دروس الجمعة للشيخ الإمام العلّامة الحبيب فارس
البدر فارس/
كان الشيخ الإمام العلاَّمة الحبيب فارس رحمه الله ذا شخصية علمية متميزة، وكان كذلك مثال الداعية المتكامل، جمع علومًا شرعية شتى من تفسير وفقه، وسيرة وأصول ولغة وتاريخ وعلوم حديثة، فهو من العلماء العاملين الذين نذروا أنفسهم لخدمة الإسلام وتربية الشباب على العقيدة الصحيحة.
فحينما نستمع لدروسه، فإننا نستلهم منها ثمرات طيبة وجواهر نادرة، قد لا نجدها في أي قطر من الأقطار. ولا أبالغ فأقول أن الشيخ هو جوهرة نادرة، قلما أُنتجت في بلادنا الواسعة، أُجتثت من فوق الأرض ووُجِدت في صحراء قاحلة، لا يعرف قيمتها ولا حقيقتها إلا الله والراسخون في العلم.
وكان الشيخ يلقي دروسه ارتجاليًّا، دون تلعثم أو تردد أو إعمال فكر طويل، كأنهُ يقرأ من كتاب مفتوح بين يديه، وما كان ذلك ليحصل لولا رسوخ في العلم عنده، وقوة في الحافظة، وسعة في الاطلاع وتحضير الدرس، وهذا بفضل الله تعالى أولا، ثم ما بذله الشيخ رحمه الله من جهد دؤوب في تحصيل العلم سنين عديدة وأوقات طويلة بحثا ومُراجعة وسهرًا وانكبابًا على الكتب والمُصنفات والمراجع في شتى الميادين العلمية المختلفة، فقد تجشم الصعاب في جمع هذه الدروس العلمية والفوائد الجنية التي يقدمها في دروس الجمعة.
وكان الشيخ يُعمل فكره، ويجهد عقله في إطار النصوص الشرعية اجتهادًا وتفقهًا منه قصد استنباط كثير من الحكم والفوائد العلمية، ثم يسوقها بأسلوبه المعهود أثناء دروس الجمعة، ويعزو ما يقول من أدلة شرعية وأحكام فقهية إلى قائليها إبراءا للذمة وإخلاءا للعهدة كدأب أهل الحديث في ذكر السند أثناء نقل النصوص الشرعية، وكان يحث سامعيه على الاطلاع على الكتب ويحضهم على الانتفاع بها.
وكانت دروس الشيخ الجُمعية -عند سماعها- تخشع لها القلوب، وتشرئب إليها الأعناق، وتسعد بها النفوس، فلقد كانت بحق رحيقًا ترشفه نفوس السامعين في تلك الفترة العطرة، التي من الصعب أن تعود من جديد. فقد كانت دروسه مرآة صافية لعلمه، تنعكس عليها آمال المجتمع الإسلامي وآلامه، فهي بِضعة من نفسه، وجُزء من تفكيره، وقبضة زمنية من تاريخه الطويل المُشرف.
ومن هذه الدروس الجُمعية العديدة الشيِّقة التي ألقاها الشيخ في المسجد العتيق بتبسة، اخترنا لكم منها هذا الدرس الأول تحت عنوان: «الأمر بالتذكير»، آملين أن لا نطول بالقارئ في القراءة والغوص في بحرِ دروسه، إذ أنَّ الكثير من دروس الشيخ تصل مدتها حوالي ساعة من الوقت أو أكثر.
الدرس الأول: الأمر بالتَّذكير
المسجد العتيق بتبسَّة، في: 15 ذي الحجة 1400هـ، الموافق لـ: 24 أكتوبر 1980م.
أعوذ بالله السَّميع العليم من الشيطان الرَّجيم، بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعـد:
أيها الإخوة إنَّ الله -عز وجل- أمر رسوله أن يذكِّر النَّاس بالقرآن؛ حيث قال له: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}[ق/45]. وأمره أن يذكِّر الناس بأيَّام الله -أي بحوادث الزمان والمكان-، كما أمره أن يذكِّر الناس بعظمة الله وقدرته على كل شيء، وبقدرته المطلقة من كل قيد، وبألوهيته، وربوبيته وحاكميته في كل شيء، كما أمره أن يذكِّر الناس بخصائص هذه الألوهية، من إماتة، وإحياء، ورزق، وإعزاز، وإذلال، وغنى، وفقر، وصحة، ومرض، ونصر، وهزيمة، أمره أن يُذَكِّرَ الناسَ بهذه الأشياء، كما أمره أن يذكِّر الناس بحوادث وتاريخ الأمم الماضية، وما أصابها من عزٍّ وهوان ومن نعيم وبلاء وقحط، أمره بذلك، ونحن أيضا مأمورون جميعا أن نذكر بعضنا بعضا بما أمر الله نبيه من تذكير الناس، قال تعالى لنبيه: {وذكِّر فإنَّ الذِّكر تنفع المؤمنين} [الذَّاريات/55]. أي ذكَِّرهم -يا محمَّد- بالأشياء التي ذكَرنَاها سابقاً، فإن تذكيرك إيَّاهم ينفع ويُفيدُ ويصلح، ويقوِّم انحراف المنحرفين وفساد الفاسدين، ويوقظ النائمين، ويحرِّك إحساس الغافلين، ويرجع التائهين إلى جادة الحق، فالذِّكرى تنفع المستقيم؛ فتزيدُهُ ثباتاً ورسوخاً وصبراً على الاستقامة، وتنفع الغافل والنائم فتوقظه إلى الحقيقة، وتنفع التائه الضال فتردُّه إلى الصِّراط المستقيم.
