قوة الصبر والتربية الإسلامية
أ.د. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب بالمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.
ولد محمد الصالح رمضان في بلدة القنطرة يوم 24 أكتوبر 1914، انتقل في عام 1934 إلى مدينة قسنطينة للاستزادة من التحصيل العلمي، فجالس مجلس الشيخ عبد الحميد بن باديس، ولا يغيب عن دروسه خلال ثلاث سنوات وكان يقيّد كلماته ويدوّن شروحه. وقد تحولت كراريسه فيما بعد إلى الآثار الباقية من دروس ابن باديس في العقيدة التي ضاعت، ولم يبق منها إلا ما دوّنه الطالب محمد الصالح، ثم نشرها بعد الاستقلال لينتفع بها طلاب العلم في كل مكان.
وقد تفطن الشيخ ابن باديس لنبوغ تلميذه وجديته، فقربه إليه ثم كلفه بمساعدته في التدريس، وعينه مندوبا لمجلة «الشهاب» التي كان يصدرها وكلفه بالترويج لها والتعريف بها.
انخرط محمد الصالح في صفوف الكشافة الإسلامية، وأسس فوج الرجاء في مدينة قسنطينة. وقد خلّده الشيخ ابن باديس في قصيدته الشهيرة: يا نشئ أنت رجاؤنا …وشارك في عام 1955 في المهرجان الخامس للشباب والطلاب في فرصوفيا عاصمة بولونيا ممثلا للكشافة الإسلامية الجزائرية. وقد ساعده هذا النشاط والتدريب الميداني فيما بعد عندما التحق بالثورة التحريرية في الولاية الثانية ثم الولاية السادسة.
عمل الشيخ رمضان معلما في مدرسة التربية والتعليم بداية من عام 1937، إلى جانب نخبة من المعلمين أمثال: محمد بن العابد الجلالي، ومحمد الغسيري وعبد الحفيظ الجنان. وأوفدته جمعية العلماء في عام 1943 مع الشيخ نعيم النعيمي لفتح مدرسة حرة في غيليزان، فمكث فيها 3 سنوات مدرسا ومديرا للمدرسة. وفي سنة 1946 عينه رئيس الجمعية الشيخ محمد البشير الإبراهيمي مديرا لدار الحديث بتلمسان فبقي فيها 7 سنوات منقطعا للتدريس وتسيير شؤونها الإدارية. عيّن عضوا في لجنة التعليم العليا ثم مفتشا عاما في سنة 1953 مساعدا للشيخ إبراهيم مزهودي. وبقي الشيخ رمضان متشبعا بروح التربية ومحبا للتعليم، فاستمر بعد الاستقلال في هذا الميدان بعد أن عمل فترة قصيرة في وزارة الشؤون الدينية، ودرّس الأدب العربي في ثانوية حسيبة بن بوعلي بالقبة (الجزائر العاصمة) حتى نال تقاعده في عام 1979.
توفي الشيخ محمد الصالح رمضان يوم 27 أوت 2008 بعد عمر طويل عامر بالأعمال والإنجازات. لقد كان أول من بادر إلى نشر آثار أستاذه الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكان ذلك غداة الاستقلال، فنشرها في 5 كتب، وهي: العقائد الإسلامية (1963)، تفسير ابن باديس (1964)، من هدي النبوة (1966)، رجال السلف ونساؤه (1966)، القصص الهادف (1966). وكتب أيضا مجموعة من المؤلفات في مجالات متنوعة. ففي المسرح ألف «الخنساء»، و«الناشئة المهاجرة» و«المولد النبوي الشريف»، وفي القصة ألف «مغامرات كليب»، وفي الشعر أقرض «ألحان الفتوة»، وفي أدب الرحلة نشر «سوانح وارتسامات عابر سبيل»، و«الذكرى الأدبية لزيارة الفرقة القومية المصرية». وفي اللغة ألف «من فصيح العربية في العامية الجزائرية»، وفي التراجم نشر «شهيد الكلمة رضا حوحو»، وفي الجغرافيا «جغرافية الجزائر والعالم العربي»…الخ.
واشترك مع عدد من الأساتذة والباحثين في تأليف كتاب جماعي: النصوص الأدبية للمعاهد الإسلامية (توفيق شاهين)، إمام الجزائر عبد الحميد بن باديس (مع عبد القادر فضيل)، تحقيق ديوان الأمير عبد القادر (عبد القادر السائحي).
نشر الشيخ محمد الصالح رمضان هذا المقال في جريدة الشعب في يوم 2 جوان 1986. والشعب جريدة يومية تأسست في 11 ديسمبر 1962، وكان الأستاذ محمد الميلي-نجل الشيخ مبارك الميلي- أول مدير لها. ولا تزال هذه الجريدة حية تواكب باستمرار التحوّلات المختلفة التي عايشتها الجزائر منذ استعادة الاستقلال إلى اليوم.
وتداول على إدارتها ورئاسة تحريها العديد من الصحافيين، وساهم بالكتابة في صفحاتها عدد لا يحصى من الإعلاميين والمثقفين الجزائريين والأجانب، بل صارت مدرسة في الصحافة وكانت حقا أمًا لكل الصحف العربية في الجزائر التي صدرت بعدها.
كان ديننا الحنيف مدرسةً في بناء الانسان والارتقاء به حتى يسموَ إلى مرتبة التكريم التي منحها له الله تعالى، ويقدر على أداء المسؤولية التي كلِّف بها، ويوفّق في إنجاز الرسالة التي استخلف فيها.
