الإخلاص في حياة الدعوة والداعية/ كمال أبو سنة
أخرج النسائي في سننه بإسناد صحيح عن شداد بن الهاد -رضي الله عنه- أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ثم قال: “أهاجر معك”، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزاة غنم النبي صلى الله عليه وسلم فقسم وقسم له أي للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان أي الأعرابي يرعى ظهرهم – أي إبلهم- وما يركبون من دواب، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: “ما هذا؟” قالوا: “قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم”، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “ما هذا؟” قال: (قسمته لك)، قال الأعرابي: “ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن تصدق الله يصدقك)، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم، حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهو هو؟) قالوا: نعم، قال: (صدق الله فصدقه)، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، وكان مما ظهر من صلاته: (اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك).
وقال ابن قتيبة في عيون الأخبار: إن مسلمة (أحد قادة المسلمين) حاصر حصناً، فندب الناس إلى نقب منه فما دخله أحد، فجاء رجل من عرض الجيش فدخله ففتحه ففتح الله عليهم، فنادى مسلمة: “أين صاحب النقب؟” فما جاءه أحد فنادى: “إني قد أمرت الآذِنَ بإدخاله ساعة يأتي فعزمت عليه إلا جاء” فجاء رجل فقال: “استأذن لي على الأمير”.
فقال له :”أنت صاحب النقب؟ قال: “أنا أخبركم عنه”.
فأتى مسلمة فأخبره عنه فأذن له فقال له: “إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسودوا اسمه في صحيفه إلا الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن هو”.
قال: “فذاك له”.
قال: “أنا هو”.
فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: “اللهم اجعلني مع صاحب النقب”.
ولهذا كان الإمام سفيان الثوري رحمه الله يقول: “ما عالجت شيئاً أشدّ عليَّ من نيتي لأنها تتقلب عليَّ في كل حين”.
وكان أيوب السختياني رحمه الله إذا حدَّث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم يشتدُّ عليه البكاء وهو في حلقته، فكان يشدُّ العمامة على عينه ويقول: ما أشدَّ الزكام.. ما أشدَّ الزكام..
وقال أبو حازم رحمه الله: “لا يحسن عبدٌ فيما بينه وبين ربه إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد، ولا يعوِّر ما بينه وبين الله إلا أعور الله ما بينه وبين العباد، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها”.
وهذا داود ابن أبي هند رحمه الله صام أربعين سنة ما علم به أهله، وكان له دكَّان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به، فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به، فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله.
وكان رحمه الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ولم تعلم به زوجته.
إن الذي يفتح جامع صحيح الإمام البخاري رحمه الله سيجد أنه افتتح كتابه بالحديث المشهور الذي يرويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل أمريء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)، إشارة من البخاري رحمه الله إلى أهمية إخلاص النية في الأعمال والأقوال والأحوال.
فما أحوج الدعاة في عصرنا إلى أن يتحسسوا أحوال سلفنا الصالح وأخلاقهم، ويتتبعوا خطاهم في سيرتهم ومسيرتهم، حتى ينجحوا كما نجحوا، ويلقوا الله عز وجل وهو عنهم راض.