المنور مروش: مسيرة مؤرخ قدير في طي النسيان
د. بن سالم الصالح/
من أبرز الأسماء التي تركت بصمتها في تاريخ الجزائر العثمانية واختفت من الواقع الأكاديمي، وأصبح الجيل الجديد من الطلبة والباحثين لا يسمع عنها شيئا. الدكتور والباحث الكبير المنور مروش الذي ارتأينا في هاته الفسحة التاريخية المتواضعة أن نعرف به وبإسهاماته المعتبرة في حقل التاريخ عموما وتاريخ الجزائر العثمانية بشكل خاص علها تكون عربون وفاء له وهو على قيد الحياة (أطال الله في عمره).
لمحة عن مسقط الرأس
ولد المؤرخ المنور مروش بتاريخ 21 ماي 1932م بقرية عريقة تقع على بعد 3 كلم شرق بلدة برج الغدير ولاية برج بوعريريج، تسمى دشرة الغدير، والتي تنقسم إلى خمسة فرق: (أولاد العياضي، الشواثرة، أولاد سيدي منصور، أولاد سيدي أحسن، أولاد عمر)، وينحدر المنور مروش من فرقة أولاد سيدي منصور، وهي فرقة وفدت من قرية أولاد سيدي منصور التي تتبع لبلدية غيلاسة، وقد عرفت دشرة الغدير بمؤسساتها العلمية والدينية الكثيرة على غرار: زاوية الحاج السعيد لطرش، زاوية الحاج الشريف شوثري، زاوية الشيخ السعيد العدوي، المسجد العتيق، مسجد بوصباط، مسجد أولاد سيدي منصور، مسجد الحاج الشريف، مسجد الشواثرة، مسجد أولاد عمر، مدرسة التهذيب التي شيدتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهو ما ساهم في إنجاب القرية لعشرات الأعلام الذين ذاع صيتهم، في شاكلة: الشيخ الرحالة المفسر الحاج السعيد بن لطرش، الفقيه محمد الطاهر خبابة، الحاج الشريف شوثري، الشاعر عبد الحفيظ زواوي…، كما تخرج منها أعلام كبار أمثال: الشيخ نويوات موسى الأحمدي، الشاعر الشهيد عبد الكريم العقون…
النشأة العلمية
نشأ المنور مروش وسط أسرة محترمة ومحافظة حرصت على تعليم ولدها المبادئ الإسلامية والعلوم اللغوية، والده مروش أحمد بن البوهالي ووالدته قرايط فطيمة، تدرج المنور في مدرسة التهذيب التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبعد حيازته للشهادة الابتدائية سنة 1947م تحصل على إجازة من قبل جمعية العلماء للدراسة في جامع الزيتونة بتونس، وقد نشرت جريدة البصائر حينها اسمه ضمن الطلبة المتفوقين، إذ سجل تحت رقم (26938)، وحاز على شهادة التحصيل العلمي سنة 1951م، لينتقل لمصر وهناك قرر إكمال مشواره العلمي بجامعة القاهرة (تخصص تاريخ).
انخراطه في الثورة التحريرية
لما اندلعت الثورة التحريرية سنة 1954م كان المنور مروش خلالها طالبا بجامعة القاهرة، وقد قرر الانضمام لها مبكرا، وكانت بداية نضاله بانخراطه في رابطة الطلبة الجزائريين، والتي ترأس فرعها بالقاهرة بين (1957-1955م)، وبعدما تحصل على شهادة الليسانس في التاريخ سنة 1957م تم تجنيده في صفوف جيش التحرير الوطني وحول إلى الجبهة الليبية (ميدان الاستعلامات)، وفي سنة 1958م تم تحويل المنور مروش إلى قطاع الإعلام. إذ عين عضوا في هيئة تحرير جريدة المجاهد التي اشتغل بها لمدة أربع سنوات (1962-1958م) قبل أن يعين مديرا لها مباشرة بعد الاستقلال.
نضاله السياسي بعد الاستقلال
لم يخف المنور مروش أبدا انتماءه وميولاته السياسية فمذ وصوله للقاهرة المصرية. إذ تشبع بالفكر القومي العربي، وكان من كبار المناصرين لأحمد بن بلة قبل أن يصبح صديقا مقربا له، كما كان المنور الصديق الروحي للراحل عبد الحميد مهري. ومقربا من المفكر ميشيل عفلق، هذه العاطفة الجياشة للفكر القومي جعلت المنور مروش يقع في المحظور سنة 1965م لما عارض وبشدة انقلاب الهواري بومدين على أحمد بن بلة، بل كان من المؤسسين لمنظمة المقاومة الشعبية المعارضة لانقلاب 19 جوان، وهو ما انجر عنه ملاحقات سياسية وأمنية اضطرته للانسحاب من جريدة المجاهد، ليقرر الرحيل بعدها لفرنسا من أجل إكمال دراسته العليا.
