مـقالٌ تــاريـخي يُـلـهمُ الـمـسار الـمــستـقـبـلي: رسالة الشيخ العربي التبسي إلى أعضاء الجمعية العامة المقبلة

أ. سمير زريري */
وأنا أتابع تداعياتِ عدم قبول ملف الجزائر في البريكس، وعلاقةَ روسيا بالانقلاب في النيجر، ومعرضَ الأزياء الذي أقيم ببعض شوارع عنابة، ومسابقةَ أفضل راقص وراقصة ببرج الكيفان، والحفلةَ البهيجة التي أقامها الملحن طارق العربي طرقان بالعاصمة، وقعتُ على مقال ناري للإمام الشهيد العربي التبسي رحمه الله، معنونٍ بـ: «مواعظ رمضان واجب ديني على علماء المسلمين» نشرته جريدة البصائر في عددها 228 لسنة 1953م، والذي يحوز مخبر «البيان» للدراسات التاريخية على نسخة منه.
أحدث لي هذا المقال صدمةً حقيقة، لأنه أرجعني فجأةً إلى ما يجب أن نشتغل به ونحن على أعتاب الجمعية العامة السادسة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. إذ رسم الشيخ العربي التبسي -رحمه الله- في هذا المقالِ خارطةَ طريق لما يجب أن يكون عليه العلماء عند التحديات الكبرى التي تعيشها الجزائر، فألزم العلماء أولا بواجب وقتهم، فإن استقاموا على ذلك برهنوا يومئذ: «أنّهم أحقاء باسم العلم، وأنهم ورثة الأنبياء، وأنهم حملة الشريعة، وأنّهم حماة الملة …».
وألزم الأمة الجزائرية ثانيا، بالاعتراف لجمعية العلماء بأنّها نائبة عن الأمة بحقٍّ فيما يجب على المسلمين من أمر دينهم، وأنّها «الطائفة التي توفرت فيها أوصاف جماعة المسلمين الشرعية …لا ينازع في ذلك إلا من أضله الله على علم، أو على جهل، أو كان من الذين سبقت عليهم الشقوة فأنساهم الشيطان والهوى وحظوظُ أنفسهم القيامَ بالقسط والشهادة لله ولو على أنفسهم».
ناقش الشيخ الأزمة بذوق رفيع استحدث له جملة من المصطلحات العميقة كـ: توبة الشعوب، وجماعة المسلمين، والإنسانية الفاضلة، وتوريث الجيل، وغيرها من المصطلحات ممّا هو قمين بإدراجها في المعاجم والقواميس.
أزمة عدم تحكيم الشريعة.
نَوهَّ الشيخ العربي في هذا المقال، بفضل الشريعة ووجوب التحاكم إليها أفرادا وجماعات للاصطفاف في مصاف الإنسانية الفاضلة، ثمّ أرجع الأزمة إلى أنّ الناس «قد أخرجوا دينهم من التحاكم إليه، والأخذِ به فرادى وجماعات، ورغبوا عنه لا لكونه غير صالح لزمانهم أو لمكانهم أو لما جدّ في عالمهم الحديث، ولكن لأنهم استبدلوا حكم الله بجهالات البشر، ومساوئ الإنسانية، وآثروا عليه وعلى العمل به العادات والأوضاعَ الضارةَ، والمصطلحاتِ الفاسدةَ، فحاق بهم ما هم فيه».
توبة الشعوب
لم يكتف الشيخ الشهيد بهذا التوصيف الدقيق، ولم يبك على الأطلال كما نفعله نحن عند الأزمات، بل بادر إلى الحل مشيرا على الأمة كلّها بالتوبة، وحوّل وجهَها قِبَل توبةٍ قد لا يعرفها السالكون والعارفون بالله، سماها «توبةَ الشعوب».
الدعوة إلى تحكيم الشريعة
ووضعَ لهذا المشروع العملاق خطة تشغيلية واضحة «يدعو فيها علماءُ الإسلام الشعوبَ الإسلاميةَ إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله علما وعملا، ويعلنوا في صراحة وصوت واحد: «لا حكم إلا لله»، كلمة حق يراد بها حق». وأوجب على العلماء مرة أخرى «أن يُعلنوا في صراحة أنّ كلّ عالم لا يقوم بهذه الدعوة فليس من الإسلام، وليس علمه للإسلام، وليست حياته للأمة الإسلامية».
