الجمعية العامة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين: كيف كانت؟ وكيف ستكون؟ رســالة أخــرى من الشيخ العربي التبسي إلى أعضاء الجمعيـة العامة المقبلة
أ. سمير زريري */
شهدت الجزائر سنة 1956م مؤتمرين تاريخيين كبيرين، أحدهما مؤتمر الصومام، وهو أشهر من أن يُذكر، وأما الآخر فمطمورٌ غيرُ مشهور، وهو الجمعية العامة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي انعقدت في 07 جانفي 1956م بالجزائر العاصمة.
ولئن كان مؤتمر الصومام محطة تاريخية رسمت معالمَ جديدةً للثورة التحريرية، فإن الجمعية العامة لجمعية العلماء كانت يومَها يوما من أيام الله، ومشهدا من مشاهد الدعوة الإسلامية، وموقفا من مواقف تجديد العهد، التي رسمت فيه الجمعية نهج المصلحين في الأزمات والأوقات الحالكات.
وقائع الجمعية العامة
نقلت جريدة البصائر في عددها 349 و350 لسنة 1956، وقائع هذا المؤتمر من خلال كاتبها العام الأستاذ أحمد توفيق المدني رحمه الله، والذي سجل همّة المؤتمِرين وحضورهم المبكر، رغم الظروف العصيبة التي كانت تعيشها الجزائر في سنتها الثانية من ثورة التحرير، فلم تكن مسألة النصاب واردةً -إذ ذاك -.
قال الأستاذ أحمد توفيق المدني:” ما كادت تدق الساعة التاسعة من صبيحة السبت، سابع جانفي الحالي، حتى كان مركز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين غاصا بوفود الأعضاء من مختلف درجاتهم، الذين لبّوا دعوة الاجتماع العام القانوني وأسرعوا إليه مهطعين، ولولا الحوادث الحالية التي تسود سائر جهات القطر الجزائري، والتي عاقت الكثير من رجال الجمعية الميامين عن الحضور، لكان المهرجان عظيما، يُذكرنا باجتماعات الجمعية السالفة”.
جرت الجمعية في هذا المؤتمر على سُنّتها التي ورثناها عنها من البداءة بالقرآن الكريم، ترنم به الشيخ نعيم النعيمي رحمه الله، فلمّا جاء دور العرض والبيان تقدّم إلى المنصة الشيخ أحمد توفيق المدني مُرحّبا بالحاضرين مُذكرا بالغاية من هذا الاجتماع العام القانوني، ثمّ أعطى بيانا عن موقف الجمعية من الحالة الحاضرة في القطر الجزائري، وذكر مجمل سير الجمعية خلال الأعوام التي مضت.
الكلمة الافتتاحية لنائب رئيس الجمعية
ثمّ تقدّم نائب رئيس الجمعية الشيخ العربي التبسي، فألقى “خطابا مسهبا عن حالة الجمعية عموما، وواجباتها، وأعمالها، وكفاحها في مختلف الميادين خلال السنوات التي عمل بها المجلس الإداري الحالي، وكان الخطاب مفعما بالتوجيهات الصالحة، والآراء السديدة”.
التقرير المالي لأمين المال
تلاه على منصة الخطابة الشيخُ عبد اللطيف سلطاني أمينُ المال، فألقى “تقريره المالي المفصّل المدقّق، بابا، بابا، وسنة، سنة، وبيّن كيف تضخمت ميزانية الجمعية من المقدار اليسير الذي كان بين يديها منذ أربع سنوات، إلى المقدار الضخم الذي تتصرف فيه سنويا، والذي ما يزال يتضخم ويكبر، على مقدار امتداد الجمعية واتساع أعمالها”.
التصويت على بلاغ الجمعية العامة
ثمّ قرأ الأستاذ أحمد توفيق المدني على الحاضرين نصّ بلاغ الجمعية، وعرضه على المصادقة فصلا فصلا، فتقبله الجمهور الحاضر بحماس شديد، وصادقوا عليه في غمرة من الحَمية والشعور بالواجب.
انتخاب المجلس الإداري الجديد
وفي العشية، كان الاجتماع خاصا بالأعضاء العاملين فقط كما ينص عليه القانون الأساسي للجمعية في ذلك الوقت، وفي جدول أعمال الاجتماع انتخابُ المجلس الإداري الجديد لسنة واحدة، فبوشرت عمليات الانتخاب السري بواسطة صندوق أشرفت عليه هيئةٌ من شيوخ الجمعية عيّنهم أعضاء الجمعية العامة.
وبعد أن انتهت العملية التي دامت قرابة الساعتين، أسفرت الانتخابات عن تجديد الثقة في المجلس الإداري القديم كلّه، مع اختلاف بسيط في الأصوات تحصّل عليها الأعضاء، وأعلن حينها الشيخ أحمد توفيق المدني النتيجة على الحاضرين، واستحثهم على العمل ومواصلة الجهود العلمية والدينية والاجتماعية حتى تؤديَ جمعية العلماء رسالتها على الوجه الأكمل.
