جهود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في تعليم المرأة (1931 -1956)
د. سمير أبيـش */
يهدف هذا المقال إلى الوقوف على الجهود الكبيرة التي بذلتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أجل تمكين المرأة الجزائرية من فرص التعليم، خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وذلك من خلال معرفة أسباب وعوامل القيام بهذا العمل، وجملة الأساليب المنتهجة من طرف الجمعية للوصول إلى تحقيقه.
عندما شرع المصلحون في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والقيام بمشروعهم التربوي، لم يجعلوه مشروعا موجها إلى فئة بعينها أو جنس دون غيره، وإنما أرادوه مشروعا شاملا في كل عناصره ومتكاملا بين جميع وحداته وأجزائه، يستهدف المجتمع بكل مكوناته ووحداته، ولذلك لم تكن مشكلة المرأة وما توجد عليه من أوضاع صعبة عندهم مشكلة منفردة عن مشكلة الرجل (وإنما في حقيقة الأمر هما يشكلان مشكلة واحدة هي مشكلة الفرد في المجتمع) بصرف النظر عن كونه ذكرا أو أنثى، لأنه كما يقول الأستاذ مالك بن نبي (المرأة والرجل قطبا الإنسانية ولا معنى لأحدهما بغير الآخر)، والإمام ابن باديس رحمه الله أدرك ذلك جيدا بقوله: (لا تقوم الحياة إلا على اللذين يتوقف العمران عليهما وهما الرجال والنساء، بل وجعل تكاملهما شرطا من شروط النهضة التي كان يخطط لها بمعية زملائه في الجمعية إذ يقول: (لن ينهض المسلمون نهضة حقيقية إسلامية إلا إذا شاركهم المسلمات في نهضتهم)، وهو ما عبر عنه مالك بن نبي بقوله (بأنّ تطور المجتمع يرتبط فعلا بتطور المرأة والعكس صحيح) ولقد أكد العلماء المصلحون أن أي حركة إصلاح اجتماعي تحاول النهوض بالمجتمع، تغفل في مضامينها أحد الجنسين أو تركز على أحدهما دون الآخر لهي محاولة فاشلة، ففي كلمة للأستاذ محمد العابد الجلالي أحد أعضاء جمعية العلماء بين أنه (إذا كانت التربية والتعليم قد وجهت عناية خاصة إلى تعليم بناتها وتثقيفهن فذلك لأنها أدركت من أمثلة الحقائق الكونية بأنها قد تعرض مجهوداتها للضياع، إذ هي اعتنت بجانب واحد من جانبي الحياة وأهملت الجانب الآخر، إذ لا يتصور العقل طائرا يطير بجناح واحد وماشيا يمشي برجل واحدة، بل القوى الطبيعية كلها خاضعة لهذا النظام، فالعناية بإصلاحهما معا لا مناص منه إذا أردنا أن نأخذ لأنفسنا ضمانا من حدثان الدهر)، أمر حتمي. وقد أكد ابن باديس رحمه الله هذا بقوله (أن المجتمع لا ينهض إلا بالجنسين الرجل والمرأة، مثل الطائر لا يطير إلا بجناحين).
هذا هو الإطار العام الذي قامت الجمعية من خلاله بمعالجة مشكلة المرأة بصفة عامة وتعليمها بصفة خاصة، فبما أن المرأة جزء من المجتمع الذي تعمل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على إصلاحه فإن مشروع هذا الإصلاح يشملها كشقيقها الرجل.
أولا – عوامل تعليم المرأة عند جمعية العلماء:
لقد تشكلت أمام المصلحين مجموعة من العوامل الفكرية والاجتماعية والدينية وأخرى اقتضتها ظروف الصراع الذي يخوضونه مع الإدارة الفرنسية حول المجتمع الجزائري، بالدعوة إلى ضرورة تعليم المرأة الجزائرية نذكر منها:
1- طبيعة نظرتهم إلى المرأة: وهي التي بيناها في العنصر السابق وكيف أنهم ينظرون إلى المرأة على أنها جزء من المجتمع لا يمكن النهوض دون الرجوع إليه.
