جيلنا الصاعد.. إلى أين؟
أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
دبّت الحركة من جديد بعد خفوت خيمت عليه الحرارة، فازدانت الحياة في المدن والقرى بالألوان الزاهية، والحركات الباهية، إيذانا بفتح المدارس والمعاهد العالية، إنه الجيل الراكض بالمحافظ، لا يثنيه قر الشتاء ببرده القارس، ولا شمس الربيع بحقله الغارس، وزهره الحارس.
تحية إلى جيلنا الصاعد، الزاحف نحو المستقبل الواعد، مفتول السواعد، حديد العزم والحزم، لا تثنيه التحديات ولا الشدائد.
إن من حق هذا الجيل الجديد علينا أن نجيب عن تساؤلاته، وأن نعبد له طريق مدّ خطواته، وأن نؤمن له الأفق الواضح المعالم، الخالي من كل الغيوم والمظالم.
فأولى واجباتنا، نحو الأجيال، ونحن نحشد لها كل طاقات التأطير، والبناء، أن نضع لها مفاهيم التأسيس والإعلاء، بوضع المنهج العلمي الوضاء، والكتاب المدرسي اللآلاء، والمعلم القادر، النموذجي المعطاء.
إنه جيلنا الصاعد حقا، ولكن إلى أين؟ هل وطدنا له أكناف المدرسة والبيت؟ وحققنا له الأسس السليمة، التي تقيه، العثرات، والمطبات، وتحصنه ضد داء فقد المناعة وانفصام الذات؟
ففي محيط يطبعه التلوث الطبيعي، ويميزه الإنسلاب الإيديولوجي، ويستبد به الانحلال الخلقي، كيف يمكن حماية الناشئة من هذه الآفات، لنبعث بها في رحلة سليمة نحو الحياة؟
فلئن كنا ندرك حجم تضحيات الآباء والأمهات، والمعلمين والمعلمات، بربط الأحزمة على الأمعاء، وسهر الليالي في ظلمة الليل الدكناء، فإننا واعون أيضا بحجم التحديات، وتفشي آفات المخدرات، وشيوع العنف في كل الشوارع، والدروب، والمنحنيات.
في ظل هذه المعطيات كلها، يجب أن نهمس في آذان الأولياء، وضمائر المشرفين على تربية الأبناء، أن التحديات القوية الخطيرة التي نجابهها تتطلب أنواعا من الاستجابة الكثيرة المطلوب التحلي بها، لننقذ الأجيال من الضلال، ونمكنها من التغذي بالعلم النافع الزلال.
وأولى متطلبات هذه الاستجابة أن نحقق ما يلي:
1- تبيئة الناشئة، بإثبات وجودها القائم على المرجعية المعرفية الأصيلة، ولن يتأتى ذلك إلا بإقامة مدرسة جزائرية الانتماء، علمية المقاصد والأداء، إسلامية الروح والعطاء.
2- تنشئة الجيل الصاعد على قيم نبيلة تبدأ بتحديد معالم هويته، أو وحدة ذاته بغرس دوائر الانتماء، الثقافي والجغرافي، والتاريخي، والحضاري.
3- تحصين الذات الناشئة بالمقوم الذي يخلصها من اضمحلال القدرة لديها على التمييز بين الخطإ والصواب، ومحاربه الشعور بالدونية لدى ناشئتنا، والنأي بها عن الانكفاء على فن تحنيط الأفكار، أو الجمود على الأفكار الميتة والقاتلة على حد تعبير مفكرنا مالك بن نبي.
4- محاربة شيوع الغريزة المتحكمة في الناشئة وتخليصها من السقوط في البهيمية التي تجعل الشاب أشبه ما يكون بالحيوان المحصور اهتمامه في طعامه وشرابه ولذاته.
5- السمو بالجيل إلى كائن ينظر إلى الحياة من منطلق القيم والفضائل التي تحرره من رذائل المدنية الغربية، التي تحاول أن تحصر كل أهداف الحياة لديه في الغريزة، وما تبدعه هذه الحضارة من شذوذ، ومثلية، وإلحاد..
إن المنظومة التربوية – من وجهة نظرنا- هي المفتاح الذي ندخل به إلى عالم الحياة، القائم على الفضائل، والمبادئ، والعقيدة السليمة والتدين القويم.
فلنصلح المنظومة التربوية إذا أردنا أن تصلح الأمة، ونبني الحضارة ونقيم جيلا صاعدا معتدل القامة سوي القيمة، نبيل المقصد، والمعهد.
فكل مؤسساتنا، بدءا بالحضانة، وانتهاء بالجامعة، ومرورا بالملعب، والسوق، تستمد كلها وسائل علاجها من المنظومة التربوية السليمة بمؤسساتها ومناهجها ومعلميها، وقيمها ومقاصدها.
فأصلحوا المدرسة والثانوية، والجامعة، وحصنوها بالمعتقد، والقيم، والعلم- إذا أردتم أن تضمنوا باقي قطاعات الحياة، ومختلف معالم المجتمع.
إن المنظومة التربوية السليمة هي التي تنتج لنا المواطن الصالح، والتاجر الأمين، والحاكم المخلص، والإعلامي الموضوعي، وفي ذلك ضمان لتفاعل منظومة القيم، التي نبني بها الوطن الواحد، والاقتصاد الواعد، والإنسان القائد.
من حق الجليل الصاعد، علينا أن نخصص له القسط الكبير من الميزانية، وأن نبذل في سبيل إعداده أعلى وأغلى ما يمكن من التضحية، لنحقق له أسمى ما نستطيع من الترقية.
مطلوب منا- إذن- أن نعي حجم ما نحن مقبلون عليه، في هذا الدخول المدرسي، وأن نقدر المقصد الأسمى من بناء الجيل الصاعد، وتحديد الغايات والأهداف التي هو صاعد نحوها، فإذا نحن لم نع ذلك ولم ندرك كنه الرسالة الملقاة على كاهلنا من حشد كل هذه الطاقات التي نسخرها لافتتاح الدخول المدرسي، فإن مصيرنا سيكون كحال من يكتب على الماء.
فمرحى ! مرحى ! للجيل الصاعد وهو يدخل مستقبل الحياة من باب المدرسة الكبير، منشدين مع الشاعر الخالد محمد الأخضر السائحي:
وعندما ألاقي يا فرحتي رفاقي
وأجــــد المعلما ينــظر لي مبتسما
أغدو بها طبيبا أو كاتبــا أديبا
أو رجلا عظيما مثقفا حكيما