فمثلا تحدث حوادث، صواعق تنـزل أو زلازل تتحرك لها الأرض والجبال وتهوي لها القصور والمساكن أو فيضان المياه، أو سقوط أحجار من السماء، كل هذه الحوادث هي في ذاتها ذكرى وموعظة وعبرة، وقد أمر الله رسوله أن يذكِّر الناس بها، حيث قال له: {وذكِّرهم بأيَّام الله} [إبراهيم/05]. أي بحوادث الله، لكن هل هذه الذِّكرى تنفع كل الناس؟ كلا، إنما تنفع المصدقين بالغيب، وهذه حقيقة لا ينكرها عاقل.
فها أنتم مثلا ما زلتم على قرب عهد من الزلزال الواقع في الأصنام -مدينة الشلف حاليا- لا زال هذا الحادث قريبا ولا زال الناس يتحدثون عنه في المقاهي والطرقات والمساكن وفي الإذاعة والتلفزة والصحافة؛ لأن الحادث ما زال حيا، ما زال يتحرك لم تغطه الأيام بعد، فهل كل الناس الذين يتحدثون عنه منتفعون به أم فيهم من لا ينتفع؟ نعم، في الناس من انتفع بهذا الحادث وينتفع به في المستقبل، لأن هذا الحادث ذكَّرهم بعظمة الله وقدرة الله وتصريف الله، وأن أوامره بين حرفين الكاف والنون، كن فيكون، يقول تعـالى: {إنَّما أمرهُ إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ له كنْ فيكُون} [يس/82]. ها هو أراد لمدينة، مثـلا، كالأصنام -الشلف حاليا- وما جاورها أن تزُولَ في لحظات لا تستغرقُ بين الكاف والنون، قال لها كن فكانت، ولم يستطع شفيع أن يرُدَّها، ولا صديقٌ أو معين أن يمنعها، ولم يستطع مالٌ ولا أي قوّةٍ في هذا الكون غير قوة الله -عز وجل- أن تمنعها أو حتى تؤخِّرها لحظات، من الناس من يفهم هذا الفهم وينتفع به، فهو يرى أن حياته معلَّقة بيد الله، وأن ماله في خزائن الله، وأن عزته وكرامته وسعادته في يد الله لا في أيادي غيره، كل ما عدا الله هي صور وأشكال قد تزول في لحظات، فالذي يفكر هذا التفكير ينتفع بمثل هذا الحادث، فيستقيم على الحق، ويمتثل بصدق وإخلاص لأوامر الله ويبتعد بجدٍّ عن نواهيه؛ لأنه يرى في امتثال الأوامر واجتناب النواهي والاستقامة على طريق الله المستقيم هو سبيل السّعادة وسبيل الحياة والبقاء وسبيل الغنى والأمن والرخاء، أما ما عَدَاهُ فهي سُبل متفرقة لا تؤدي إلى الاطمئنان ولا إلى السعادة الحقيقية، سواء أكانت هذه السُّبل مالا أو أولادا أو وظائف أو مساكن أو غير ذلك، فينتفع من يفكر هذا التفكير أما غيره فلا حظ له في الانتفاع، فلذا يقول مثلا: هذا الحادث ظاهرة طبيعية أي قضية علمية.صحيح أن القرآن لا يعارض العلم، فهو مصيبٌ من جانب، فيقول الأرض التي نعيش عليها أي القشرة الأرضية هي فوق نار تلتهب الليل مع النهار، وقد تتسرب هذه النار في بعض الأحيان إلى بعض الأماكن العليا فتُحرِقُ الأحجارَ التي تليها، حتى تصل إلى القشرة العليا فتصبح غير مستقرة، وتتحرك الأرض وتتحرك الجبال فتنهدم البناءات، ويقول هذا هو الزلزال وهو أمرٌ طبيعي. لكن العلم لم يعرف لحد الآن متى يحدث الزلزال، أي تحديد وقت وقوعه، وهناك سؤالٌ آخر، لماذا يحدث الزلزال؟ العلماء الماديون يشرحون لك الظاهرة، لكن لا يجيبونك عن هذا السؤال، لكن المؤمن يقول هذه النار الملتهبة وغيرها هي من مخلوقات الله تعالى، فوحده خالقها والمتصرف فيها فهو المدبر وهو الحاكم وهو الخالق الذي يطغيها على من يشاء، فتقع الزلازل وتنهار الديار والجبال، ويزجرها ويمنع طغيانها فتلزم النار حدّها ولا تتجاوزه أبدا، فهو سبحانه المتصرف فيها وليست هي المتصرفة في نفسها.
