميَّةٍ جامعةٍ تُواجِهُ الغلُوَّ والتَّطرُّفَ / عمار طالبي

 سافرتُ إلى أرضِ الكِنانةِ مِصرَ؛ لأَشهدَ مؤتمرَ مَجمَعِ اللُّغة العربيَّة بالقاهرةِ؛ وهو مؤتمرُ المَجمَعِ السَّنويِّ في الدَّورةِ الرَّابعةِ والثَّمانينَ، وموضوعُه: «حمايةُ اللُّغةِ العربيَّةِ: التَّحديَّاتُ الوسائلُ الأهدافُ».

وزُرتُ فضيلةَ الأستاذِ الدُّكتور حسن الشَّافعي رئيسُ المجمَعِ؛ فرحَّب بي أيَّما ترحيبٍ، وقدَّمني إلى فضيلةِ الإمامِ الأكبرِ أحمد الطَّيِّب شيخِ الجامعِ الأزهرِ مشكورًا؛ فرحَّب بيَ الإمامُ، واستَقبلني استِقبالًا طيِّبًا، شكرَ اللهُ له.

كما تمَّ لقائي مع مُستشارِه الكريمِ الأستاذ الدُّكتور محمَّد السُّليماني؛ فأهداني أعمالَ الملتَقى العالميِّ الخامسِ لرابطةِ خرِّيجيِّ الأزهرِ الشَّريفِ (1431هـ – 2010م)، وعُنوانُه: «الإمامُ أبو الحسنِ الأشعريِّ إمامُ أهلِ السُّنةِ والجماعة: نحوَ وَسطيَّةٍ إسلاميَّةٍ جامعةٍ تُواجِهُ الغلُوَّ والتَّطرُّفَ»، بعنايةِ وتَصديرِ فضيلةِ الإمامِ الأكبرِ أحمد الطَّيِّب شيخِ الأزهر ِالشَّريفِ، وممَّا جاء في تَصديرِه ([1]):

«ذلك المُلتقى الَّذي شارك فيه كوكبةٌ من العلماءِ من خارجِ مِصرَ وداخلِها، وعُقِدَ في مُنعَطَفٍ عاصِفٍ من تاريخِ أُمَّتِنا الإسلاميَّةِ، اختَلطَت فيه الأوراقُ واضطَربَت، حتَّى أصبحَ هذا الدِّينُ الواضحُ الَّذي كان مَصدَرَ وَحدةِ المسلِمينَ وقُوةً لهم جميعًا – مَصدَرَ فُرقةٍ وتَنازُعٍ بينَ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ.

وقد يسألُ البعضُ عنِ الفائدةِ الَّتي يَجنِيها المسلِمونَ – وهم في مِحنتِهم هذه – من مُؤتمرٍ كهذا؟

وهل يَرجُونَ منه ما تَرجُو أمَّةٌ تمزَّقَ شَملُها، وانتقَضَ غَزلُها أنكاثًا،ولاذَت برُكنٍ قَصِيٍّ مَعزولٍ عن رِهاناتِ عَصرِها وتَحدِّياتِه، بعد أن كان مِلءَ سَمعِ الدُّنيا وبَصرِها، وبعد أن كان العالَمُ كلُّه يَحسَبُ لها ألفَ حِسابٍ؟

يُذكِّرُنا واقعُ الأمَّةِ الآنَ بواقعِها أيَّامَ أبي الحسنِ الأشعريِّ؛فهي الآن َأمَّةٌ في حاجةٍ إلى مَنهجٍ كمَنهجِه الَّذي أنقَذَ به ثَقافةَ المسلِمينَ وحَضارتهم قديمًا؛ ممَّا كان يَتربَّصُ بها مِن مَذاهبَ مُغلَقةٍ تُديرُ ظَهرَها للعقلِ وضَوابطِه، وأُخرى تَتعبَّدُ بالعقلِ وتُحكِّمُه في كلِّ شاردةٍ وواردةٍ، حتَّى فيما يَتجاوزُ حُدودَه وأدواتِه، وثالثةٍ تُحكِّمُ الهَوَى والسِّياسةِ والمنفَعةِ وتَخرُجُ عن كلِّ ذلك بعقائدَ مُشوَّهةٍ تُحاكِمُ بها النَّاسَ وتُقاتلُهم عليها.

