حوار

الشيخ الداعية عثمـان أمُقران في حوار صريح مع جريدة “البصائر” (الجزء 2): لا يمكن إنكار جهود الدعاة الذين كان لهم، بعد الله تعالى، فضل في غراس الخير

وقائع التاريخ تشهد أن أبناء الجمعية هم طليعة الثورة التحريرية المباركة

حاوره: أ. حسن خليفة/

نستكمل هاهنا في السطور التالية حوارنا مع الأستاذ الشيخ الداعية عثمان أمقران . وفي هذا الجزء نسأله في مسائل متعددة ذات صلة بالعمل الدعوي الإصلاحي، وبالخطاب الديني ـ الإسلامي ..وإلى الجزء الثاني من الحوار:

هل يَرى الشّيخ عُثمان أن الخِطابَ الإسْلاميّ الدَّعَويّ يَشْفِي الغليل ويُرْوي الظّمَأَ الرُّوحيّ والـمَعْرفيّ والعاطِفيّ والشَّرعيّ في الـمُجتمَع الجزائري؟! مَا هِيَ نَقَائِصُهُ ومَعَايِبُه على وَجْه التّحْديد في رأيِهِ ؟!!
–  لا أَدَّعي أنّني سَمِعْتُ كلَّ دُعاة الجزائر وَأَئمّتِهمْ فلاَ ينْبغي لي إذًا أنْ أعَمِّمَ ما انْطبَعَ في نَفْسي ووَعَاهُ ذِهْني بعْد الذي تَابعْتُهُ من الخُطب في بُيُوتِ الله وَمِن الـمُحاضَرات في الجَامِعات والـمُلتقَيات مُنذ أزْيَدَ مِنْ خَمسَةِ عُقُود.
إن الخطابَ الإسْلاَميّ الدَّعوي -كما تَقُولُ في سؤالك الوَجيهِ –الذّي اقتنعْتُ أنّه كان شَافيًا لِكُل عَليل وَمُرْوِيًا لكل غَليل إنما هو ما كان في ملتقياتِ الفِكْر الإسْلاميّ التي نَظّمتْها وَزارة الشؤون الدّينيَّة في العَقْدَيْن السَّبْعِينيّ والثّمانينيّ من القَرْن الـمَاضي. فقد جَمَعَتْ خيرةَ عُلَماءِ الأمّة مِنْ مُخْتلفِ الأصْقاع في ديَار الإسْلام وَغَيْرها، رحِم الله مَن لَحِقَ منْهُم بربّ العَالَمين وَحَفِظ مَنْ لا يَزالُ حيًّا يَنتظِرُ أجَلَهُ ثَابِتًا على الدّين الحقّ لاَ يَشْتَري به ثَمَنًا قلِيلاً.
فهُم الّذين صَنَعُوا الصّحْوة الإسْلاميَّة الـمُعَاصرة مَعَ مَنْ سَبَقَهُم من عُلمائِنَا نَحْنُ في الجزائر مِنْ رجال جَمْعية العُلماء الـمُسلمينَ الجزائرييّن، وَغَنِيٌّ عن البيان ما كان لِشُيوخ هذه الجمْعيَّة الرَّبَّانيّة منْ آثار عميقة في فكْر ووجْدان الجيل الّذي فَجَّرَ الثَّوْرة الأخيرَة على الـمُستكبِر الفَرنسيّ فتَوّجَها الله بالنصْر الـمُؤزّر عَلى قُواهُ الباغية وقوَى الحِلْفِ الأطلنْطيّ مِنْ وَرَائِه حتى سَمِعْنا وَزيرَ دِفاع de Gaulle يَقُول لبْرْلَمَانيّي فرنْسا الـمُجْرمة (إنّ الذي هزم فَرنْسا في الجزائر إنَّما هُو القُرْآنُ).
وإنَّ ورَاء هذا التَّصْرِيح التّاريخيّ بِفَم قَائِدِ عسَاكِر آلْعُتُوِّ الفَرنسيّ مَا وَرَاءَهُ من الاِعتراف بأنّ علمَاءَنا الأَشَاوِس– كَابنِ باديس والبشير الإبْراهيمي والعرْبي التّبسيّ والـمُبارك المِيليّ والفُضيل الورْتِلاَنيّ- هُم الّذين صَنعُوا بالمصْحَف الشّريف وبِمَنْهجِ النّبُوة الخَاتِمة للِرّسالات أولئك الرّجال، ودَفَعُوا بهم إلى سَاحَات الوَغَى في شَوْقٍ عَارِم إلى لِقاءِ الحيّ الذي لاَ يَمُوتُ ذَبًّا عن حُرمة الدّين وَاسْتِنْقَاذًا لِهذا البلد الـمُسلم مِنْ أغْلال دولةٍ مُستَكْبِرة جَاءتُ تزعُم أنّها تَحْمِل الحضارة والعُلوم إلى شَعْبِه فَعَبَثَتْ بِمُقَدَّراتِه ومُقَدّسَاتِه.