اختلى المجلس الإداري الجديد بعد ذلك لتجديد مكتبه، والمفاوضة في سير الجمعية، ووضعِ برامج العمل، فقرر المجلس بإجماع الأصوات تجديد الثقة في المكتب كما كان مشكّلا من قبل، وكذلك تجديدَ الثقة باللجان المختلفة العاملة، واعتكف المجلس بعد ذلك يومين لدراسة المواضيع التي كانت مسجلة بجدول أعماله.
عودةٌ إلى بلاغ الجمعية العامة
هذه هي الجمعية العامة في تلك السنة كأنّك تراها بعينيك، لكنّ الذي ينبغي علينا أن نراه بعين القلب ونحن مقبلون على الجمعية العامة السادسة، هو ذلك البلاغ الذي صدر عن هذا المؤتمر، والذي رفع السقف عاليا حتى أتعب ورثة الجمعية من بعده.
كان موضوع البلاغ الحالةَ التي كانت تعيشها الجزائر الثائرة، وموقفَ جمعية العلماء من ذلك، إذ قررت الجمعية أنّها “لا تستطيع السكوت عمّا هو واقع بالقطر الجزائري من فظائع، ومجازر، وموبقات أصبحت أخبارها منتشرة في الخافقين، وأنّها لا تستطيع التغافل عن كلّ ما يتعلق بمستقبل الحياة في القطر الجزائري”.
فأعلنت الجمعية “بكل صراحة أنّ النظام الاستعماري المفروض بقوة السلاح على الجزائر منذ 1830، هو المسؤول الوحيد عن كل المآسي والمصائب والويلات التي وقعت في الجزائر، وذلك بما أحدثه فيه من مَيز عنصري مخجل، وما سلكه فيه من سياسة التفقير، والتجهيل، والحرمان من كل نعم الحياة، بالنسبة للعنصر الإسلامي، وما حارب به الدين الإسلامي في أقدس مقدساته، وما أجهز به على التعليم العربي القرآني في كلّ جهة من جهاته، وما تعمده من محق جنسية الأمة، ومحاولة ابتلاعها، ومحو كلّ مظهر من مظاهر سيادتها، وما أعلنه مرارا رغم إرادتها من إلحاقها وإدماجها، إلى أن أوصل الأمة بكل ذلك إلى درجة اليأس فعَمَدت إلى الأعمال التي يوجبها اليأس”.
ولا يوجب اليأسُ إلا الحربَ، فحاربت جمعية العلماء بكل سلاح تملكه، رفعت عقيرتها “بالاحتجاج الصارم العنيف، على ما ارتُكب في مختلف جهات البلاد من أعمال البطش والإرهاب، والتنكيل، وما وقع من الفظائع والمنكرات، بدعوى الزجر ومحاولة إخماد الثورة.
واحتّجت -في هذا البلاغ -الاحتجاجَ الصارخ على تلك المظالم الكثيرة المتعددة التي وقعت على مدارس جمعية العلماء، وما وقع على المعلمين فيها من حيف وجور، بين سجن، وتغريم، وإبعاد إلى المحتشدات”.
ووجهت كلمةً صريحة علنية إلى المسؤولين في باريس، على أمل أن يسمعها العالم أجمع، “وهي أنّه لا يمكن حلّ القضية الجزائرية بصفة سلمية وسريعة إلا بالاعتراف العلني الصريح بكيان الأمة الجزائرية الحر، وجنسيتها الخاصة، وحكومتها القومية، ومجلسها التشريعي المطلق التصرف، في دائرة احترام مصالح الجميع، والمحافظة على حقوق الجميع”.
كانت الضريبة التي دفعتها جمعية العلماء نظير هذه الكلمةِ الرصاصةِ غالية جدا، وقد استشرف العلماء ذلك، وهم يجدون الأذى سنّةَ الله في المصلحين، فتواصَوا في هذا المؤتمر بالصبر، وأوصَوا الأمة به، واستحثوها على “العمل الصالح، والثبات، وتوحيد الصفوف، ونسيان الخلافات القديمة، حتى تستطيع الأمة متحدة متضافرة أن تصل قريبا إلى الدرجة الرفيعة التي أهّلها لها جهادُها المستمر منذ أحقاب، وكفاحُها الشريف الذي أصبح مضرب المثل، وتاريخُها الحافل بجلائل الأعمال”.