2- تكليفها شرعا مثل الرجل للقيام بواجبات يفرضها عليها الدين، ولذلك وجب عليها تعلم هذه التكاليف ومعرفتها من أجل القيام بها، وفي ذلك ذكر الشيخ مبارك الميلي في كلمة ألقاها أمام الحاضرين داخل نادي الإصلاح بميلة من أجل دعوتهم إلى بذل المال لفتح مدرسة لتعليم البنات (أيها الإخوان إنّ النساء شقائق الرجال في الإنسانية شقائق في التكاليف الشرعية فهن ذوات جسد وروح وقد كلفهن الله بتصحيح العقيدة وإقامة الصلوات، وغير ذلك من فعل الواجبات وترك المنهيات وإذا كانت الإنسانية لا تكمل إلا بالعناية بجزأيها الجسد والروح، فإن المجتمع البشري لا يكمل إلا بالعناية بتربية الذكر والأنثى، وإذا كان الإسلام يطلب من الأنثى ما يطلب من الذكر فلا معنى لإهمال جانب المرأة، وإذا كان الإسلام قد جعل الرجال قوامين على النساء فإن الإعراض عن تيسير طرق العلم عليهن والقيام بفروض دينهن جناية لا تعادلها جناية). ولقد أكد الإمام الإبراهيمي على أنّ إلزامية تعليم البنت، يعود إلى التكاليف التي سوى الله فيها بينها وبين الرجل وأن هذه التكاليف لا تؤخذ إلاّ بالعلم ثم إن اعتماد الجمعية في دعوتها إلى تعليم البنت على هذه النقطة لم تكن بدعة جاءت بها، وإنما هو منهج كثير من علماء التربية المسلمين على غرار الإمام أبي الحسن القابيسي الذي كان يرى في إلزام التعليم بإشراك البنت إلى جانب الولد، لأن المؤمنين والمؤمنات مكلفون جميعا بنص القرآن ولا تتيسر معرفة الدين إلا بنوع التعليم.
3- مسؤوليتها الاجتماعية عن التنشئة الأسرية للأبناء، كونها اللبنة الأساسية التي تدخل في تكوين الأسرة، وهذه من أوكد العوامل التي جعلت الجمعية تنادي إلى ضرورة تعليم المرأة، وذلك من خلال إيمانها بأهمية التكامل بين المحيط الأسري والمدرسي، وأن جميع الجهود المبذولة داخل الوسط المدرسي، من أجل تخفيف الأمية عن أفراد المجتمع، لن يكون لها الأثر الإيجابي على الصغار ما لم یکن هنالك عمل يكمله ويعمل على تعزيز قيمه داخل أسر التلاميذ، حيث كتب باعزيز بن عمر (وعندي أن ما يقع في مجتمعنا من اضطراب في الأفكار وتشتت في الآراء لأدنى عارض، واختلاف في الميول والآمال منشؤه اختلال في الأسر) ولقد أدركت الجمعية أن الأسر ليس بإمكانها القيام بهذا العمل، ما لم تكن المرأة الموجودة داخلها والمسؤولة بحكم مركزها الاجتماعي للقيام بوظيفة التربية، ما لم تكن امرأة متعلمة ومدركة لهذه الوظيفة ولقد أشار الإمام محمد البشير الإبراهيمي إلى ذلك بقوله: (بأن المرأة المسلمة يجب أن تتعلم وأن تتهذب، وإلزامية تعليمها يعود إلى أن الإسلام جعلها مغرسا للنسل وغارسة للخصائص فيه ومتعهدة له بالسقي، وكل هذا لا يتم إلا بالعلم وإذا كانت تربية النحل والدود تفتقر إلى العلم فكيف لا تفتقر إليه تربية الإنسان؟ فإذا جهلت المرأة أتعبت الزوج وأفسدت الأولاد وأهلكت الأمة) ولأنها ربة البيت وراعيته والمضطرة بمقتضي هذه الخلقة للقيام به، فعلينا أن نعلمها كل ما تحتاج إليه للقيام بوظيفتها، وأما ابن باديس فكان يقول (علينا أن نكمل النساء تكميلا دينيا، يهيئهن للنهوض بالقسم الداخلي من الحياة)، ثم إن جمعية العلماء قامت وفي أسمى أهدافها العمل على المحافظة على مقومات الشخصية الوطنية، التي تضمن الوجود النوعي للمجتمع الجزائري، ولا يمكن لهذا الوجود أن يتحقق إلا في ظل أسرة تعمل على استدماج خصائص هذه المقومات في أفرادها، بواسطة آليات التنشئة الأسرية، ولقد أوضحنا سابقا مكانة المرأة داخل هذا البناء، وهو عينه الذي جعل جمعية العلماء توجه اهتمامها صوب المرأة للنهوض بها، نهوضا يخدم الفكرة الإصلاحية ويساهم في نجاح المشروع التربوي، وجعلت ابن باديس يكتب على الشهاب بأن (البيت هو المدرسة الأولى والمصنع الأصلي لتكوين الرجال، وتدين الأم هو أساس حفظ الدين والخلق وإن الضعف الذي نجده من رجالنا معظمه نشأ من عدم التربية الإسلامية في البيوت بسبب جهل الأمهات وقلة تدينهن، فإذا أردنا أن نكون رجالا فعلينا أن نكون أمهات دينيات ولا سبيل إلى ذلك إلا بتعليم البنات تعليما دينيا وتربيتهن تربية إسلامية وإذا تركناهن على ما هم عليه من الجهل بالدين فمحال أن نرجو منهن أن يكون لنا عظام الرّجال).