وأنّه ينبغي أن «يقوم كل عالم من علماء الإسلام بنصيبه في هذه التوبة والدعوة إليها مبتدئا بنفسه، عاملا بكتاب الله وسنة رسوله في حياته الدينية والاجتماعية في نفسه وأسرته وفي خواص أقربائه، مصدقا أقواله بأعماله، معلما للناس بأعماله قبل أقواله، يبتغي بذلك مرضاة الله، وحياةً دينية، وعودةَ المسلمين إلى ذلك الدين».
وسائل الدعوة ليست توقيفية
لم يغفل الشيخ العربي التبسي في مشروعه هذا عن وسائل عصره وإن سبق إليها غيرُ المسلمين، وأحال العلماء إلى الاستعانة «بما يستعين به أهل ذلك الزمان من القوانين والمصطلحات التي تعين على تبليغ المبادئ، ونشر الأفكار، وتنظيم الدعوة، وتجنيد الصفوف القادرة على القيام بالواجب»، واجب الدعوة «في كل مجتمع إسلامي كبير أو صغير، أينما وُجد ذلك المجتمع، في مساجدنا، في نوادينا، في مقاهينا، في أعراسنا، في جنائزنا، في مظاهرنا العامة والخاصة».
رؤية واستشراف
ثمّ استشرف الشيخ الإمام نجاعةَ هذه الرؤيةِ، بناءً على ما يعرفه من سنن الله وطِينة الجزائريين فقال: «لو قام علماء المسلمين بما فرض الله عليهم من تبليغ للدين والدعوة إليه، وتعليمه وبيان أحكامه ومزاياه وفضائله ووعده ووعيده، لوجدوا من المسلمين استعدادا وأي استعداد لقبول دعوتهم، والتأثر بجهودهم والإقبال على دينهم».
جمعية العلماء هي جماعة المسلمين
ثمّ عرّج على مسألة مهمة، وهي وجوب الانتقال بالدعوة إلى الدولة، التي ينوب فيها الإمام عن جماعة المسلمين في أداء الفروض والشعائر، وأورد كلام الفقهاء في ذلك وأنّه «يجب على الإمام أن يجعل في كل مسافة مصر من يعلّم الناس أمر دينهم». لكنّ الجزائر في ذلك الوقتِ خاليةٌ من الإمام المسلم إذ تسلط المستدمر على رقاب الجزائريين بقوانين نابليون التي حالت دون دينهم، و«الدين يقول: يجب على الأمة الجزائرية العديمة الإمام والحكومة المعترفة بالإسلام وجوبا شرعيا أن تقوم كأمة بفروض الكفاية، هذه الأمة الجزائرية عليها أن تمتثل آية {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر}، وتلك الطائفة من الأمة المعبر عنها في هذه الآية بلفظ «الأمة» هي جماعة المسلمين، وتتمثل في أمتنا جماعةُ المسلمين في جمعية العلماء». كذا قال الشيخ العربي رحمة الله عليه.
هذه المكانة التي وضع فيها الإمام الشهيد جمعية العلماء، لا نقدر نحن أبنائها اليوم على أن نقول عُشر معشارها بالحق أو بالباطل، لكنّ الشيخ التبسي وإخوانه الذين صنعوا المجد الذي نقتات به اليوم، قالوا بملء أفواههم: «كلّ وصف يُطلب حصوله في جماعة المسلمين، وكل المؤهلات والأوصاف المشترطة في أفراد جماعة المسلمين هي أقوى ما تكون في جمعية العلماء.
ويكاد يقع الإجماع على الاعتراف لجمعية العلماء بمهمتها الدينية، وبتمثيلها للإسلام، وبقيامها بالواجبات والفروض الإسلامية الكفائية التي تدخل في حدود استطاعتها، وتكاد تضم في جماعتها كل شخصية دينية علمية ذات قيمة في مجتمعنا الإسلامي الصميم» .اهـ
معايير قابلة للقياس
ليست هذه عنتريةً ينتشي بها الشيخ العربي التبسي وإخوانه، كما ننتشي نحن اليوم بقولنا عن جمعية العلماء بأنّها «أمّ الجمعيات» و«خير جمعية أُخرجت للنّاس»، بل هي جهودٌ وأعمال ومواقف حاجج بها الشيخ من أراد أن يعرف قدر العلماء، من غير ارتجال ولا حماسة، بل بمعايير قابلة للقياس، فقال:» يا أيها المسلمون الجزائريون، اعلموا أنه إذا كانت جماعة المسلمين بالعلم، فأكثر علماء الجزائر في هذه الجمعية.