بين مؤتمر الصومام ومؤتمر الجمعية
لم يترك هذا البلاغ لمؤتمر الصومام الشيءَ الكثير ليُكمله، خاصةً وأنّ الشيخ العربي التبسي ذكر في كلمته الافتتاحية بأنّ تاريخ جمعية العلماء حافلٌ بالوقائع الكبيرة في محاربة الاستعمار، ومحاولةِ إبعاده عن مساجدنا وشعائر ديننا وأوقاف أمتنا وحرية لغتها.
قال رحمه الله:”حاربنا الاستعمار الظالم بكل سلاح نملكه، حاربناه في الجزائر في كل مناسبة، وحاربناه في فرنسا، وحاربناه في الشرق، حاربناه جماعات وأفرادا، حاربناه منفردین، وحاربناه متحالفين مع غيرنا، في كل مناسبة وجدناها، قضينا في هذه المحاربة والحرب ربع قرن كامل، تحملنا في هذه الحرب، السجون، ودخلنا المعتقلات، وقبلنا الغرامات المالية، ورضينا بغضب الاستعمار علينا، وبما يسومنا به من ظلمه وعسفه.
ولا يخفى على أحد ممن تتبع سير جمعيتكم في الست والعشرين سنة، التي قضيتموها مطالبين بإخراج الحكومة الاستعمارية من المساجد، ومن مَحاريبها، ومنابرها، ومن تدخُّل هذا الاستعمار في قواعد الإسلام، حاربتموه طوال هذه المدة بكل سلاح غير الحديد والنار، فأبى أن يعترف لكم بحقوقكم الدينية، وباستقلالكم في مباشرة إسلامكم ودينكم”.
حاربت جمعية العلماء، وقد استكملت أصول النصر التي حدّها الشيخ العربي التبسي بثلاثة أمور:” فكرةٍ واضحة لا شبهة فيها، وممثلٍ لها صادقٍ لا ريبة عنده، وأمةٍ تُدرك هذه الفكرة وتنزه رجالها عن الدجل والنفاق والخديعة.
هذه الحقائق الثلاثُ تجمّعت في دعوة جمعية العلماء، فدعوتها واضحة، ورجالها صادقون في دعوتهم، مؤمنون بهدفهم، مخلصون لفكرتهم، يعلم هذا منهم كل من حُبب إليه الحق، وزيّن له الإيمان، وحُسّنت في عينه الفضيلة.
فجمعيتكم هذه، كالشجرة الطيبة، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها، باقيةٌ ما بقيت المبادئ الصالحة، وما بقيت لها قواعدها الثلاث، الدعوة إلى الاسلام، والداعي الصادق، والأمة العاقلة”.
رسالة الشيخ العربي التبسي إلى أعضاء الجمعية العامة المقبلة
ثمّ توجّه الشيخ العربي التبسي إلى إخوانه من أعضاء الجمعية العامة في ذلك الشتاء، وكأنّه يريدنا نحن في رسالة أخرى لأعضاء الجمعية العامة السادسة في الشتاء المقبل، فقال رحمه الله: “إخواني، إنكم في نظر شريعتنا الإسلامية وأمتنا العربية، تشغلون من حياة أمتكم ومن ميراثنا الإسلامي وظيفة من يُعد الأجيال الآتية، ويحمل مقدرات شعب تاریخی عربي، ووظيفة من يهدم الأوضاع الفاسدة الباطلة، ويقيم مكانها الأوضاع الصالحة الصحيحة.
وبالتالي إنكم مكلّفون إن كنتم أمناء على وظيفتكم، وأمناء على وراثة نبيكم صلى الله عليه وسلم، بتمثيل ما جاءت به رسالته في عقائدكم، في سلوككم الشخصي، في إظهار تلك الرسالة إلى الناس بمظهرها الحقيقي الصادق الصادع بالحق.
وأنتم أيضا مكلفون بأن تقفوا من أمتكم التي تنظر إليكم نظر المأمومين من إمامهم، تصلح أعمالهم بصلاحكم، وتفسد بفسادكم، وتُؤدَى المهمة الإنسانية الدينية الشعبية على وجهها إذا أخلصتم أنتم في موقفكم، وإذا استوت ظواهركم وبواطنكم، وإذا سارعتم إلى الأعمال الصالحة بأنفسكم قبل أن تطالبوا بها غيركم، فيومئذ يفرح المؤمنون بكم، ويومئذ يشهد لكم الأشهاد الصرحاء بأنكم للإسلام، والعروبة، والجزائر، وللإنسانية، والديمقراطية البريئة من عيوب المستعمرين”.
تلك شروط بقائنا إن رُمنا البقاء، وهذه واجباتنا التي أورثنا إياها الماهدون، وتلك جمعيتهم العامة: علم وعمل، وتضحية وبذل، وتآلف وتوافق، وشجاعة وإقدام، وفي قابل الأيام جمعيتُنا العامة السادسة، تُرى كيف ستكون؟
* رئيس شعبة عنابة