4- التصدي للإدارة الفرنسية التي كانت تسعى إلى استغلال المرأة الجزائرية وجعلها مدخلا من مداخل السيطرة على المجتمع الجزائري، ولقد وجهت إحدى المربيات الفرنسيات كتابا إلى وزير الحربية الفرنسية مخاطبة إياه(إنكم سيدي الوزير لا تجهلون أنّ أكبر تأثير في إفريقيا هو تأثير المرأة كما هو الحال في أوروبا، وإنكم إذا خصصتم لحضارتنا 100 ألف من الفتيات الجزائريات اللاتي ينتمين لمختلف طبقات المجتمع سيصبحن في المستقبل بحكم الأشياء زوجات بارعات ومحظوظات وسيضمن لكم خضوع البلد إلى الأبد، وذلك بالتأثير على أزواجهن)، وكتب فرنسي آخر (إذا أردنا أن نضرب المجتمع في صميم بنيته وفي قدراته على المقاومة يجب علينا قبل كل شيء كسب النساء، والسعي للبحث عنهن خلف الحجاب حيث يتوارين وفي المنازل حيث يفنيهن الرجال)، أما الكاتبة ماري بوجيجا فقد نذرت نفسها لتسخير المرأة المسلمة سلاحا لإخضاع المجتمع الجزائري، من خلال إعطاء الأولوية للمرأة في التعليم الذي ينبغي أن يرسخ المفاهيم الأساسية للحضارة الأوروبية الفرنسية، بينما الكاتبة أوكلار فكانت تعتقد أن ألف امرأة تجدي أكثر من عشرة آلاف رجل في جلب تعاطف الأهالي إلى فرنسا، في حين ذكرت أخرى بأنه عندما نلحق ولدا بالمدرسة الفرنسية فإننا نربح فردا، بينما نكسب إذا ألحقنا بها بنتا بعدد ممن تنجبهم، وهو الذي جعل الإدارة الفرنسية تفتح أبواب المدارس الفرنسية أمام الفتيات الجزائريات من أجل قولبتهن على الثقافة الفرنسية، مما يضمن لها السيطرة على مراكز ذات تأثير داخل المجتمع، تعمل من خلال توجيه هذه المراكز والتحكم في أدوارها الاجتماعية، بواسطة ما استدمج في وعيها من قيم وأفكار إلى السيطرة على هذا المجتمع.