ولا يتحقق كل هذا إلا بالتحلي بالقيم السامية ومنها قيمة الصبر على كل المعوّقات المادية والمثبطات النفسية. وقد ضرب الأستاذ محمد الصالح رمضان في هذا المقال مثل الصيام الذي فرضه الله في كل عام على المسلم إذ جعله فرصةً للإنسان المؤمن ليختبر نفسه خلال شهر كامل ويعوّدها على التحمل ويدربها على الصبر فينمِّيَ بذلك جوهره ويصفّيَ مظهره.
فبالتربية الاسلامية الصحيحة يتحقق السلوك السليم سواءً كان على المستوى الفردي أو على مستوى الجماعة، وأما المظاهر الغريبة والسلوكات المضرة التي ظهرت في المجتمعات المسلمة فهي دخيلة على تعاليم ديننا الحنيف، وليست لها صلة بالعادات والتقاليد والأعراف الإسلامية.
*** * ** ***
«تعترض حياة الإنسان مصائب ومشاق قد تعوقه أو تعرقله في أعماله، ولهذا لابد أن يستعد لها ويتهيأ بالتمارين على الصبر والتحمل بكل أنواعه الحسية والمعنوية ليصمد للزعازع ويثبت للزلازل والنكبات فلا يتزعزع ولا يتصدّع.
ما أحوجنا أن نتخلق بالصبر والثبات، ونتذرع بالإيمان وقوة الإرادة ونتوكل بعد ذلك على الله نستعينه ونستهديه ونستعيذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فإنه لا عاصم إلا هو، مهما أوتي الفرد من علم وفهم، ومهما يكن له من إرادة قوية وعزيمة صادقة، فإذا استطاع المرء أن يربي نفسه بهذه التعاليم الإسلامية والآداب الدينية لضبط نفسه وقهر شيطانه حصن نفسه وتسلح بما يجب، وقهر النفس والشيطان نصر من الله وانتصار للمؤمن، قال تعالى: «إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم..». وقال رسوله الكريم (ص): «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب»، وقول الشاعر المؤمن: «إنما من يتق الله البطل».
ليس من السهل على الإنسان أن يكون دائما مستقيما في سلوكه، مؤدبا في معاملاته مهذبا في ألفاظه، فلا يؤذي أحدا أو يجرح إحساس أحد، وليس من السهل عليه أن يكون دائما مخلصا نزيها صادقا أمينا، ففي طبيعة نفسه نوازع الشهوة والهوى وفيها الأنانية وحب الذات، وفيها الكبر والغرور، وفيها البخل والجبن والكسل و.. و… الخ.
وفي الحياة التقلب بين النعماء والبأساء، وفيها النزوح عن الأوطان ومفارقة الأهل والإخوان، وفيها الجهاد في سبيل الله، والنضال في سبيل الوطن والدفاع عن النفس، وعن الحرية والكرامة، وفي الحياة كثير من الخطوب والصعوبات فما أحوج الإنسان أن يتسلح بسلاح مراقبة النفس، وعلاجها من كل رجس ودنس والاستعانة بالله عليها، والرجوع إليه والاعتماد عليه في كل شأن من شؤونه الخاصة والعامة.
لذلك فرض الله صوم رمضان، وهو شهر واحد من اثني عشر شهرا، متتابع الأيام ليغرس بهذا التتابع ملكة الصبر والرقابة ثم جعله كل عام ليتكرر الدرس وينمو الغرس، وتسمو النفس. وفي ذلك ما فيه من التربية الإسلامية القيمة التي تعود على المرء بالخير العميم.
وتخلخل العبادة في حياة بعض المسلمين وعدم فاعليتها في توجيه سلوكهم وعدم ظهور أثارها في أعمالهم وتحديد مواقفهم لا يعيب الإسلام كدين، وإنما يعيب المسلم الذي أصبح يؤمن بالرسوم والمراسيم ويتأثر بالمظاهر والشعارات أكثر من إيمانه بتحويل مبادئ الإسلام إلى واقع عملي يرى ويشاهد في حياته، عن طريق أداء العبادات أداءً صحيحاً صالحا يستتبع الالتزام دون الإلزام.
إذا كان الصوم إمساك النفس عن الموبقات مثل إمساك الجسم عن المفطرات، وإذا ثبت لدينا ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». والحديث الآخر «ليس الصيام من الأكل والشرب وإنما الصيام من اللغو والرفث»، وغير ذلك من الآثار والأخبار.
فلنعلم أنه ليس بصائم من لم يكف لسانه عن الولوغ في أعراض الناس، وليس بصائم من لم يكف بصره عن التطلع إلى عورات الناس وحرماتهم، والنظر إلى كل ما حرم الله رؤيته، وليس بصائم من لم يمنع يده من البطش والظلم والسرقة والاختلاس، وليس بصائم من تقوده رجلاه إلى أماكن السوء والدعارة ولو بعد الإفطار.
ومثل هؤلاء من يحابي الظلام ويجامل السفهاء ويعاون المفسدين وكذلك الذي يستغل المصالح العامة لمصلحته الخاصة، ويبذر أموال الدولة في رغباته وشهواته، ويسخر وسائلها وإمكاناتها في منافعه الشخصية والعائلية والذي يستغل منصبه الإداري ومكانته الاجتماعية لأغراضه الخاصة.
كل هذه الطفيليات الطافية في مجتمعنا، والطاغية في بعض أوساطنا تكشف عن سوء تربيتنا الإسلامية».