تقويم النفس وإخراجها من قيود شهوات العجب والكبر/ محمد مكركب
النفس في الإنسان أكبر قضية جعلها الله موطن اختبار، ومصدر فتنة وأعظم مسئولية، بعد وجوب الإخلاص في العبودية لله تعالى؛ حتى إنه عز وجل جعل الفلَاح مرهونا بتزكية النفس، فيكون من الواجب على كل عاقل أن يسأل نفسه هذا السؤال: كيف يقوم الإنسان بتقويم نفسه ويخرجها من قيود شهوات الإهمال والعبثية؟ قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها﴾ [الشمس: 09/ 10].
لا تتوقف بذهنك عند فهوم العامة عن تزكية النفس في داخل الإنسان، وإنما نعني بالبحث هنا، مظاهر سلوك النفس كالأنانية والميول، كنفسية الزوج أمام زوجه كيف ينظر إليها وهي أيضا كيف تنظر إليه، ونفسية المدير أمام موظفيه، ونفسية رئيس المصلحة، والحاكم، والمحكوم، ونفس الجار مع جاره، ونفس العالم (أو الذي نصب نفسه عالما) مع العلماء، فمن الأمراض الثقافية نشوب عداوة بين العلماء، وهذا غريب وعجيب. نعم مسألة غريبة ولكنها حقيقة.
ثم نفسية الأحزاب والمنظمات والمذاهب ومئات العلاقات، عندما تعلم أن سبب المشاكل نفسك التي بين جنبيك، النفس التي سولت لابن آدم أن يقتل أخاه، والنفس التي سولت لإخوة يوسف أن يبعدوا أخاهم عن أبيه، ويلقونه في المهالك، والنفس هي التي سولت للسامري أن يفعل فعلته، والنفس الغارقة في شهوات العجب والكبر بحب الرياسة والمال والشهرة هي التي سولت للخوارج أن يفعلوا فعلتهم القبيحة، فعلتهم الشيطانية، وهي نفسها التي تسول لكل من يحمل السلاح على المسلمين، والسالمين، ويروع الآمنين في أوطانهم.
وأكبر أسباب انحراف النفس، الجهل، والتقليد الأعمى، والمشاحنات، والعصبيات، وحب الرياسة والاستئثار، وقلة الكياسة والإيثار، ومنه التغافل عن مداخل الشيطان، الذي يزين الأعمال ويغر الجاهلين ليوقعهم في الذنوب والحروب والمصائب التي تهدم المجتمعات، مثل ما يقع الآن في هذا العام الهجري 1439هـ في اليمن، والشام، وغيرهما من البلدان، حيث المسلم يقتل أخاه، والمواطن يدمر وطنه بيده وبسلاح ومكائد أعدائه من شياطين الإنس والجن؛ وورد في الأثر هذه الحكمة: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله عز وجل”) أخرجه ابن ماجة، والترمذي). وفي القرآن الكريم التحذير من الشيطان الرجيم.
هل قرأت هذا الدرس العظيم من كتاب الله؟﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ [الأنفال:48].
وهكذا الشيطان يفعل مع مروجي المخدرات، ومع مختلسي أموال الأمة، ومع الحرابيين الذين يفتنون الأمة بجنون غلوهم وتطرفهم وسفاهتهم، ويدمرون أنفسهم وأوطانهم غباوة، وحماقة. كم من جماعات منذ القرن الأول الهجري كانت سببا في إضعاف أوطانها وأمتها، ورسمت على صفحات التاريخ خزيا وفسادا وعارا، مما يتهم به الإسلام والمسلمون إلى الآن بسبب جهلهم وصبيانيتهم؟ ولا يزال التنطع يفعل فعلته في نفوس المارقين في كثير من بلدان الشرق والغرب. قال الله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ . فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ﴾ [الحشر: 16/ 17].
قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر”.
قد تغرُّ نفسٌ صاحبها إذا قيدته بشهوات الدنيا وأحب الرياسة والمال والدلال، وأخذ به العجب والكِبْرُ حتى ولو كان عالما بالمعلومات غير عالم بعلم العلم، فقد أجمع العلماء على أن الأساس الأول في علاج النفس وتزكيتها هو العلم. وأول مرض هو الجهل. ولكن كيف يسقط عالم (حسب الظاهر) في فتنة الحرابة أو خيانة الأمانة مثلا؟ أو يقع سياسيٌّ يكون على مستوى من الثقافة ومع ذلك يقع في خيانة سرقة، أو انحراف أخلاقي، أو التلاعب بمصالح الأمة، ولا يبالي؟
يوجد علماء بالمعلومات، يجتهدون بالمعلومات الفقهية وسائر المعارف حسب تخصصاتهم كما يجتهد الميكانيكي مع المحركات بتقنيات عالية، وقد يكون بلا أخلاق، وبلا عبادة، والذي صنع القنبلة الذرية التي ألقيت على “هيروشيما” كان عالما بالمعلومات، وليس بعلم العلم، والذي أمر بأن تلقى على الأبرياء، والذي قاد الطائرة ونفذ العملية كان مثقفا وربما درس سنوات في مجالس العلم، ولكنه لم يأخذ مرة واحدة في حياته العلم، وإنما تدرب على معلومات كما يُفْعَلُ بـ”الربوات” التي لا روح فيها ولا ضمير. فكذلك علماء المعلومات، وسياسيوا الاستبداد والتسلط.