وللوقوف أمام هذه السياسة التخريبية دعت جمعية العلماء إلى ضرورة تعليم البنت الجزائرية، التعليم الذي يعكس الثقافة المجتمعية للمجتمع الجزائري ولا يخالف عادات وتقاليد بيئتها الاجتماعية، وما يمكن أن يحدثه ذلك التعليم من شرخ داخل أبنية المجتمع جرّاء دخول المرأة في التكوين الأساسي للمجتمع، ولمسؤوليتها الاجتماعية عن التنشئة الأسرية والاجتماعية لمجموع أفراده المكونين له، وفي ذلك قال ابن باديس رحمه الله (وشر من تركهن جاهلات بالدين إلقاؤهن حيث يربين تربية تنفرهن من الدين أو تحقره في أعينهن فيصبحن ممسوخات حيث لا يلدن إلا مثلهن، ولئن تكن الأم جاهلة بالدين محبة له بالفطرة تلد من يمكن تعليمه وتداركه خير بكثير من أن تكون محتقرة للدين تلد للأمة من يكون بلاء عليها وحربا لدينها، فنوع تعليم البنات هو دليل من سيكون من أجيال الأمة في مستقبلها)، ثم يبين ابن باديس (أنّ اعتناء الدول بتعليم بنات الشعوب التي تقع تحت سيطرتها لا يقصد به الارتفاع بمستواهن فكريا وثقافيا وحضاريا، ولكن بقصد آخر بعيد عن ذلك بعدا شاسعا وهو أن تجعل من تعليم بنات تلك الشعوب تعليما سطحيا، ممسوخا ووسيلة لكي يصبحن عامل تخريب وتحطيم لمعنويات ومقومات شعوبهن، وبذلك مساعدة الدول الاستعمارية ولو بدون أن يشعرن على تحقيق أهدافها الاستعمارية في بلادهن) وقد تفطنت لها بعض الأمم المالكة لزمامها فأخذت تعلم بناتها تعليما يوافق غاياتها، فمن الواجب علينا ولنا كل الحق في المحافظة على ديننا ومقوماتنا، أن نعنى بتعليم بناتنا تعليما يحفظ مستقبلنا ويكون لنا الرجال العظام والنساء العظيمات، وإلا فالمستقبل ليس كالماضي فقط بل شر منه لا قدر الله، ويمكن أن نخلص من وراء دعوة ابن باديس هذه إلى ما يلي :
– بما أن المجتمع لا يعدو كونه مجموعة من الأفراد تربطهم شبكة من العلاقات الاجتماعية، تحددها لهم مراكزهم الاجتماعية يساهمون من خلالها في خدمة هذا المجتمع، والذي تمثل فيه الأسرة المدرسة الأولى والمصنع الأصلي لتنشئة وصياغة هؤلاء الأفراد، على الوجه الذي يريده هذا المجتمع، فإذا أردنا تنشئة سليمة لأفراد هذا المجتمع ما علينا إلا القيام بالمرأة التي هي العمود الأساسي للأسرة بتعليمها وتثقيفها ما يعينها على القيام بوظيفتها الاجتماعية.
– أن شكل المجتمع يتوقف على نوع التعليم الذي ستأخذه البنت في ذلك المجتمع من خلال اعتمادها في تنشئتها لأفراد أسرتها على نمط التعليم الذي أخذته.
– الأمية التعليمية عند البنت أفضل لها من التعليم الإستلابي، لأنه يمكن أن نطلق على أميتها دون هذا التعليم أنه جهل بسيط يبقيها على فطرتها الطبيعية، فهي وإن كانت تجهل مقوماتها إلا أنها لا تعمل على احتقارها، مما يجعل أبناءها على استعداد فطري لاكتسابها، أما النوع الثاني فيمكن أن نطلق عليه أنه جهل مركب لا يجعلها تجهل مقومات شخصيتها فقط، بل تعمل على احتقار هذه المقومات تدفع أبنائها إلى احتقارهم لها وتنفيرهم منها عندما ينشئون داخل وسط أسري لا يقوم بتعزيز هذه القيم في داخلهم.
– أن تعليم الدول الاستعمارية لبنات الدول المستعمرة يدخل في تكوين الصنف الثاني.
– وللوقوف أمام هذه المخططات الاستعمارية تدعو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، إلى ضرورة تعليم البنت الجزائرية تعليما يعكس قيم وثقافة المجتمع الجزائري.