إنَّ آفةَ المسلِمينَ في هذا العصرِ هي التَّربُّصُ العَقَديُّ والمذهبيُّ فيما بينهم، والجرأةُ على الإكفارِ في مسائلِ الخِلافِ، ودَعوى أهلِ كلِّ مَذهبٍ أنَّهم وَحدَهم المسلِمونَ وأنَّ غيرَهم كافرٌ أو مُبتدِعٌ فاسقٌ، وآفةُ الآفات ِأنَّ بعضَ هذه المذاهبِ تَسنِدُه قوَّةٌ وسلطانٌ، ويَدعَمُه مالٌ غزيرٌ وفيرٌ يُمكِّنُ نشرَ هذا المذهبِ أو ذاك، مستغِلًّا فقرَ الكثرةِ الكاثرةِ، وحاجةَ الشَّباب وعَوَزَهم.

والأملُ:

1- نشرُ التُّراثِ الوسَطيِّ وإذاعتُه بين النَّاسِ؛ لتَقِفَ به الأمَّةُ في وجهِ نَزَعاتِ التَّكفيرِ والتَّفسيقِ والتَّبديعِ في خِلافيَّاتٍ تَسَعُ النَّاس جميعًا؛ وذلك حتَّى تَتمكَّنَ من وقفِ هذه التَّداعيَاتِ الَّتي تُوشِكُ أن تَقضِيَ على وَحدةِ الأمَّةِ، والمذهبُ الأشعريُّ هو الأَجدَرُ بهذا الدَّورِ؛ لأنَّه المذهبُ الَّذي لا يُكفِّرُ صاحبُه أحدًا من أهلِ القبلةِ.

2-  احترامُ التَّوازُنِ في الجمعِ بين العقلِ والنَّقلِ، وإنهاءُ الخُصومَةِ بينَهما الَّتي تُسيطِرُ الآن على بعضِ الأفهامِ.

3- التَّركيزُ على جَوهرِ الدِّينِ، وعلى المتَّفَقِ عليه بين المسلِمينَ، ثمَّ على المشتَرَكِ بين المسلِمينَ وغيرِ المسلمينَ.

4- ضَرورةُ العملِ على إحياءِ المذهبِ الأشعريِّ بكلِّ ما يَتضمَّنُه من خصائصِ الاِعتدالِ والوسَطِيَّةِ الَّتي تُؤهِّلُه للعملِ على إعادةِ وَحدةِ المسلِمينَ واجتماعِهم تحت لافتةِ الإسلامِ والقُرآنِ والسُّنَّةِ، وتكونُ دائرةُ الخلافِ فيما يُقبَلُ ويُرَدُّ، وليس في دائرةِ ما يُخرِجُ من الإسلامِ وما يُدخِلُ فيه؛ حتَّى لا يَشعُرَ المسلمُ بالضُّغوطِ العَقَدِيَّةِ الَّتي تُطارِدُه بالتَّكفيرِ والتَّفسيقِ والتَّبديعِ والإقصاءِ عن حَظِيرةِ الإسلامِ، كأنَّما قارَفَ ذنبًا، أو دعته طبِيعةُ الإنسانِ وضَعفُه إلى بعضِ المعاصي الَّتي حذَّرَ منها الشَّرعُ؛ طَمَعًا في رحمةِ اللهِ ومَغفِرتِه، وهو طَمَعٌ مَشروعٌ بعد التَّوبةِ والإنابةِ».

وهذا الَّذي كتَبه فضيلتُه هو ممَّا دعا إليه رائدُ الإصلاحِ في الجزائرِ الشَّيخُ الجليلُ عبدُ الحميدِ بنُ باديسَ – رحمه الله – حين دعا إلى النَّظرةِ الإسلاميَّةِ الواسعةِ، لا إلى تَعصُّبٍ إلى مَذهبٍ ضيِّقٍ مُعيَّنٍ، أو طائفةٍ، أو حزبٍ، والاِنغلاقِ فيه دون نوافذَ يَدخُلُ منها نورٌ وهواءٌ.

واللهَ نسألُ أن يهتدِيَ هؤلاءِ الَّذين يقومونَ بالشَّحنِ الطَّائفيِّ، ويُبدِّعونَ ويُضلِّلونَ غيرَهم، ويَحصُرونَ الحقَّ فيما يَذهبونَ إليه، كأنَّ الإسلامَ أُنزِلَ عليهم؛ فأقصَوا مَن عَداهم مِن ساحتِهم، واختَصُّوا به دون غيرِهم، كما نُشاهِدُ بعضَ النَّاسِ يَفعلُ هذا في الجزائرِ هذه الأيَّامَ.

([1]) بتصَرفٍ يسيرٍ.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com