والتّاريخُ يَشْهَدُ أنَّ أَشْهَر مُفجّري الثورة الـمُباركة كانُوا منْ شُعَبِ جمعيّة العلماء وَمنْ مَدارسِها ومن مدارسِ الكثيرِ منَ الزَّوايَا التي ظلّتْ وَفيَّة لِرَائدهَا جَميعًا ومُؤسس الدّوْلة الجزائريّة الحَديثة (الأمير عبْد القادر رحِمهُ الله) فقد كان القرآن العظيم نسِيجَهُم الفكريّ وَالوجْدانيّ جميعًا نَهَلُوا منه وَمِن يَنَابِيع الهَدْي النَّبويّ الرّاشد حدَّثَني بهذا الشيخان حَمّاني وشيبان رَحمَهما الله.
وَدَعكَ مِن الّذين نَاصبُوا خِيرَةَ عُلمائنا في الجَمعيَّة العِدَاءَ لِزَيْغهِمْ عن نَهْج الزَّوايا السُّنيّة السَّنِيَّة السَّالكة مَسْلَك العُلماء الحلماء الذين هم بِشَريعَة الرّحمان بُصَرَاء، وَلاَ تُلْقِ بَالاً للّذين لا ينْفكُّون يُردّدون أن الثّورة لا صلة بِهم (ومنْ لَهُ بإخفاءِ شَمسٍ ضَوْؤُها مُتكامِلُ) ولا إخالهُم إلاّ ممّن يرفُضُون تدْيين السّياسة بِعامّة.
والذي حَدا بي إلى تَقْرِير هذه الحقائق التّاريخيّة كلّها قَبْلَ الحَديث عن الخِطاب الإسْلاَميّ الدّعويّ الحَديث في الجزائر هُوَ حرْصي عَلَى سَوْق النُّمُوذجِ البَلاغيّ الذي يَجبُ احْتِذَاؤُه في الخطاب الدّيني الـمُعاصر لدَيْنا ولدَى غيْرنَا من الدُّعاة الـمُسلمينَ في ديَار الإسْلاَم.
إنّهُ الخِطَابُ الذي يُحّرِك مَكامِنَ الإيمان الحقّ في القُلوب فَتَصْلُح به أعمالُها ولِلقُلُوب أعْمَال كالجَوارح تمامًا، فالإيمان ليْسَ كَلِمَةً تُقَال بِاللّسان مُجرّدة من مُسْتَلْزَماتِها العَمَليّة ومَقْطُوعةٌ عن مَقاصِدِهَا وبَواعثِها الإيمانيّة.
وَيَكون ذلك بحَشْد البَيَانات الـمُضيئة للْعقُول والـمُحرّكة لِلْمشَاعر منَ القُرآن العظيم والسّنّة الصّريحة الصّحيحة مُعَزَّزةً بفُصُول حيَّة مِنْ سيرة خَيْر البَرية ومن جهَاد صَحَابتِهِ خَيْر هذه الأمّة بَلْ خَيْرِ أمّةٍ أُخرجت للنّاس لِتَبْليغ البَلاغ الإلهيّ فَهَدَى الله بِهم أمَمًا وَشُعُوبًا إلى التي هِيَ أقُوم وَبنَوْا لِلْبشَريّة أعْظَم حَضَارة على الإطلاق رَبَطت الإنْسَان بخَالِقِه الواحد الدّيّان وجَعَلَتْهُ يُبْدِعُ في العُلوم بكلّ مَجَالِيهَا وَمَجَالاَتِها وَيُزيّنُ الحَياة بِقيَم الّدين وَأخْلاَقِهِ وَفضَائِلهِ وَمَا لدى الغَرْب اليَوْم من فُتُوحات علْميّة في العُلُوم الطبِيعيّة والماديّة والتّجْريبيّة إنّما كَانَ قَبَسًا مِنْ أنْوَارِ تِلْك الحَضارة الفَارعَة التي أصْلَحَ الدّينُ الحقّ بِهَا دُنْيا النَّاسِ.