5- انتشار ظاهرة الزواج بالأجنبيات بين أوساط الشباب المثقف: حيث ظهرت خلال تلك الفترة ظاهرة الزواج بالأجنبيات، عند كثير من الشباب بحجة أن البنت الجزائرية لا تتلاءم ومكانتهم الاجتماعية كشباب مثقف ومتعلم، يبحث عن التي تتقاسم معه هذه الخاصية، ولقد تمخض على هذا النوع من الزّواج آثار كبيرة على ذلك الشباب، وصفها أحد المعاصرين لهذه الظاهرة بأن المرأة الأوروبية قد أصبحت اليوم في الجزائر مثلا- تقود خيال شبابنا الشعري واتجاهه في ذوق الجمال بل وربّما في مثله الأخلاقية، ولقد أصبحت تؤلف من حيث لا يشعر مآسيه الكبيرة أو الصغيرة التي تظهر في حياته اليومية، وهو الذي جعل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تدعو إلى ضرورة تعليم البنت الجزائرية، حتى لا تتمكن البنت الأجنبية من عقل شبابنا وهي بذلك تحقق هدفين اثنين أولهما أنها تعمل على تحقيق مكانتها الاجتماعية، وثانيهما أنها تعمل على حماية المجتمع من تأثير البنت الأجنبية على عقول الشباب.
6- مراعاة المصلحة الخاصة للأنثى: حيث أن هناك العديد من الأعمال الخاصة بجنس الأنثى تستوجب منها القيام بها والوقوف عليها، ولا يمكنها تحقيق ذلك إلا من خلال معرفتها، تجنبا للوقوع في الحرج كالأحكام الشرعية الخاصة، أو بعض الأمراض التي تصيب جنس الأنثى دون الذكر، وقد علّق ابن باديس على عمل إحدى الصحابيات وما كانت تقوم به من عمل بقوله (ويستتبع ذلك لزوم تهيئتهن لذلك بتعليمهن غير مختلطات بالرجال ما يحتجن إليه من القيام بعملهن). ویری رحمه الله أنه من واجب القدوة الحسنة بهذه الصحابيات (أن نشرك معنا نساءنا فيما نقوم به من مهام مصالحنا ليقمن بقسطهن مما يليق بهن في الحياة).
7- الوقوف في وجه دعوات التحرر التي انتشرت خلال تلك الفترة داخل الجزائر، وباقي المجتمعات العربية من أجل تحرير المرأة من التقاليد العربية الإسلامية والأخذ بالثقافة الغربية، حيث حظي هذا التيار بتشجيع طائفة من الكتاب الفرنسيين الذين حركتهم نزعتهم الاستعمارية لتسريب القيم، ولذلك كتب ابن باديس (إذا أردتم إصلاحها الحقيقي فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها قبل أن ترفعوا حجاب السّتر عن وجهها، فإنّ حجاب الجهل هو الذي أخّرها وأمّا حجاب الستر فإنّه ما ضرّها في زمان تقدمها، فقد بلغت بنات بغداد وبنات قرطبة وبنات بجاية مكانا عاليا في العلم وهن متحجبات، فليت شعري ما الذي يدعوكم اليوم إلى الكلام في كشف الوجوه قبل كل شيء).
ثانيا – أساليب جمعية العلماء في تعليم البنت الجزائرية :
نتيجة لتلك الدوافع والعوامل التي سبق ذكرها قامت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالاعتماد على مجموعة من الأساليب في دعوتها لتعليم المرأة الجزائرية نذكر منها:
1) كسر الأفكار الجامدة حول تعليم البنت داخل المجتمع: حيث أن ابن باديس رحمه الله، كان يدرك جيدا الخصائص الاجتماعية للبيئة الجزائرية بوصفه فاعلا فيها والدور الذي تلعبه منظومة القيم والمعايير في توجيه نشاطات الأفعال الاجتماعية لأفراد هذه البيئة، وإن أبرز الأفكار التي كانت تشكل منظومة القيم وتعمل من خلالها على تكبيل الحياة الاجتماعية هو موضوع المرأة بصفة عامة، الذي كان يمثل إحدى المحرمات الاجتماعية، وهذا طبعا يعود إلى خصائص البيئة العربية ذات الطابع الذكوري، فقيام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالجهر، بضرورة تعليم البنت الجزائرية مثل تحديا كبيرا من أجل تحطيم هذه العوائق الاجتماعية، ومن جملة الأساليب التي قام بها المصلحون من أجل الوصول إلى كسر هذه الحواجز ما يلي:
– مسارعة شيوخ الجمعية إلى ضم بناتهم إلى مدارس الجمعية، مثل الذي فعله الأستاذ العربي التبسي بإلحاق بنته بمدرسة التهذيب بمدينة تبسة.
– قيام الجمعية بفتح مدارس للذكور ثمّ إتباعها بملحقات للإناث بعد تقبل المجتمع للفكرة ومراعاة لقوانين التدرج.
