معالجات إسلامية

في ذكرى حريق المسجد الأقصى المبارك

د. يوسف جمعة سلامة*/

 

أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّـمَ-، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى). هذا حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكّة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكّة والمدينة.

في مِثْلِ هذه الأيام قبل أربعة وخمسين عامًا تمّ إحراق المسجد الأقصى المبارك، حيث امتدت الأيدي المُجرمة إلى أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين بالنسبة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فقد تعرّض المسجد الأقصى المبارك للحريق المشؤوم في 21/8/1969م وأصبح منبر البطل صلاح الدين أثراً بعد عين، وأتت النّيران على مساحات شاسعة من المسجد القبلي، وما زالت النّيران تشتعل في المسجد الأقصى المبارك وتأخذ أشكالاً كثيرة، منها: نار الاقتحامات المُتكررة التي يقوم بها المستوطنون بقيادة كبار قادة الاحتلال الإسرائيلي ويتخلّلها تأدية طقوس تلمودية، وسجود مَلْحَمي، ورفع للأعلام، ونفخٍ للبوق، ونار فرض السيادة الإسرائيلية على الأقصى؛ تمهيداً لتنفيذ مُخطّطاتهم الإجرامية الرّّّّامية إلى التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى المبارك؛ بهدف إقامة ما يُسَمَّى بالهيكل المزعوم على أنقاضه لا سمح الله، ونار التّضييق على المُصلين والمُرابطين لمنعهم من الوصول إليه وإبعاد الشخصيات الدّينية والوطنية عنه؛ لتجفيف الوجود الإسلامي في المسجد الأقصى المبارك، ونار الحفريّات الإسرائيلية المُدَمِّرة والأنفاق المُتَعَدِّدَة التي تَسَبَّبَتْ في تقويض بُنيانه وزعزعة أركانه، ونار هدم بيوت المقدسيّين ومصادرة أملاكهم.
إِنَّ جميع المُحاولات التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لفرض أمرٍ واقعٍ في المسجد الأقصى لن تنجح إِنْ شاء الله في تغيير الحقائق وطمس المعالم.
أدركوا الأقصى والقدس قبل فوات الأوان إِنَّ ما يجري في مدينة القدس اليوم بحاجة إلى خُطوات فعلية، تُسهم في المُحافظة على عروبتها وإسلاميتها ودعم صمود أهلها، فمدينة القدس احْتُلَّت عبر التاريخ مرات عديدة، ولكنها لفظت المُحتلّين وستلفظ هذا المُحتلّ إن شاء الله، هذه المدينة المقدسة في أَمَسِّ الحاجة إلى أيِّ جُهْدٍ يُميِطُ اللِّثام عَمَّا يجري من أعمال بشعة بحقّها وتُراثها وأهلها.
وعلى الرّغم من مرور أربعة وخمسين عاماً على ذكرى إحراق المسجد الأقصى المبارك، فإنّه لا يزال يقف بِعزّة وشموخ وصمود وإباء في وجه مُحاولات التّهويد وتغيير الواقع القائم فيه منذ قرون عديدة بوصفه مسجداً إسلاميًّا خالصاً، حيث إنّه ملك للمسلمين وحدهم وليس لغير المسلمين حقٌّ فيه، ولا يقبل الشّراكة ولا التّقسيم.
إِنّ مسئولية الدفاع عن مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك والمُقدّسات ليست مسئولية الشّعب الفلسطيني وحده وإِنْ كان هو رأس الحربة في الذّود عنها وحمايتها، إِنّما هي مسئولية العرب والمسلمين جميعاً في العمل على المُحافظة على القدس والأقصى والمُقدّسات، وَمُسَاندة المقدسيّين المُرابطين والوقوف بجانبهم ودعم صُمودهم؛ للمحافظة على أرضهم ومُقَدّساتهم، خصوصاً في هذه الأيام التي تتعرّض فيها مدينة القدس والمسجد الأقصى المُبارك والمُقدّسات لمؤامرات خبيثة.

تحية لصمود أهلنا المقدسيين
إِنَّنا نُشيد بصمود أهلنا في القدس الذين يُؤكّدون في كلِّ يوم على تمسُّكهم بالمسجد الأقصى المبارك، وتعلّقهم به، ودفاعهم عنه، وتصدِّيهم الدّائم مع أشقائهم من فلسطينيي الداخل لِمُخَطَّطات سلطات الاحتلال الإسرائيليّ؛ لتهويده والاستيلاء عليه، فهذه الاعتداءات الإجرامية لن تزيد شعبنا إلا صمودًا وثباتًا وقوة وتمسُّكًا بحقوقه وأرضه ومُقدّساته، وبذلاً للغالي والنّفيس دفاعاً عنها.
إِنَّ هذه المواقف المُشرّفة للمقدسيّين هي صفحة مُشرقة تُضاف إلى الصفحات المُشرقة لنضالات شعبنا عبر التاريخ، فقد علّمت المحتل درساً بأنَّ إجراءاته الظّالمة لن تمرّ على شعبنا الفلسطيني ولن يُوافق عليها إطلاقا، فالمسجد الأقصى المبارك بساحاته وأروقته وكلّ جزء فيه سواء أكان فوق الأرض أم تحتها هو حقٌّ خالص للمسلمين وحدهم، وليس لغير المسلمين حقٌّ فيه، وأنّ مدينة القدس ستبقى إسلامية الوجه، عربية التاريخ، فلسطينية الهوية، ولن يسلبها الاحتلال وجهها وتاريخها وهويتها مهما أوغل في الإجرام وتزييف الحقائق.