إن الخِطابَ الدّعَويّ عِنْدَنَا أحْوَجُ ما يَكُونُ إلى ذلك النَّهْج العُلَمائِيّ الرّصَين وَالرَّكين الّذي يُنير ولا يُثير، يُنَبّهُ العُقُول إلَى خُطورة الأَمَانَة الّتِي حَمّلَهَا الله الإنْسانَ في كلّ زمانٍ ومكان وهِيَ أن يقُودَ دُنْياهُ بِديِنه أيْ بأحْكامِ شَريعَة الله بَعيدًا منْ ظواهر الشِّرْك وَمظاهِرهِ يَبْغِي إعْلاَءَ كَلمةِ الله وَحْدَهَا في كُلّ شَأنٍ من شؤون الحياة وَلاَ يَنيَ سَاعيًا إلى إصْلاح القُلُوبَ وتَطهيرهَا مِنْ عِلَلِها وَمِنْ حُبِّ الشَّهَواتِ وَإيثارِهَا عَلى مَا عِنْدَ الله لِمَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصدَّقَ بالحُسْنَى.
وهذا لا ينهَضُ به إلا مجْمُوع العُلماءُ متَآزِرينَ مُتنَاصِرينَ لَهُم مَنْهجٌ في الإصْلاحَ وفي إعادة بنَاء الإنْسان مُحَدَّدُ المَعَالِم ومَضْبُوطُ الـمَراحِل وَبِالتَّعَاوُن الوَثيق مَعَ دَوائر الدَّولة الـمُهْتَمّة بِالتَّعليمَ بِكُلّ مَراحِلِهُ وبالتّربيَة وَبِكُلّ ما يَمَسُّ شُؤُونَ الـمُواطَن مِنْ قَريب وَمنْ بَعيد مِن اقْتصادٍ وَثَقاَفةٍ وإعْلاَم، فالدّينُ الإسْلامِيّ يَقُومُ على إصْلاحِ البَاطِن والظَاهر على السَّواءِ وذلك بِالتَّوْحيد لِلْواحِدِ الأحَد.
(ففي التّوْحيد لِلْهِمَم اتّحادٌ   وَلَنْ تَبْنُوا العُلاَ مُتفِرّقينَا)
وَبِتَسْديد الفكْر وَجَعْل هِدَايَات القُرآن ونَوَاميسهِ الكوْنيَّة والإنسانيّة والتّاريخيّة تُشّكّلُهُ ذلك التّشْكيل الذي يُبصِّرُهُ بِفَساد أفْكار عَبيد مُضِلاّت الهَوَى وشَهَواتِ الغَيّ في الغَربِ والشّرق على السَّواء وَمَالَهَا منْ آثَار مُدَمِّرةِ للِقيَم وَللأخلاق الإنْسانيّة فَغَدَا لِقَانُون (حقّ القُوّة لاَ قُوة الحقّ) القِدْحُ الـمُعَلَّى.
إنّ الخِطابَ الإسْلاميّ الدَّعوي الذي لا يَبْلُغُ إلَى هذِهِ الآفاق السَّوامِق يَبْقَى خِطَابًا قَاصِرًا لن يَشْفِيَ عَليلاً ولَنْ يُرويَ ظامئا ولَنْ يَهدِي من ضلال ولن يُعلِّمَ من جَهَالة ولن يُوحِّد صَفًّا… ولَنْ يَصُون إيمانًا ولنْ يبْنِيَ مَجْدًا فَكَلِمة الدّين الحقّ الذي يجْمَعُ ولا يُفرّقُ وَيَبْني وَلاَ يَهْدِمُ هِي التي يَنْبَغي أنْ تَعْلُوَ على كل أيْديُولوجيّات وفكريّات البَشر الفانين لأنّها كلمة الله (وكلمة الله هي العُليا) … وَلا ضَيْرَ – أبَدًا- في الانفتاح على الصّائِب منَ الأفْكار وَالسَّديد من الـمَنَاهِج الرّشيدة من الموَاقف لَدَى الغَيْر وَإنْ كانَ كَافرا، على أنّهُ لا يَجُوزُ –الْبَتَّةَ- الرِّضَا بِالدَّنيّة في الدّين وَمُهَادَنَةُ الفكْرِ الصّليبيّ الـمُتَصَهْيِن والدّخُولُ مَعَهُ في تَحَالُفاتٍ هي عَيْنُ الخِيَانة لِله ولِرسُوله وَلِلْمُؤمِنين.

