معالجات إسلامية

التّحذير من قَتْل النّفْس بغير حقٍّ

د. يوسف جمعة سلامة*/

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ ‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ:‏ ‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏ -‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏ ‏قَالَ: ‏(‏لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى ‏يَكْثُرَ الْهَرْجُ، قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْقَتْلُ الْقَتْلُ).
هذا الحديث حديث صحيح، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط السّاعة، باب إذا تَوَاجه المُسلمان بسيفيهما.
تَتَناقل وسائل الإعلام المُختلفة ما يجري في بعض الدول العربية والإسلامية بين الفَيْنة والأُخرى من أحداث قتلٍ وسفكٍ للدّماء، ونحن هنا لا بُدَّ لنا من وقفة عند هذه الأحداث الغريبة على أُمّتنا العربية والإسلامية.
من الأمور المُؤسفة في هذه الأيام أنّ كرامة الإنسان قدْ دِيستْ، وأنّ الاعتداء على حياته أصبح سهلاً و هيّناً، وهذا كلّه يُخالف تعاليم الإسلام التي تنصّ على الحِلْم والعفو والصّبر وحُرْمة الإنسان المُسلم، فنسمع عن حوادث القتل بين أبناء الشّعب الواحد ، حيث يُقتل الرّجال ويُيَتّم الأطفال، وتُرمّل النساء، و تُخرب البيوت، وتُصاب الأمة بحالة من الذّعر.
ومن المعلوم أَنَّ الإنسان هو سَيِّد هذا الكون، وخليفة الله سبحانه وتعالى في أرضه ، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجدَ له ملائكته، فكلّ ما في الكون مُسَخّر لخدمة الإنسان، وديننا الإسلامي الحنيف يُكَرِّم الإنسان تكريماً عظيماً، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.

حُرْمَة دم المسلم
لقد رسم ديننا الإسلامي الحنيف الخطوط العريضة للمحافظة على سلامة الإنسان وكرامته وعدم الاعتداء عليه وقتله، فالإسلام صَانَ النّفوس، وحافظ على الأرواح والدِّماء والأموال، وحذّر من القتل وعواقبه؛ لأِنّ الإنسان بُنيان الله سبحانه وتعالى، ملعونٌ مَنْ هَدَمَه، فقد حذَّر رسولنا الكريم –صلّى الله عليه وسلّم- من الاعتداء على الإنسان في أحاديث عديدة، منها:
* قوله-صلّى الله عليه وسلّم-: (‏لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِم).
* وقوله-صلّى الله عليه وسلّم-: (‏لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ ‏‏لأَكَبَّهُمُ ‏ ‏اللَّهُ فِي النَّارِ).
* و قوله – صلّى الله عليه وسلّم – أيضاً: (لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ).
لقد سَاءَنَا ما نسمعه أحياناً من أخبار القتل على توافِهِ الأمور بين أبناء الشعب الواحد، خصوصاً في هذه الأيام الصّعبة-التي تُواجه فيها أُمَّتنا العربية والإسلامية أصعب الظروف-، حيث إِنَّ هذا الأمر قد تجاوز كلّ الخطوط الحمراء بين الأخ وأخيه، وبين الجار وجاره.
أين نحن من قوله سبحانه وتعالى: {…أَنَّهُ منْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}.
وأين نحن من قوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لايَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ،)، أي لا يظلمه، ولا يتركه يُظلم وَيُهان دون أَنْ يُقَدِّم له المساعدة.
وأين نحن من قوله – صلّى الله عليه وسلّم-أيضًا: (… فَإِنَّ اللهَ حَرَّم عَليكم دِمَاءَكُمْ ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)، فلزوال الكعبة أهون على الله من إراقة دمِ المسلم، ولا يزال العبدُ في فُسْحَةٍ من دينه ما لم يُصِبْ دماً حراماً.

