الواقعية الوسطية وأثرها على السلوك الإنساني
بلخيري محمد الناصر/
منطق الحياة يدفعنا لاعتناق الحكمة، والعمل بمكنوناتها وجواهرها لأنها ضالة المؤمن الصالح، الذي يعمل لدنياه دون إسراف ويسعى جاهدا لتحصين آخرته، دون تخاذل ولا تقصير، فالواقعية البسيطة التي تخلو من المساحيق، هي التوازن الحضاري بجميع مكوناته ولب السعادة ونشوتها، التي تغطي جوانحها الدنيا والآخرة، والقاسم المشترك بين التواصل الفكري والزهد، المساعدان على التقدم بثبات نحو مستقبل ناجح يربط الأجيال ببعضها، ويخلق تواصلا أخلاقيا حقيقيا لنهضة علمية متفتحة، لذلك فالواقعية الوسطية حتى في أعتى الخصومات وأشدها ضراوة تخدم المصلحة العامة وتراعي مصلحة الفرد والمجتمع.
عندما نتعود على الواقعية المجردة من التوهج الدنيوي وملذاته، البعيدة عن التنميق المصلحي والسفاسف المتبرجة ذات الأبعاد المبهمة التي لا أغوار لها، ندرك يقينا أن ملذات الحياة وكمالياتها لا نفع لها في مسيرتنا نحو التقلص الحتمي الذي نهايته قبر، يكون محطة عبور إلى محاكمة فاصلة، عندها نعي أن الحياة لا معنى لها إن نحن عشناها في البحث عن بهجة زائلة وأسوار عالية وملذات كاذبة وجولات فاسدة ونقاشات جوفاء تتخللها هادمات الحسنات، فاعتدال المسار الحياتي الذي لا غلو فيه ولا تقتير، يعتبر من مسالك الحكماء الصالحين، فهو راحة نفسية وجسدية، فالتخمة المادية نافذة على وساوس الشياطين، ودفع إلى الحياد عن الصواب.
يقول أبو العتاهية
رغيفُ خبز يابسٍ تأكله في زاويه
وكوز ماء بارد تشربه من صافيه
وغرفة خالية نفسك فيها راضيه
ومصحف تدرسه مستنداً لساريه
خير من السكنى بظلات القصور العاليه
من بعد هذا كله تُصلى بنار حاميه!
أنا لا أتكلم عن حركة الواقعية البرجوازية بنظرة أدبية نشأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا، وتعنى الواقعية بتصوير الأشياء والعلاقات، بصورة واضحة كما هي عليه في العالم الحقيقي الواقعي… وبتصوير الجوهر الداخلي للأشياء، وليس الجنوح إلى الفانتازيا أو الرومانسية.
أنا أتكلم عن الواقعية الوسطية الدينية بمفهوم عقائدي ذي الأبعاد المستمدة من الدين الإسلامي الحنيف، واقعية الحكمة التي تقول أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه :(إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَساءَ، وخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لمَرَضِكَ، ومِنْ حياتِك لِمَوتِكَ».
الواقعية المسايرة للحكمة الملهمة التي تنير دربك وتعلمك كيف تكون في هذه الحياة الفانية لبيبا يعرف ما له وما عليه، لتتحصن من كل التأثيرات السلبية التي حولك مهما كان نوعها وبالتالي تستطيع أن تدخر ما ينفعك ليوم تشخص فيه الأبصار، الواقعية التي ترفعك للترفع عن الدنايا الحقيرة والتسامي عن الأمور التافهة وتجعلك ذا نظرة ثاقبة تقرأ ما بين السطور وتميز بين حواف الكلمات الجارحة والمهذبة، فلا تقع في شتاتها فتتيه بين المتناقضات.
في بعض الأحيان قد تصادف شخصا يقال عنه أنه من ركائز المجتمع، ولكن عند مخالطته والحديث معه في جولات تدرك أنه مريض نفسيا، وأن نفسه مظلمة عشش فيها الحقد الدفين والكراهية العنصرية النتنة، وأنه رسم لنفسه في هذه الحياة منهجا لتصيد عثرات الخلق وكسر خواطرهم والسعي بين الخلائق بما لا يرضي الله، لذلك فالواقعية الوسطية فلسفة صالحة لكل زمان ومكان، وفكر يدفعنا لرسم منهج قويم يكون لبنة في بناء الفرد وترقية المجتمع، وترشيد الاستهلاك والحفاظ على توازن اقتصادي واجتماعي وبيئي.