كيف يَنْظُر الشيخ عُثمان إلى جمعية العُلماء المسلمين الجزائريين وهُو مِمّن صَاحَبُوا مُؤَسّسيها الأوّلينَ في بِداية هذا القرن وَفي طَليعَتِهم الشَيخَان حمّائي وعبْد الرّحمن شبيبانَ رَحِمَهُما الله؟.
– جمعيّةُ العُلماء المسلمين الجزائريين الحاليّة اِمتدادٌ– بلا شكّ- لرَعيلِها الأوّل الرّاشِد الماجد وقد كُنتُ صاحبَ رئيسِها الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله، الذي أكرمني – بعد أن قدّر مُسْتَوى كِتاباتي لِجريدة (البصائر) وَأحَلَّ ما قَدّمتُ لَهَا من مُقتَطفَات من تَفْسيري للقرآن العظيم مَحَلَّ الإكًبار، وبعد أنْ لَمِسَ آثَار نشاطي الدّعويّ في كلّ ولايات الوطنَ وَمنْها إنْشائي للجمْعيّة ثمَانيًا وعشرينَ شُعْبةً – أكرَمني بتَعْييني مُرٌاقبًا وَطنيّا عامًّا لهَا ولمْ أكُنْ قَد طَلبْتُ منْه ذلك وما أنَا مِنْ طلاّب المناصب لِيَعْلوَ ذكري في الناس فقد رَفَضْتُ تَقلُّدَ منْصب وزير الشّؤون الدّينية عام 1992 بعْد أن رَشَّحَني لهُ رجال الدولة الكبار أيَّا مَذَاك.
وظَلِلْتُ أنْشَطُ في طول البلاد وَعرْضها دَاعيًا إلى الله وذَابًّا عن فِكر الجمْعيّة ونَهْجِهَا التّجْديديّ الإصْلاحيّ إلى أنْ أُبْعِدتُّ وأعْلنْتُ اسْتقَالتي في بعض الصُّحُف اليومية تحت شِعَار “إلى دَيَّانِ يوْم الدِّين نَمْضِي”.
ولكنّني بقيتُ وفيًّا لرعيلنا العُلَمَائيّ الأول أُدَافِعُ عن تُرَاثِهِ دِفَاعًا مُسْتميتًا – كتَابةً وخَطابةً- وقَدْ ألّفْتُ مَجمُوعة مِن الكُتُب عن رِجَالاتِه الأبْرَزين وَصددتُّ عَنْهُم حَمَلاتِ التّشْويهِ وتَحْريف كلمِهِمْ عنْ مَواضعِهُ بل فَعلْتُ هذَا أمام بعْض رجال الأزهر في مصْر وفي غَيْرها منْ أوْطان الإسْلام وكنتُ قَدَّمتُ نَفْسي في غزّة بالذّات على أنني اِبنُ جمعية العلماء، وقوبلَتْ خُطَبِي هناك وَمُحَاضراتي بالثّناء والقَبول الحسَن على ألْسِنة الخاصّ والعام ولله الحمد.
إن الجمعية الحاليّة تَضُمُّ بلا شكٍّ عُلماءَ مشْهُودًا لهم بالعلم في مختلف التّخصُّصات ولهُم أيادٍ بَيْضَاء عَلَى الدّعوة وظلّوا – سنين طِوالاً – أوفياء للفكر الإسلامي النّقيّ من أدْناس العلْمَنة وَقد تبَدَّى وَفاؤهم هذا لهُ فيما دَبَّجَتْه يَرَاعاتُهم منْ صَحائِفَ وتَصَانيفَ.
وَجُلُّهم منْ جيلي سبْعُونيّين مِثلي أو ثمَانِينيّينَ مَازالوا بروح الشّباب والفُتُوّة قائمين- في يَقَظَةٍ رُوحِيةٍ وفكرية– يعلّمُون ويربُّون الجيل الذي نَشأ في عَهْد الحرية والاستقلال من خلال المدارس والمُنتديات العلمية والاعلام، وَمعَهُم عُلَماء كُهُول يَشُدُّون أزرَهُم وَتَتَعيَّن الحفاوةُ بهم والعهْدِ بالأمانة إليهم من بَعْدهم.
