صفـر الخيـر … تفاؤل لا تشاؤم
د. يوسف جمعة سلامة*/
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن سعيد بنِ مِينَاء قال: سمعتُ أبا هريرة-رضي الله عنه- يقول: قَالَ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم-: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ).
هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الطّب – باب الجُذام.
إِنَّ مِمَّا ابتُلِيَ به بعض النّاس التّشاؤم من بعض الأيام أو الشهور؛ لذلك نجد أَنَّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – يُرشدنا في الحديث السّابق إلى أَنَّ ديننا الإسلامي الحنيف ضِدَّ الأوهام والخُرافات والتّشاؤم، حيث إِنَّه يغرس جُذور التّوحيد والإيمان واليقين في قلوبنا وعقولنا، فنؤمن بأنّ الله عزّ وجلّ هو الذي يُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويُعِزّ ويُذِلّ، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فالمؤمن الحقّ لا يتشاءم من بعض الشّهور أو الأيام؛ لأنّ قلبه مُعَلَّق بالله عزّ وجلّ، وهو مؤمن بأنه لا يأتي بالخير إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يصرف السُّوء سِوَاه، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ}.
وهكذا نجد أنَّ هذا الحديث الشّريف قد أبطل طائفة من الأوهام والمزاعم التي كانت موجودة في الجاهلية، ودفع النّاس إلى طريق العقل والرّشاد؛ ليحيوا حياة سعيدة طيّبة، عمادها التّفكير السّليم والإيمان العميق بالله جلّ جلاله.
الرسول – صلّى الله عليه وسلّم- ينهى عن التشاؤم والتّطير
لقد أكّد ديننا الإسلامي الحنيف على وجوب الرّضى بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره، وأَنْ نكون دائماً مُتفائلين غير مُتشائمين؛ لأنّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – كان يُعجبه التّفاؤل، حيث وردت عدة أحاديث شريفة تُبَيِّن أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – كان يُحبّ الفأل ويكره الطِّيَرَةَ، منها قوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ قالوا: وَما الفَأْلُ؟ قالَ: كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ)، كما كان – صلّى الله عليه وسلّم – يُوجِّه أصحابه قائلاً: (يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا).
سبب التشاؤم من شهر صفر
كان التّشاؤم من شهر صفر مشهوراً في الجاهلية، ولا زالت بقاياه عند بعض النّاس، حيث اعتاد بعض الجُهَلاء أَنْ يتشاءموا من قُدومه، فنراهم يُحجمون عن إنجاز أمورهم فيه، فلا يُسافرون، ولا يتزوّجون، ولا يُتاجرون، ولا يبنون، ولا يُبرمون أمرًا مُهِمًّا، وكثيراً ما ساعدهم على هذا المُعتقد الفاسد أحاديث موضوعة وضعها الأفَّاكون، منها ما رُوي كذباً وافتراءً مثل: (بشروني عن أمتي بعد صفر )، وسبب تشاؤمهم منه أنّه كان في الجاهلية يأتي في أعقاب الأشهر الحُرُم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمُحَرَّم ، فإذا حَلَّ شهر صفر كَثُرَ القتال، وهاج بعضهم على بعض، وانْتُهِكَت الحُرُم، فيكثر القتلى والسّبايا، ويُصبح النّاس في ذُعْرٍ لا نظيرَ له، لذلك فهم يتشاءمون منه، وقد أبطل الإسلام ذلك كلّه.
إِنَّ الشّهور والأعوام والأيام هي ظروف لأعمال العباد، فكيف يَصِحُّ في الأذهان أن تُغَيِّر الشّهور والأيام ما سَطَّره الله عزّ وجلّ؟ فالواقع الذي لا مِرْيَةَ فيه، أنَّ التشاؤم بالأيام والتَّطير بالشّهور وغيرها هو خُرافة واضحة البُطلان، لا ينخدع بها إلاّ من اضطربت عقيدته وفَقَدَ الثِّقة بمواهبه.
وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ
من المعلوم أنَّ أذى المشركين قد اشتدَّ برسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – وأصحابه- رضي الله عنهم أجمعين -، حتى جاء بعضهم إليه يستنصره ، وعندئذ يُذَكِّر الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – أصحابه الكرام بضرورة الصّبر، لأنّ الصّبر يُورث الرِّضى والسّكينة ويُذهب الجَزَع، وهذه صفات المؤمنين كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وفي نفس الوقت يَبُثُّ الأمل والتّفاؤل والإقدام في نفوسهم ويُطمئنهم على المُستقبل، كما جاء في الحديث عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ- رضي الله عنه- قَالَ: (شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ- قُلْنَا لَهُ: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ).
