محمد بن عبد الكريم الجزائري الزموري مفكرا وعالما
د. بن سالم الصالح/
نظمت يوم السبت 19 أوت 2023 جمعية شامة للثقافة والسياحة والتراث ندوة فكرية ببلدة زمورة شمال ولاية برج بوعريريج، تحت عنوان: (محمد بن عبد الكريم مفكرا وعالما)، استذكرت فيها سيرة ومسيرة هذا العالم الذي دخل في غياهب النسيان رغم ما قدمه للمكتبة الجزائرية برصيد يفوق 67 كتابا بين تأليف وترجمة وتحقيق في مختلف صنوف العلوم، وتعد جمعية شامة من أبرز الجمعيات النشطة في مجال الثقافة والسياحة ببلدة زمورة بشكل خاص وولاية برج بوعريريج بشكل عام، إذ نشطت في هذا الشأن العشرات من الندوات والملتقيات التاريخية والفكرية منذ نشأتها سنة 2013، وأخذت اسمها من المناضلة والمربية الجزائرية الكبيرة شامة بوفجي (1987-1922).
الندوة احتضنتها مدرسة الشهيد حموش أحمد الزين أو ما يعرف عند أهل زمورة باسم (الكوليج)، والذي يعد من أبرز المواقع الأثرية التي تزخر بها البلدة، وقد عرفت الندوة حضورا مكثفا من داخل وخارج زمورة، وأدار الندوة الفكرية باقتدار الدكتور الطيب سماتي، وتعاقب على منصة المحاضرات كل من: الأستاذ عبد المجيد بن داود، الأستاذ محمد سويسي، الدكتور عبد الغني داود، الدكتور لخضر مذبوح…، وقد شملت هذه المحاضرات مختلف الجوانب في مسيرة الدكتور محمد بن عبد الكريم: الانسان، المفسر، المترجم، الأديب، المؤرخ، المحقق، وسنحاول في هذه الفسحة أن نقدم بطاقة تعريفية عنه لمن لا يعرفه من قبل.
فرش تاريخي عن مسقط الرأس
تعد بلدة زمورة من الحواضر العلمية بالشمال الشرقي لولاية برج بوعريريج، إذ حظيت بذكر العديد من المصادر التاريخية خلال العصرين الوسيط والحديث، على غرار: مرمول كربخال، الحسين الورثيلاني، توماس شو، أندري بايسونال …، وقد عرفت زمورة منذ القدم بمؤسساتها العلمية والدينية العريقة، والمتنوعة بين المساجد والمدارس والزوايا والكتاتيب، نذكر منها: مسجد أولاد داود، مسجد أورير، مسجد أبي حيدوس، مسجد الزروق، مسجد بن فرج، مسجد أوقري، مسجد الحسين الورثيلاني، مسجد أحمد المجذوب، مسجد أولاد عبد الواحد، مسجد المرابطين، مسجد تاسمرت، مسجد بوشيبة، مسجد أولاد مونة، زاوية أولاد البواب، زاوية أبركان، زاوية بوعزيز، زاوية عمر أبي حفص، زاوية القليعة، زاوية بن أقموم…
شهرة هذه المؤسسات هي التي جعلت زمورة قبلة للطلبة والعلماء من مختلف المناطق، كما انعكس إيجابًا على صبية وشباب بلدة زمورة، حيث اعتكف أغلبهم على التفقّه في مختلف العلوم الشرعية واللغوية، هذا التراكم الثقافي والمعرفي لبلدة زمورة، خلق فئة عالمة بالمنطقة ذاعت شهرتها في مختلف الأقطار على غرار: العربي كشاط الجد، العربي كشاط الحفيد، عبد القادر بن داود، علي بوبكر، أحمد بن قدور، عمر أبو حفص، لخضر شروك، عبد الله كالي علي، علي كالي علي، محمد بن عبد الكريم…
المولد والنشأة العلمية
تعود أصول محمد بن عبد الكريم الجزائري لأسرة تركمانية وفدت من الأندلس بعد سقوط غرناطة واستقر بها المقام ببلدة زمورة شمال شرق ولاية برج بوعريريج، وقد عرف محمد بلقب بلخوجة نسبة لجده الذي كان يشتغل خوجة (كاتب) لدى الحامية العسكرية التركية بزمورة، ولد محمد بن عبد الكريم بتاريخ 25 أفريل 1924 ببيت خاله باش عدل برج بوعريريج، قبل أن يعود لبلدة زمورة، لكن سرعان ما تحولت حياته إلى يتم بعدما فقد والديه مبكرا. إذ توفيت والدته وعمره لم يتجاوز الشهرين، ثم لحق والده بالرفيق الأعلى وتركه ابن خمس سنوات، ليتكفل أخواله بتربيته.