وجريدةُ (البصائر) ما زالتْ تَشُقّ طريقها – وإنْ بصُعُوبة – لتعُمَّ أصقاع الوطن كافة، وموقِعُها في مِنّصَّات التَّواصُل بحاجة ماسّة إلى مَزيد التّمديد لتَكُونَ نِسْبة الـمُتابعة العَالميّة أرْقَى وَأَعْلَى، وأقلامُ من يكتب فيها مدُعوّة إلى أنْ تأخُذَ أخْذًا جَادًّا بِأهْدابِ البيان العربيّ النّاصع كما كان حَالُ عُلماء الرّعيل الأوّل.
ولقَدْ عَجِبْتُ – عِنْد آنخِلاعي عنْها عام 2011 – ومَالي لا أعْجَب كيفَ أنّ الجريدة ظلَّت تَنْشُر – أمدًا غَيْر قليل- لِلشّيخ الطّاهر بَن عَاشُور صَاحب (التَّحرير والتّنْوير) سِلسِلة من تفسيره وَلَمْ تفْعَل ذَلك مع (مجالس التَّذكير) للشيْخ الجليل ابنْ باديس، وتفسيرُه أولى بالعناية مع تَقْديري لتفسير «ابن عاشور» علاّمة تُونس الفذّ.
وَلي عَلَى نَهْجها الحالي في التّعامُل مع الواقع الوطنيّ الشّاخِص مَلاَحِظُ أفضّل أن أضْرب عنْها صَفْحًا وهذا من حقّي مَا دُمْتُ أُحِبُّ رَعيلَها الأوّل حبًّا جمّا وأنا أعلم أنّ ملابسات نَشاطه في النّصف الأوّل من القرن الـمُولّي في مَقرّ لا يليق بمقام جمعية هي – بلا منازع- رُوحُ هذه الأمة وفكرُها النّيِّر غَيرُ مُلابسات نشاط أبْنَائه في الثّلاثين سنة الـمُنْصرمة ولا أنكر أنّها ما زالتُ تُعانِي من التّهميش الفاضح وهي الآن تعمل في مقرٍّ لا يَليقُ.
والأمْرُ يَحتَاجُ إلى السَّعْي – دوْمًا- لنَقْد الذات ولجمع الكفاءات العلميّة الراقية في علوم الشريعة وعلوم الطبيعة والعُلوم التّجريبية ممّن عُلِمَ عنها صدقُ إسلامها وصحّة تَوْحِيدها وإيمانُها بلقاء الآخرة، وربط الاتصال بها يسْتَتْبعُ مَدَّ جُسُور التّواصل مع حَمَلة أعْباء التّوجيه التربويّ والتعليميّ والإِعلاميّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ في دواليب الدَّولة لتوكيد حضور الجَمْعية في كلّ صعيد وتَرْسيخ حضُورها في المشهد الوطنيّ بالخُصوص ولكن بمنْأًى عن المصانعة والإدْهان والخوض في بُنيّات الطريق السياسي الذي ينتهي سُلُوكُهَا بأصْحابه إلى الذّوبان في الحوض الكَدِر للدَّقرطة والعلْمنة وأنا من الذين يَروْنُ أن الدّمُقراطيّة أخْتُ العَلْمانيّة وقد فصّلت القول في هذا في غَيْرِ مَا تصْنيفٍ لي وذلك منْذ أزْيد من ثلاثين سنة. وقد كان لي برنامج في الإذاعة الوطنية عنوانه (نفحات إيمانيّة من الحقيقة الإسلامية) أوْضَحْتُ فيه براءة الإسلام من ايديُولوجيات وفكريّات العصر الحديث كان كذلك في العقْد الثمانينيّ وقد أوقفوا بثّه لأسباب مَجْهولة، وإن كنتُ أعلم أن كثيرا من العلماء والدّعاة لا يرْون مانعًا من انتهاج الديمقراطية لتوكيد الحضور الإسلامي وهذا رَأيهم وأنا في حلِّ منه لأن المشروع الإسلاميّ لاَ يُبْنَى تحت قُبَّة العَلْمانية أبدًا.