– التصدي لدعوات منع تعليم المرأة وإبطالها بالدليل والحجة العلمية، مثل الذي فعله ابن باديس رحمه الله عندما أراد أحدهم أن يستدل بحديث موضوع على منع تعليم البنت، فردّ عليه تحت عنوان “خط تحذير” بين فيه أن راوي الحديث كذاب وذكر أنه كثيرا ما تكون هذه الأخبار الدائرة على الألسنة باطلة في نفسها معارضة لما صح في غيرها فيجب الحذر منها.
– السماح للنّساء بحضور دروس المساجد من أجل إذابة الحواجز النفسية حول تعليم المرأة.
2) تذليل الصعوبات أمام الفتاة للالتحاق بالمدارس ومن ذلك جعل تعليم الإناث دون مقابل حتى لا يعتذر الآباء عن تعليم بناتهم بحجة عدم القدرة على القيام بتكاليفهم المادية، فجعلت الجمعية تعليم الإناث دون مقابل كما يبين رئيس الجمعية ذلك بقوله:(فأما البنون فلا يدفع منهم واجب التعليم إلاّ القادرون، وأما البنات فيتعلمن كلهن مجانا لتتكون منهن بإذن الله المرأة المسلمة المتعلمة)، وعندما تبرع أحد المحسنين بدار عظيمة لجمعية العلماء في مدينة المدية في حضرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي، قام الإمام بجعلها مدرسة خاصة بالإناث وألزم رجال المدينة باسم العلم أن ينهضوا لبناء مدرسة للذكور، وعلّق العلامة محمد الهادي الحسني على هذا الفعل بقوله:(إن الإمام الإبراهيمي وهو الأعلم بنفسية الشعب الجزائري والأخبر بطبعه تصرف كأبرع ما يكون التصرف، فلو جعل تلك الدار مدرسة للبنين والبنات لرفض بعض الناس في المدية إن لم يكونوا جميعا إرسال بناتهم إلى مدرسة مختلطة، ولو جعلها لبنين وطلب من الناس تأسيس مدرسة للبنات لما وجد لهم عزما ولقالوا في أنفسهم ما دمنا ضمنا مدرسة لأبنائنا فما حاجة البنات لعلمٍ ضرره أكثر من نفعه بالنسبة إليهن).
3) دعوة أفراد المجتمع إلى ضرورة إرسال بناتهم إلى مدارس الجمعية: فلقد كان شيوخ الجمعية ومنهم ابن باديس رحم الله، الذي كان يتصل شخصيا بالمواطنين أثناء جولاته في أنحاء الجزائر حاثا إيّاهم على إرسال بناتهم إلى مدرسة التربية والتعليم كما كان يطلب من زملائه المعلمين القيام بذلك.
4) أحدث الإمام ابن باديس دروسا للوعظ خاصة بالنساء بالجامع الأخضر، عرفت إقبالا كبيراً حتى اكتظ المسجد بهن، وكانت هذه الدروس تتناول واجبات المرأة المسلمة نحو بيتها وأولادها وزوجها، ونحو دينها ووطنها.
5) العمل على تمكين البنت الجزائرية من مواصلة تعليمها العالي: إذ لم تكتف الجمعية بحصر تعليم البنت الجزائرية في مستوى التعليم الابتدائي فقط، وإنما سعت إلى تمكينها من التعليم المتخصص حتى تتسع دائرة خدمتها الاجتماعية أكثر، وتساهم هي الأخرى في نشر التعليم بين بنات جنسها بعد أن تتمكن من اكتساب المؤهلات العلمية التي تساعدها على ذلك، وفي ذلك وجه رئيس الجمعية الشيخ ابن باديس رحمه الله إلى مديرة مدرسة جمعية دوحة الأدب السورية رسالة يطلب منها قبول مجموعة من الطالبات في مدرستها ومما جاء فيها (يسرك يا سيدتي أن تعرفي أن بالجزائر نهضة أدبية تهذيبية، تستمد حياتها من العروبة والإسلام غايتها رفع مستوى الشعب العقلي والخلقي، ومن مؤسسات هذه النهضة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة ولما علمت إدارتها بجمعيتكم المباركة بما نشرته عنها مجلة “الرابطة العربية” رغبت أن أرسل بعض البنات ليتعلمن في مدرسة الجمعية).