عقـوبة القتـل العمـد
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: ({وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} أي ومن يُقدم على قتل مُؤمن عالماً بإيمانه مُتَعَمِّداً لقتله فجزاؤه جهنم مُخَلّداً فيها على الدّوام، وهذا محمول عند الجمهور على من استحلّ قتل المؤمن كما قال ابن عباس؛ لأنّه باستحلال القتل يُصبح كافراً، { وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} أي ويناله السّخط الشّديد من الله والطّرد من رحمة الله والعذاب الشّديد في الآخرة).
إذاً أربع عقوبات عظيمة جزاء مَنْ قتل مُؤمنًا مُتعمّدًا بغير حقٍّ، كلّ واحدة منها مُخيفة للقلب مُفْزعة للنّفس: (جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)، وَمَنْ يستطيع أَنْ يصبر على نار جهنم؟!، (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ)، وبئسما حصل لنفسه من غضب الله سبحانه وتعالى عليه، (وَلَعَنَهُ) فطرده من رحمته وأبعده عنها، (وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، وَيْلٌ لقاتل المؤمن المُتعمّد، وَيْلٌ له من هذه العُقوبات العظيمة: النار، وغضب الجبَّار، واللّعنة، والعذاب العظيم، فأيّ قسوةٍ وغلظةٍ انطوت عليها قلوب هؤلاء القتلة؟!
بِمَ يُجيب القاتل يوم يأخذ المقتول بتلابيبه بين يدي ربِّ العالمين؟! يقول: يا ربّ سَلْ هذا لِمَ قتلني؟ ويتَّم أطفالي؟ وخرَّب بيتي؟ وهدم سعادتي؟ وأدخل الحُزن على أهلي؟، فهل نَخَرَ مجتمعنا إلاّ ما في القلوب من غِشٍّ وَسَواد، ولو شغلتنا تقوى الله لكُنَّا أهدى سبيلا وأقومُ قِيلا.
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} إِنَّ المجتمع الإسلامي مجتمع يسوده الحبّ الخالص والودّ والصّفاء والتّعاون والإيثار، لا مكان فيه للأنانية والأحقاد والتّدابُر والتّناحُر.
وَعَدُوُّنا الأوُل الشيطان – لعنه الله وأخزاه وكفَّ عنَّا وعنكم أذاه – يعمل جاهداً لإفساد العلاقة بين المُسلمين، ونشر الحقد والغِلّ والبغضاء بينهم؛ لذلك حذّرنا -عليه الصّلاة والسّلام- منه، بقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ فِي جَزِيْرَةِ العَرَبِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَيَأَسْ مِنَ التَّحْرِيْشِ بَيْنَهُمْ).
إِنَّ عدوَّ الله إبليس – لعنه الله – لا يرضى للمسلم أَنْ يُحبّ أخاه المسلم، فيعمل جاهداً من أجل إفساد العلاقات الأخوية، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}.
لقد حصل مرّة بعد وفاة الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – أَنْ نشأت بين بعض الصّحابة – رضي الله عنهم أجمعين – مُشَادّة كلامية، سُمِع منها ارتفاع الصّوت، فأخرجت أمّ المؤمنين أمّ سلمة – رضي الله عنها– يدها الطاهرة من الحُجرة، وأخذت تقول لهم: إِنّ نبيَّكم يكره التَّفَرُّق ، ثُمّ تلت عليهم قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، وتعني أَنَّ الخِصَام أَسَاسُ الفُرقة، والفُرقة أَسَاسُ البَلاء، ولله درّ القائل:
كُونُوا جَمِيعاً يَا بَنِيَّ إِذَا اعْتَرَى خَطْبٌ وَلا تَتَفَرَّقُـوا أَفْرَادا
تَأْبَى العِصِيُّ إِذَا اجْتَمَعْنَ تَكَسُّرا وَإِذَا افْتَرَقْنَ تَكَسَّرَتْ آحَادا
لقد كرَّس نبيُّنا – صلّى الله عليه وسلّم- كلّ حياته لتأسيسِ مُجتمع مُترابط مُتعاضد سليم، فقد حَثَّ – عليه الصّلاة والسّلام – المسلمين على حبّ بعضهم البعض، كما حثّهم على ترك الغشّ والحقد والبغضاء، فقد رُوِي عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: قال لي رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (‏يَا بُنَيَّ ‏ ‏إِنْ قَدرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لأَحَدٍ فَافْعَلْ، ثُمَّ قَالَ لِي يَا بُنَيَّ: وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ).
فالمجتمع الإسلامي مجتمع مبنيٌ على الأخوّة والمحبَّة والتّعاون، فالمسلم لا يعرف الحقد على أخيه المسلم، بل يحمل في قلبه كلّ وُدٍّ ومحبَّة وإخاء لجميع إخوانه في الدّين والعقيدة، فهم كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
إِنَّ الواجب علينا جميعاً أَنْ نتمسّك بتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، وأن نبتعدَ عن الحقد والغِلّ والحَسَد، وأن نتحابب، فضيق الحال والظروف الصّعبة التي يمرّ بها أبناء أُمّتنا العربية والإسلامية، يجب أن تكون حافزًا للتّعاضُد والتّكافُل والتّحابُب، فالمصائب يجمعن المُصَابينا.
فليكن شعارُنا جميعاً قول رسولنا الأكرم- صلّى الله عليه وسلّم -: ‏(‏‏مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا ‏اشْتَكَى‏ ‏مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).
وصلّى الله على سيّدنا محمد  وعلى آله وأصحابه أجمعين.

* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com