وجملة القول إنني أَقدُر العلماء حق قدرهم في هذه الجمعيّة وأدْعُوهم إلى أنْ يُبْقُوا على صِبْغَتِها العِلميّة الخالدة ولا يُحمِّلُوها عبْء الجمْعيّات الخيْرية التي لا دخْل لها في نَشْر الفِكر والعلم والفنون والآداب فَمَا كان من صميم المنْهَج العلميّ الإصلاحيّ التَّجديدي للرعيل الأول وتسْويقُ الـمُؤن والأزْواد إلى الناس وقد كانوا يُوعزون إلى دوائر الإحسان بفعل ذلك خاصّة في زمن المحن.
ولا بدّ للجمعية الحالية أن تَبُثّ دُعاتها وعَلماءَها في بيُوت الله بالتّنسيق مع الوزارة الوصيّة وأن تعْقِد صلاتٍ وثيقة مع الجَامعات في الداخل والخارج لِنَشر فكرها الـمُتَقَّرئِن الثّابت ثباتَ الرَّواسي وأنْ تُكثِّفَ حضورَهَا في وسائل الإعلام المـسموعة والمرئية والمَكتوبة لا في الـمُناسبات فقط ولكنْ في برامج قارّة تَنَالُ موافقَة أهْل الإشراف عليْها ولِمَ لا تُقْدِمُ الجمعية بعْد آستئذان أهل الحلّ والعقد على إحياء سُنّة ملتقَيات الفكر الإسلامي بالتّنسيق الوثيق مع وزارة الشؤون الدّينية والأوقاف وبمباركة الحكومة.
والأمر –كما أعلم- ليس من السّهولة بمكان- والله لا يُضيع أجْر مَن صبَر وَأحسَنَ عملا … هذا ما أمْلِك قوله في الجواب عن سؤالك هذا عن جمعية أبناء عُلماء الرّعيل الأول: وفي الصّدر والذِّهن ما فيهما من خواطر وأفكار لا يتسع لها هذا الحيّز، وهذا الموقف مني لا أحمل أحدًا عليه وألقَى به ربّي.

كلمة أخيرة تكون رسالة منك إلى المجتمع الجزائري والقراء
– لا أملك إلا أن أقول ما لم أفْتأْ أقوله في خُطَبِي وفي كتاباتي منذ أزْيَد من خمسين سنة إن الجزائر أحوجُ ما تكون إلى مَنْ يجْمع كلمة شعْبها على دينِها الحقّ وإلى من يَنْأى بها عن الإحن والفتَن ما ظهر منها وما بطن ولا يحسنُ هذه المهمّة إلا العُلماء الربَّانيون الذين فقِهُوا مُراد الله من عباده فقاموا ينْصحون ويُنَاصِحون في الناسَ جميعا ويُبِيّنون حُكمَ الله ورسوله في كل شيء بما أوتُوا من ضياء البصيرة وعُمْق الفهم ودقَّة الحكمة وصفاء الوجْدان ودأبهم الصّدْعُ بكلمة الحقّ في غير لجلجة ولا دجْدجة، يبتَغُون بها رَضى الله لا تُغْويهم إغراءات المتاع الحسيّ ولا يَشتَرُون بآيات الله ثمنا قليلا.
يجتمعون ليُواجهُوا بموقفٍ واحد وكلمةٍ واحدة ما يجدُّ من قضايا في الدّاخل والخارج غيْر مُتَمَلّقينَ أحدًا.
يعملون في غَيْر ونَاةٍ لتربية النواشىء بالقُرآن العظيم في مدارس قرآنية خاصة تَبْذُل علوم الدّين وعلوم العصر كما فعل الرّعيل الأول.
وتُمِدّ المجتمع بالعلماء في كل مجال وبكل ما يقيه غوائل التّحلل والانْحلال والفساد والإفساد مُوَاجهين دكَاكينَ التنْوير العَلْماني بِحَوائط صَدِّ سميكة شديدة الـعَريكة.
والأمة مدعُوّة إلى أن تُوقّرهُم وأن تُطيعهم ففي طاعتهم طاعة الله ورسوله أليْسُوا ورثة الأنبياء – بَلَى – فَصَلوات الله وسلامة على نبيّنا الكريم وعليْهم أجمعين.
فَطَوبَى ثم طُوبَى لمن عَظّم العلمَ وأهله وتبًّا ثمّ تبًّا لمن وَلَغ في أعراضهم يُريدُ صدَّ الأمة عنْهم لِتَخْلوَ الساحة له فيفسد في الأرض بعد إصلاحها.
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء).
(وإن ربّك لَبِالْمرصاد)
وصلى الله وسلم على خير خلق الله أجمعين محمد بن عبد الله وآله وصحبه وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com