وقد بدأ محمد بن عبد الكريم تعليمه بمسجد بن فرج على يد الشيخ العربي كشاط الجد، لينتقل بعدها لمسجد أبي حيدوس حيث تعمق في مختلف العلوم اللغوية والشرعية على يد المشايخ: علي بوبكر، عمر أبو حفص، عبد القادر بن داود، عبد المالك الأخضري، وإلى جانب التعليم القرآني زاول محمد تعليمه بالمدرسة الفرنسية (الكوليج)، فتمكن من أخذ المبادئ الأساسية في اللغة الفرنسية، إلا أن ظروفه الاجتماعية أجبرته على توقيف الدراسة والتوجه لميدان الشغل وهو في سن صغيرة، إذ مارس التجارة وصباغة وبيع الصوف، كما كان يقوم بتعليم الأطفال الصغار مقابل بعض الفرنكات ليعيل بها نفسه.
وعن سبب خروج محمد بن عبد الكريم من بلدة زمورة إلى تونس سنة 1946 يروى بأنه دخل يوما في نقاش فقهي مع بعض مشايخ البلدة، وبعدما أحس بنقص أمامهم قرر أن لا يعود إلى زمورة إلا وهو عالم كبير ملم بمختلف العلوم، حيث قصد تونس وسجل في معهد الصادقية الذي كان ينافس الزيتونة. بل ويتفوق عليه في مجال اللغات الأجنبية، درس خلالها على يد علماء أفاضل، أمثال: الشيخ محمد العابد، الشيخ قريسة، الشيخ الفاضل بن عاشور، وبعد سنتين من التغرب عاد محمد بن عبد الكريم للجزائر، إذ اشتغل معلما في المدرسة الجيلالية ومدرسة التوفيق بالعاصمة، قبل أن يعود إلى بلدته زمورة، اعتكف خلالها على تدريس العلوم اللغوية والشرعية.
انخراطه في الثورة التحريرية
بعد اندلاع الثورة التحريرية وشروع فرنسا في عملية تصفية النخب المثقفة المتعاطفة مع الثورة بالجزائر قرر محمد بن عبد الكريم الهجرة إلى فرنسا سنة 1956، واستقر به المقام بمدينة ليون قبل أن ينتقل للعاصمة باريس، وقد تم الاتصال به من قبل فيدرالية جبهة التحرير الوطني بالمهجر، إذ سخر محمد بن عبد الكريم قلمه للثورة التحريرية في شكل قصائد شعرية ومقالات، وهو ما جعل المخابرات الفرنسية تضعه تحت الرقابة، وبتاريخ 11 فيفري 1959 تعرضت شقته في الفندق لاقتحام من قبل الشرطة الفرنسية، وتم اقتياده لغرفة التحقيق، كما صودرت جميع كتبه ووثائقه المخطوطة وتم حرقها، وتم الزج به في السجن تعرض خلالها للتعذيب لمدة أربع أشهر، وبعد تدهور حالته الصحية تم نقله لمستشفى السجن الذي مكث به ما يقارب سنة ونصف، هذه الحالة المزرية جعلته يراسل وزير الداخلية الفرنسية ويشرح له وضعيته المأساوية داخل السجن، وبعد هذه المراسلات أمر وزير الداخلية باطلاق سراحه.
مشواره المهني بعد الاستقلال
عاد محمد بن عبد الكريم بعد الاستقلال لبلدته زمورة، ولإعالة أسرته الصغيرة قرر أن ينخرط في سلك التعليم، إذ اشتغل في عديد المؤسسات التربوية: (متوسطة بلكور، مدرسة أشبال الثورة بالقليعة، ثانوية النخيل بوهران، ثانوية حسيبة بن بوعلي بالقبة، مدرسة البنات بالخروبة، الثانوية التقنية بالعناصر)، وعلى اثر مشاكل وقعت له مع بعض المدراء قرر محمد بن عبد الكريم اعتزال سلك التدريس والتحول لمجال الوثائق والمخطوطات، إذ تم تعيينه بمصلحة الوثائق الوطنية بمدينة الجزائر قبل أن ينتقل إلى قسم المخطوطات بالمكتبة الوطنية إلى جانب رابح بونار، هذه الخطوة غيرت من حياته، إذ قرر الاعتكاف على تحقيق المخطوطات الموجودة بالمكتبة الوطنية.
وخلال هذه الفترة استفاد من منحة إلى دولة تركيا سنة 1968م في مجال الوثائق والمخطوطات استغلها في تعلم اللغة التركية، وأثناء تواجده بالمكتبة الوطنية قرر محمد بن عبد الكريم أن يستكمل دراسته بجامعة الجزائر، حيث حصل على شهادة الدراسات المعمقة في التاريخ الحديث سنة 1969م، قام خلالها بتحقيق مخطوط التحفة المرضية في الدولة البكداشية لمحمد بن ميمون الجزائري تحت اشراف الدكتور مولاي بلحميسي، كما سجل في معهد الدراسات العربية، وحاز منه على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي سنة 1972م، تناول خلالها موضوع المقري وكتابه نفح الطيب.