نماذج من التفاؤل النبوي
إِنّ التّشاؤم واليأس أَمْرٌ يفتكُ بالأُمم؛ لذلك فقد دعانا ديننا الإسلامي الحنيف إلى التّفاؤل والابتعاد عن التّشاؤم.
ومن الجدير بالذكر أنّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم– كان مُتفائلاً في جميع أحواله، فيوم اجتمع أعداء الإسلام من كلّ حدب وصوب لمحاربة المسلمين في غزوة الخندق، كان المسلمون في حالة صعبة كما وصفهم القرآن الكريم: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا*هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا}.
ومع ذلك كان الرسول – صلّى الله عليه وسلّم- مُتفائلاً بنصر الله، وبشَّر الصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين – بأنّ نصرَ الله آتٍ، فعندما اعترضتهم صخرة صلدة أثناء حفرهم للخندق، ضربها – صلّى الله عليه وسلّم- بفأسه، وإذ بثلاث شرارات تتطاير، فقال-صلّى الله عليه وسلّم-: «أبشروا، أمّا الأولى: فقد أضاء الله سبحانه وتعالى لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأمّا الثانية: فقد أضاء الله سبحانه وتعالى لي منها قصور الحُمُر من أرض الروم، وأمّا الثالثة: فقد أضاء الله سبحانه وتعالى لي منها قصور صنعاء، فإنّ الإسلام بالغٌ ذلك لا محالة».
وهذا التّفاؤل بنصر الله عزَّ وجلَّ كان مُرافقاً للرسول – صلّى الله عليه وسلّم – في حِلِّه وترحاله، ألم يَقُلْ – صلّى الله عليه وسلّم – لِسُرَاقة بن مالك يوم أنْ لحقه وهو مهاجرٌ من مكة إلى المدينة؟ يريد أن يظفر بجائزة قريش لمن يأتي بالرسول -عليه الصّلاة والسّلام- حيًّا أو ميتاً، يا سُراقة عُدْ: وإنني أَعِدُكَ بسِوَاريْ كسرى.
ما الذي دفع الرسول –عليه الصّلاة والسّلام- إلى هذا القول؟ الذي دفعه إلى ذلك هو إيمانه – صلّى الله عليه وسلّم- بربِّه عزَّ وجلَّ، وثقته بنصره، وأمله في نصر الله للمؤمنين ، وفعلاً تحقَّق ذلك، ونفَّذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- عهد الرسول –عليه الصّلاة والسّلام –، وأعطى سُراقةَ سِوَاري كسرى عندما فتح المسلمون بلاد فارس.
إِنّ الواجب على المؤمن أَنْ يكون مُتفائلاً دائماً بفرج الله سبحانه وتعالى، كما ورد عن تميم الداري- رضي الله عنه-، قال: سمعتُ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – يقول: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ – يعني أمر الإسلام – مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ).
وكلمة مَا بَلَغَ الليل والنّهار في هذا الحديث الرّائع كلمة جامعة من خصائص البلاغة المُحَمَّدية، ولا أرى نظيراً لها في الدَّلالة على السّعة والانتشار.
فعلينا أن نكون دائماً مُتفائلين مهما اشتدَّت الخطوب واحلولكت الظُّلمات، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإنَّ الفجر آتٍ بإذن الله، ورحم الله القائل:
وَلَرُبَّ نازلةٍ يضيــقُ بها الفَتَـى ذَرَعاً، وعندَ اللهِ منها المَخْرجُ
ضاقتْ فلمَّا اسْتَحْكَمتْ حَلَقَاتُها فُرِجَتْ، وكنتُ أَظُنّها لا تُفْرَجُ
لذلك يجب علينا أَنْ تكون ثقتنا بالله سبحانه وتعالى عظيمة، وأملنا قوي في غدٍ مُشرق عزيز بفضل الله عزَّ وجلَّ، فما زالت الآيات القرآنية تتردَّد على مسامعنا: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، لتقول لنا جميعاً: سيأتي الفرج بعد الضيق، واليُسْر بعد العُسْر، فلا نحزن، ولا نضجر، فلن يغلب عُسْرٌ يُسْرين بإذن الله سبحانه وتعالى.
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com