الوحدة… طريق المحافظة على الأقصى والقدس والمقدسات
إِنّ شعبنا الفلسطيني يتطلّع إلى تحقيق الوحدة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، وفتح صفحة جديدة من الأُخوة والمَحَبَّة، فوحدة أبناء شعبنا فريضة شرعية وضرورة وطنية، فليس هناك بعد تقوى الله– عَزَّ وَجَلَّ- أنفع لنا من جمع الشمل ورصّ الصفوف، وليس هناك أشدّ ضرراً علينا من الفُرقة والاختلاف، حيث إِنّ الاحتلال الإسرائيلي لا يُفَرِّق بين أبناء شعبنا المُرابط، فالجميع مُسْتَهدف من قبل المُحتلين.
لذا فإنّ الواجب علينا أن نُوَحِّد كلمتنا، ونرصَّ صفوفنا؛ لنستعيد وحدتنا التي فيها سِرُّ قوتنا وعزّتنا وكرامتنا، ونتصدَّى جميعاً للهجمة الإجرامية على مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، فالقدس لم تُحَرَّر عبر التّاريخ إلا بالوحدة، ولن تُحَرّر إلا بالوحدة، فإذا كُنّا مُوَحَّدين فإِنَّ جميع المؤامرات ضدّ شعبنا ومُقدّساتنا سيكون مصيرها الفشل بإذن الله سبحانه وتعالى.

المسجد الأقصى … مسجد إسلامي إلى يوم القيامة
لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام بمكّة المُكرّمة والمسجد الأقصى بالقدس في الآية الأولى من سورة الإسراء، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، وذلك حتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين، ولا يُفَرِّط في أحدهما، فإِنَّه إذا فَرَّطَ في أحدهما أوشك أن يُفَرِّط في الآخر، فرحاب القدس الشريف مثل رحاب مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة.
والأقصى: اسمٌ للمسجد كلّه الذي تبلغ مساحته (144) دونمًا بساحاته وأروقته وقبابه ومصاطبه وأسواره، وكلّ جزء فيه سواء كان فوق الأرض أم تحتها هو حقٌّ خالصٌ للمسلمين وحدهم.
إِنَّ المسجد الأقصى المبارك هو ثاني مسجدٍ وُضِعَ لعبادة الله في الأرض، فارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى المبارك ارتباط عَقَدِيّ وليس ارتباطاً انفعاليًّا عابراً، ولا موسميًّا مُؤقّتاً، فهو مسرى نبيّنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم – حيث صَلَّى فيه رسولنا الأكرم – صلّى الله عليه وسلّم – إماماً بإخوانه الأنبياء والمرسلين –عليهم الصّلاة والسّلام- في ليلة الإسراء والمعراج، وهو أحد المساجد الثّلاثة التي تُشَدّ إليها الرِّحَال، كما أَنَّ للمسجد الأقصى المبارك مكانة عظيمة في قلوب المسلمين، وتعميقاً لقيمته في قلوبهم ضاعف الله سبحانه وتعالى أجر الصلاة فيه.
ومن الجدير بالذكر أنَّ العرب والمسلمين قد أولوا المسجد الأقصى المبارك والمدينة المُقدّسة عناية كبيرة عبر التاريخ، فالرّسول -عليه الصّلاة والسّلام- لم يخرج من الجزيرة العربية إلا إلى القدس في رحلة الإسراء والمعراج، كما أنّ سيّدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي فُتحت في عهده مصر ودمشق وبغداد، لم يذهب لاستلام مفاتيح أيّة عاصمة، وإنّما جاء إلى القدس في إشارةٍ منه إلى مكانة هذه المدينة في عقيدة الأُمّة، كما جاءها مئات الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين-.
فبيت المقدس سيبقى إِنْ شاء الله حِصْناً للإسلام والمسلمين إلى يوم القيامة على الرَّغم من المِحَن التي تعصف بالأُمّة، كما أنَّ الطّائفة التي لا تزال على الحقِّ هي في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، كما جاء في الحديث الشّريف عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ، لِعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، إِلاَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأَوَاءَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ).
ومن المعلوم أَنَّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – قد رَغَّبَ في السُّكْنى والمرابطة في هذه البلاد المباركة الطيبة، فبيت المقدس ثغرٌ من ثغور الإسلام، وللإقامة والرّباط فيه أجرٌ كبير، ولعدم مُغادرته والهجرة منه ثواب عظيم، وهذه كلّها من ثمار بركة بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أَنْ يحفظ شعبنا وأُمّتنا والأقصى والقدس والمقدّسات من كلّ سوء وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com