وبحكم أن الدكتور محمد بن عبد الكريم كان جريء المواقف دخل في مشاكل متعددة مع النخب الأكاديمية والسياسية، وهو ما جعله عرضة لمختلف العراقيل التي منعته من التدريس بالجامعة رغم حيازته لشهادة الدكتوراه، وبعد توقيفه عن العمل بالمكتبة الوطنية قرر الدكتور محمد بن عبد الكريم الانتقال للجمهورية الليبية بعدما وصله عرض مغري من قبل جمعية الدعوة الإسلامية الليبية ليشتغل ممثلا لها في باريس سنة 1978م، وقد زار خلالها عديد الدول الأوروبية والإفريقية، وتعد هذه الفترة من أخصب فترات الدكتور محمد بن عبد الكريم من حيث الإنتاج العلمي.
منجزه العلمي
يعد محمد بن عبد الكريم من الباحثين الذين تميزوا بانتاجهم العلمي الوفير، إذ وصلت أعماله إلى 67 كتابا بين تأليف وترجمة وتحقيق، في مختلف صنوف العلوم: التاريخ، الأدب، الشريعة، التراجم، التصوف، فعلى مستوى الترجمة قام محمد بن عبد الكريم بتعريب: مذكرات حمدان خوجة، كتاب المرآة لحمدان خوجة، محاضرات القرآن والعلوم الحديثة لموريس بوكاي.
أما التحقيق فيعد محمد بن عبد الكريم عميد المحققين الجزائريين بلا منازع، إذ قام بتحقيق حوالي 18 مخطوط من التراث الجزائري، تتمثل في: بدائع السلك في طبائع الملك لمحمد بن الأزرق الأندلسي، الغنية للقاضي عياض، مقدمة في صناعة الشعر والنثر لمحمد بن الخوجة الجزائري، الاكتراث في حقوق الإناث لمحمد بن الخوجة الجزائري، رسالة الإمام مالك بن أنس إلى الخليفة هارون الرشيد، إتحاف المنصفين والأدباء لحمدان خوجة، حكمة العارف بوجه ينفع لمسألة ليس في الإمكان أبدع مما كان لحمدان خوجة، المرآة لحمدان خوجة، وشاح الكتائب لقدور بن رويلة، التحفة المرضية في الدولة البكداشية لمحمد بن ميمون الجزائري، رحلة أحمد باي، رحلة محمد الكبير باي وهران لأحمد ابن هطال التلمساني، بهجة الناظر لعبد القادر المشرفي، القول الأوسط فيما حل بالمغرب الأوسط لأحمد الشقراني، فتح الاله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته لمحمد أبي راس الناصري، السعي المحمود في نظام الجنود لمحمد بن محمود العنابي، ثلاث رسائل جزائرية في حكم الهجرة لأحمد الونشريسي والأمير عبد القادر ومحمد بن الشاهد، الكواكب العرفانية والشوارق الأنسيةـ للحسين الورثيلاني.
وعلى مستوى التأليف ترك الدكتور محمد بن عبد الكريم العشرات من المصنفات بين مطبوع ومخطوط، على غرار: المقري وكتابه نفح الطيب، الثقافة ومآسي رجالها، مأساة كتاب في تاريخ الكتاب، حياة حمدان بن عثمان خوجة ومذكراته، عبد الرحمن الثعالبي وضريحه، مدينة وهران، التصوف في ميزان الإسلام، الدعوة الإسلامية والاستعمار والتبشير والصهيونية، مخطوطات جزائرية في مكتبات إستانبول، الهجرة من الأقطار الإسلامية إلى الأقطار الإفرنجية في ميزان الإسلام، لغة كل أمة روح ثقافتها، كشف الستار (ديوان شعر)، فضائح تكشفها فخاخ الديمقراطية في الجزائر، الإرهاب والأصولية بين الأصالة والابتداع، تبديل الجنسية ردة وخيانة، مذكرة القضاء، واقع الإسلام والمسلمين بين الردة السياسية والرعاية الشرعية في معيار الإسلام، تصويب أخطاء المجلس الإسلامي الأوروبي، الحكم الشرعي لرؤية الهلال بالأبصار وإبطال نظريات الحساب الفلكي في الصوم والإفطار، الدين الإسلامي عقيدة وشريعة، عباد الرحمن في سورة الفرقان، الربا في ميزان الإسلام، الطهارة في ميزان الإسلام، الصلاة في ميزان الإسلام، الشورى في ميزان الإسلام، الجهاد في ميزان الإسلام، الإسلام ثقافة واجتهاد وليس بتقليد أعمى، مقدمة في علوم القرآن وعلوم التفسير، الحكم الشرعي لزواج المسلم بغير المسلمة وزواج المسلمة بغير المسلم، الزكاة في ميزان الإسلام، دور المسجد في الإسلام، الإسراء والمعراج، مساجد الضرار من جديد، تفسير القرآن الكريم من 7 أجزاء، قبس من مولد محمد بن عبد الله وعيسى بن مريم عليهما السلام، استخراج العبر والأحكام من حياة محمد عليه الصلاة والسلام …
وفاته
بعد غربة عن الوطن دامت لأكثر من عقدين قرر الدكتور محمد عبد الكريم العودة للجزائر سنة 1999م، واستقر به المقام في مدينة سطيف متفرغا للمطالعة والتأليف، وبعد معاناة مع مرض الربو توفي رحمه الله يوم الجمعة 9 نوفمبر 2012م عن عمر يناهز 88 سنة.