هل وقفت مرة في حياتك أمام هذا الحديث الشريف وتدبرته حقا، بعض الناس وهم ينتمون للإسلام، عندما يسمع هذا الحديث يمر عليه مر الكرام، وبعضهم يمر عليه مر الأغبياء، قد تقول متسائلا ومن حقك: كيف علمت هذا هل شققت عن قلوبهم؟
والجواب: لا؛ فالله وحده يعلم ما في القلوب. إذن كيف؟
لأن المسمى بالمسلم ويقرأ هذا الحديث، وفي نفس الوقت يعمل بما يناقضه من المنكر وأكثر، فذلك السلوك منه علامة على ما قيل عنه. والله أعلم. آه، نعم، ما هو الحديث؟
عن أبي موسى قال: قلت يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: [من سلم المسلمون من لسانه ويده]. (أخرجه مسلم. كتاب الإيمان. 66) من سلم المسلمون. كل المسلمين والمسلمات. كل من قال: لا إله إلا الله وصلى وزكى، ثم كل مسالم، من لا يحاربك، ولا يعين من يحاربك. ولو لم يكن مسلما، كل هؤلاء لا يصيبهم أذى من أي مسلم. لو كان الأمر هكذا وتفرغ المسلمون للشيطان وأعداء الرحمن، لكانوا منتصرين على مَرِّ الزمان. ولكن المصيبة الكبيرة أن كثيرا من المسلمين يعانون من بعضهم عداوة أقسى من عداوة الشيطان، وضربات أوجع من ضربات الكافرين. ومن يتتبع تاريخ المسلمين يجد من أخبار الفتن والدسائس والقتل والطغيان، والعهدة على المؤرخين نقرأ في التاريخ ما يمزق القلوب من وقع الأخبار السيئة المحزنة. “وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء، من وقع الحسام المهندي”.
وما ضاعت الأندلس بسبب شوكة الكفار، ولا فلسطين احتلت بقوة المحتلين، ولا احتلال كل البلدان العربية التي احتلها الأوروبيون في القرون: 18،19،20 للميلاد، لم يكن بسبب سلاح العدو وعساكره وحيله ومكره، وإنما بنفوس مسلمين في انتمائهم، غير كاملي الإسلام في أخلاقهم، يقتتلون ويسفكون دماء بعضهم، فما صرف الخلفاء والملوك والرؤساء الأموال لحراسة الأوطان وبناء الاقتصاد، والبحوث العلمية أكثر من الأموال التي أنفقوها لحراسة أنفسهم من بعض مواطنيهم، ولقمع الفتن التي تنبت هنا وهناك، حيث لا يعلم من هو المصيب فيها ولا من هو المصيبة على أهلها.
فمتى يصل العالم المعلوماتي بتزكية نفسه إلى مستوى العالم العلمي المتبصر وإلى فهم الحديث الشريف: [المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده].
ومتى يصل الحاكم إلى أن يحيا حياة المواطن العادي، ويكون الأول من يضحي من أجل الوطن، ويعطي للوطن ولا يأخذ لمصلحته الخاصة؟ وعندما يكون العالم يدعو إلى الله تعالى، ولا يقول كلمة في أخيه تغضبه أبدا؟ تزكية النفس عند يصل المعلم والأستاذ إلى عشق الدعوة النبوية يعلم لله وفي سبيل الله لا لدنيا يصيبها، عندما يصل الأستاذ الجامعي إلى مستوى مصعب بن عمير يحمل أمانة الدعوة في تعليم الطلبة ثماني ساعات يوميا. حينها يكون الأستاذ الجامعي أستاذ الأجيال محققا لآمال الأمة، هذا من ثمرات تزكية النفس؛ الأستاذ، والطبيب، والعالم، والقاضي، والحاكم، ما أحوج هؤلاء كلهم إلى تزكية النفس. وخير موعظة كلام الله تعالى. ﴿فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾ [هود: 112/ 113].