مساره العلمي والمهني
رب ضارة نافعة هذه المقولة تنطبق على المنور مروش، فبعد انسحابه من السياسة سنة 1965م برفقة الدكتور جمال قنان، قرر ترك الجزائر والتوجه لفرنسا من أجل إكمال مشواره العلمي الجامعي. حيث سجل بجامعة السوربون ونال منها على شهادة الدكتوراه سنة 1976م، تناول خلالها موضوع:(حزب البعث العربي وأيديولوجيته الاشتراكية)، ليعود المنور مروش للجزائر وينضم لهيئة التدريس بجامعة الجزائر، والتي اشتغل بها لغاية تقاعده سنة 1992م، ويذكر صديقه الدكتور مصطفى نويصر بأن المنور مروش ذكر له لما غادر الجامعة: (لما وجدت الطلبة غير مهتمين ورسالتي العلمية لا تمر قررت التقاعد ومغادرة الجامعة). ليعود من جديد إلى فرنسا باحثا ومدرسا ومؤلفا، والتي لا يزال مستقرا بها ليومنا هذا.
منجزه العلمي
نشر الدكتور المنور مروش عديد الدراسات والمقالات، لكن أشهر أعماله على الإطلاق موسوعته في تاريخ الجزائر العثمانية، والتي نشر منها جزئين:
– الجزء الأول خصصه لـ (العملة الأسعار والمداخيل)، تناول فيه تفاصيل دقيقة عن تطور العملة الجزائرية خلال العهد العثماني .
– الجزء الثاني خصصه لـ (القرصنة الأساطير والواقع)، تطرق فيه لظاهرة القرصنة بين النشأة والتطور، مفندا فيها إلصاق هذه الظاهرة برياس البحر الجزائريين، معتمدا على وثائق أرشيفية مهمة.
المنور مروش بعيون الباحثين
رغم أن الدكتور المنور مروش لم يتدرج في تاريخ الجزائر العثمانية في مرحلة الدراسات العليا، لكنه أنجز عنها أعمالا رصينة وجادة، وسنأخذ رأي بعض الباحثين الجزائريين المشتغلين في حقل الدراسات العثمانية، بداية بالدكتور خليفة حماش أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية الذي قال في الباحث المنور مروش: (هو عالم حقيقي، ولا يوجد في الجزائر من يضاهيه في الدراسات العثمانية. وقد تحدثت معه مرة وعلى انفراد، فشعرت أنني أتكلم مع باحث متميز، لم أجد له ندا سوى عالم التركيات الكبير جون دوني. فهو لا يتكلم بعاطفة أو ارتجالية أبدا، وإنما بالدليل المستمد من الوثائق والوقائع، كما في كتاباته أيضا، وهي كلها أعمال علمية رصينة وذات مصداقية، وذات مستوى علمي عال، مثل أعمال: جون دوني، ألبير دوفو، أدريان بربروجر، هنري دو غرامون، وغيرهم من الباحثين الكبار الذين كتبوا عن الجزائر العثمانية. فأتمنى أن يفهم الباحثون الجزائريون منهجه في البحث ويقتدون به).
كما أخذنا رأي الباحثة فاطمة الزهراء قشي أستاذة التاريخ الحديث سابقا بجامعة عبد الحميد مهري، إذ قدمت دراسة نقدية لكتاب المنور مروش: (العملة الأسعار والمداخيل)، نشرتها سنة 2003م بمجلة إنسانيات التابعة لمركز الكراسك بوهران، ع19-20، حيث تذكر في خاتمة الدراسة: (يعد هذا الكتاب الثري موسوعة للقارئ الفضولي الذي يبحث عن معلومات تفصيلية حول مختلف المسائل وهو في ذات الوقت درس منهجي في كل فقرة وفي كل فصل … وهو مجهود جبار كرس به المنور مروش مساره العلمي، لقد استعمل المصادر في تقاطع وموازاة وتكامل رغم اختلافها وهذا يحتاج إلى قدرة كبيرة على التركيز وصبر طويل لرصد التكامل، وينم الكتاب عن إلمام موسوعي بكل ما نشر حول الجزائر العثمانية وقراءة دقيقة للمصادر الأرشيفية وظف فيها تحكمه في اللغة العربية والفرنسية على حد سواء. كما ثمن هذه المعرفة الحميمة بالموضوع بموقف منهجي ونقدي صارم).
(جامعة محمد البشير الإبراهيمي)