فمثلا حين حطم سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أصنام سُكَّانِ العِراق -في ذلك الوقت- كما حطم أربابهم الذين يعبدون؛ ورجعوا من زينتهم وعيدهم، فوجدوا أربابهم محطمة، تساءلوا من فعل هذا، فقال قائل: لا يفعل هذا إلا فتى يقال له إبراهيم؛ فهو دائما يذكرهم بالشرِّ ويهددنا بتحطيمها، فقالت حكومتهم -في ذلك الوقت-: آتوا به مع حضور الناس لعلنا نلقى شاهدا يشهد عليه، فلما أتوا به سألوه: هل أنت الذي فعلت هذا بآلهتنا؟ قال لهم: لماذا تسألونني أنا مادامت هي آلهة؟ فهناك واحد منهم لم يتحطم كبيرهم فاسألوه، إذا كان إلها قادرا فهو الذي يجيبكم -قادراً على منفعتكم ومضرتكم- وأنتم تسجدون وتركعون وتتوسلون له، وتخافونه هو ولا تخافون مالكه وهو الله -عز وجل- قال لهم: اسألوه هو، قالوا: وهل يسمع، وهل يجيب حتى نسأله، قال لهم: يا عجبا!! كيف تعبدون وتخافون وتخضعون لمن لا يسمع ولا يتكلم ولا يعقل شيئا. وفي آخر الأمر لم يجدوا حجة، ورغم ذلك أصدرت المحكمة حكما بإعدام إبراهيم حرقاً بالنار، لقد استغرقوا أشهرا في جمع الحطب وبعد ذلك كسروه وأوقدوا فيه النيران، وأتوا بإبراهيم وربطوه ووضعوه في المنجنيق ورموه باتجاه النار.
كلنا يعرف أن النار تحرق، لكنها تحرق بإذن الله وبمشيئة الله وليس بمشيئتنا، عندما رموه في النار قال رب النار للنار: {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيمَ} [الأنبياء/69]. فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم فلم يحترق، وبقي القوم ينتظرون مدة أسابيع من بعيد حتى انخفضت الحرارة وانطفأت النيران نهائيا فتفاجئوا برؤية إبراهيم على قيد الحياة لم يصبه سوء أو مكروه. إذن النار جند من جنود الله قال لها: (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) فكانت بردا وسلاما من بعد أن كانت حرا وجحيما.
و يحدثنا القرآن عن المشركين الذين ماتوا في غزوة بدر بأيدي المجاهدين المؤمنين في الظاهر، والحفنة من التراب المختلطة بالحصباء التي رماها رسول الله في وجوه المشركين في غزوة بدر، فالله يقول: {فلمْ تقتلوهُم ولكنَّ اللهَ قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمَى} [الأنفال/17]. هذا في الأشياء المرئية والملموسة المحسوسة، فإن الله تعالى هو الذي تدخل بقدرته وإرادته فقتل من قتل وأوصل التراب والحصباء إلى أعين من أوصل. فالمؤمن إذن، يرى أن هذا الكون هو ملك لله وجند من جنوده، يطغيه الله على من يشاء ويلزمه حده ومكانه عمن يشاء، فالنار الملتهبة تحت هذه القشرة يطغيها الله فتنفجر معها الأرض والجبال والديار على من يشاء ويجعلها في حدّها لا تتجاوزه عندما يشاء، ومياه البحار مثل الطوفان والصواعق…الخ هي كلها مثل ذلك، قال تعالى: {ولله جنودُ السَّمواتِ والأرضِ وكانَ الله عزيزاً حكيماً} [الفتح/7]. ويقول: {وما يعلمُ جنودَ ربِّكَ إلاَّ هوَ} [المدثر/31]. ومن هنا فإن المؤمن بالغيب ينتفع بهذه الحوادث، أما غير المؤمن فلا ينتفع.
يبقى سؤال، وهو: لماذا الله يطلق جنوده الكونية من نار وماء ورياح وصواعق وإنس وجن وملائكة وحيوانات وحشرات وغيرها؟ لماذا يطلقها في أوقات ويمسكها في أوقات؟ فالله لا يُسألُ عما يفعَلُ ويفعَلُ ما يشاء، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكـن.
(وذكِّر فإنَّ الذِّكرى تنفع المؤمنين)، فالله عندما أمرنا بذلك قصَّ علينا الآثار والحوادث التي حصلت في الأمم الماضية، أي في التاريخ، عن الشَّيطان وعن آدم وعن النبيِّين وعن أصحاب الكهف، وأصحاب السَّبت -وهم اليهود- وغير ذلك من القصص التي هي ذكرى وعبرة، نترك الحديث عنها إلى الجمعة الآتية -إن شاء الله- والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.