ثالثا – نتائج جهود جمعية العلماء في تعليم البنت الجزائرية:
لقد بدأ تعليم البنات محتشما في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بعد شهور من إنشاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية ضمت فقط ثمانين فتاة جزائرية.
ومن هنا سارت الحركة الإصلاحية تهتم بتحرير العقول وتصحيح المفاهيم وإعادتها إلى نقائها ومسايرة تطوّر العصر، وقد كللت جهودها بالنجاح، وفي هذا الجو المعترف بالحقوق الأساسية للبنت، استقبلت المدارس الإصلاحية في كل عام أفواجا من البنين والبنات في مدرسة واحدة، تشمل على أقسام للبنين وأخرى للبنات وهكذا أصبحت معظم مدارس جمعية التراب الجزائري تضم القسمين، بلغ عددهن في سنة 1951 أكثر من نصف مجموع عدد الطلاب أي 5696 تلميذة مسجلة بانتظام في 125 مدرسة منتشرة عبر التراب الجزائري. وكان التدريس في البداية حصريا على المعلمين، ثم التحقت بهم المعلمات وهن الطالبات اللائي تخرجن بنجاح، وعينتهن الجمعية مدرسات في أقسام البنات وفتحت جمعية العلماء في الخمسينيات، بعد أن توفر طاقم التدريس بفضل تزايد عدد المعلمات، مدارس خاصة للبنات تقدم فيها دروسا علمية وأخرى تطبيقية في الفنون الأخرى، التي تحتاجها المرأة كالطبخ والخياطة والطرز وغيرها من الحرف الأخرى، وكان من أشهر هذه المدارس: مدرسة عائشة في تلمسان، ومدرسة تهذيب البنات في البليدة، ومدرسة شريفة الأعمال في الجزائر.
كما ساهمت المرأة الجزائرية في جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء، لقد كانت هذه الأصوات القليلة في هذه الجريدة والغائبة في الجرائد العربية الأخرى في الجزائر موجّهة إلى أختها الجزائرية في المقام الأول، لتلتحق بالمدارس الحرة للتعلم وتشارك في الحياة الإصلاحية في جوانبها المختلفة، وهي موجهة أيضا إلى كل المعارضين لتعليم المرأة الذين يؤسسون مواقفهم على فهم مغلوط للدين، وتمسك بعادات بالية لا صلة لها بسنن الحياة والرقي، لا شك أن سجل النساء في الحركة الإصلاحية بشكل خاص، وفي تاريخ الجزائر المعاصر بشكل عام حافل بالتضحيات والانجازات.
خاتمة :
بهذا المنهج الإصلاحي الفريد الذي زاوج بين الفهم العميق للمجتمع الجزائري، والتقدير الأمثل للإمكانيات المتاحة أمام المشروع التربوي والقدرة على توظيف هذه الإمكانيات، بما يخدم أهداف المشروع استطاعت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أن تضمن التعليم لكثير من بنات الجزائر، وأن تفتح لهنّ العديد من الأقسام والفصول الدراسية، وأن يتخرّج الكثير منهن معلمات ومديرات في مدارس الجمعية، وأن تستفيد منهن الجزائر بعد الاستقلال في معركتها مع البناء والتشييد في مختلف المراكز الاجتماعية، وقد تمكن بذلك من تبوء المناصب الإدارية العليا مثل الوزارات والجامعات، كما حدث مع السيدة زهور ونيسي وزيرة التربية السابقة وهي إحدى تلميذات مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي ذكرت بمناسبة تدخلها في الندوة المنظمة بمركز الشعب للدراسات الاستراتيجية، عن العلامة الإمام عبد الحميد ابن باديس، تحت عنوان “يوم العلم.. والهوية الوطنية”، مؤكدة أن ابن باديس لعب دورا عظيما في تعليم المرأة، وهو أول من فتح لها أبواب العلم والمعرفة، وأول معلمات في الجزائر تتلمذن على يده ويتعلق الأمر بكل من السيدات نعناعة بشكري، ونعيمة عمروش وحورية عربية رحمة الله عليهن بقسنطينة، كأول رائدات للتعليم بالجزائر.
* جامعة محمد الصديق بن يحي جيجل