وإذا كانت بالدعوة إلى الله، فهي الجماعة التي عاهدت ربها وكتبت ميثاقها على نفسها أنّها الداعية بجماعتها وأفرادها إلى دين الله وإلى كتابه وسنة نبيه.
وإذا كانت بالعمل لتوريث الجيل الجديد الميراث الإسلامي الأدبي: بما فيه من علوم ومن مآثر رجالٍ وشخصيات تاريخية، وما في الإسلام من فضل على الإنسانية، وما في ظهوره يوم ظهر من هداية وسعادة، فإن الجمعية بدروس رجالها وبمدارسها، تقوم بنقل هذا الميراث إلى الأحداث والجيل الجديد حتى يعرف نفسه، ويعمل بدينه، ويرتبط بتاريخه، وحتى يمتد الإسلام إلى من يأتي بعدنا.
وإذا كانت باعتراف الأمة الإسلامية بالأهلية الدينية والعلمية والتضحيات المبذولة عن طيب نفس، فإن الأمة الجزائرية تعترف بذلك لجمعية العلماء، وترجع إليها في دينها وعلومها، وتسلم إليها أبناءها ليتلقوا الإسلام وعلومه على يد هذه الجمعية».
جمعية العلماء اليوم ومعايير البارحة
فأين نحن اليوم من هذه المعايير ومن هذه الهمم التي عانقت هموم الأمة؟
فهل أكثر العلماء في جمعية العلماء؟ أم أنّ أكثرها في جمعية اللآلئ الزكية وغيرها من الجمعيات والجماعات والجامعات -وفّق الله الجميع -.
وهل جددنا ميثاقنا مع الله للدعوة إليه؟ أم أنّ دعوتنا قاصرة على حظوظ أنفسنا وسيئات أعمالنا.
وهل ورّثنا الجيل الجديد ميراث الجمعية؟ أم أنّنا منعناهم حقّهم في رفع راية الإسلام بسبب الشرعية الدعوية قياسا على الشرعية الثورية.
وهل اعترفت الأمّة بأهليتنا كما اعترفت به لأسلافنا؟ أم أنّنا محل نقد دائم بسبب تخلفنا عن حراسة الفضيلة والقيم، وأنّنا لم نؤدِ واجب الوقت.
توبة جمعية العلماء
إنّ الجمعية العامة المقبلة استحقاقٌ تاريخي، يحمل على عاتقه الإجابة عن هذه التساؤلات، ويتعلق به أمل النهوض بجمعية العلماء للنهوض بالأمة، وقد استُهدفت الأمة في دينها وأخلاقها وترابها، ولا يجوز لأحفاد ابن باديس أن يتخلفوا عن هذه التحديات وقد رسم لهم الماهدون خطّتها.
لستُ بهذا مُجعجعا ولا طبوليا، ولكني أدعو إلى توبة جمعية العلماء وهي معنية بالتوبة التي دعا إليها الشيخ العربي التبسي آنفا، بأن نُوائم بين خطة الأولين وما طرأ للآخرين، فنخرج برؤية واضحة وأهداف ممكنة، ومشاريع قوية، وأساليب مواتية، وقوانين جديدة تضبط الأمر وتجبُر الخلل.
أمّا الرئيس فاختياره حتم لازم لا ينبغي أن نهمله، لكنه لا يقل أهميةً عمّا سبقت الإشارة إليه، وإنّي أخشى إن ركزنا على الرئيس دون الرؤى، والخطط، والمشاريع التي نأملها في جمعية العلماء، أن يؤول الأمر إلى ما ننتقده اليوم، ولن تكون الأسماء المقترحةُ للرئاسة إلاّ شمّاعة نعلق عليها فشلنا إن فشلت، وربما أملنا إن نجحت، اللهم فاشهد.
* رئيس شعبة عنابة